علي مقهي الحالمون بالغد
“عظماء صنعوا الوجدان”
إنتهيت تقريبا من كتابي الجديد ” دعوة للتفكير” وستنشره الدار المصرية اللبنانية وقدمته قائلاً :
أنا من المؤمنين أن ما لا يُوَثق ، لم يوجد ، لذلك قررت أن أسجل أفكاري و حواراتي مع الشباب والأصدقاء عسى أن ينتفع بها غيري أو أن تكون شمعة تضئ طريقاً.
السمة الرئيسية لهذا الكتاب هي محاولة تنوير العقل ، والأخذ بما يمليه مع احترام قيمة القلب والوجدان.
ستجدون الكثير من مناجاة لله ، أمام العديد من مناقشة تحديات العقل للثوابت والتفسيرات الدينية التي قد يعتبرها البعض خروجاً عن المألوف.
بعض المقالات تنويرية ، وبعض الحوارات تنقل شكوك الشباب وقلقهم وهذا ما أشجعه فيهم بلا حرج ولا خوف، حيث يستطيعون معي الخروج عن المألوف ، بل الشكوى والأنين من جيلنا .
يشتمل بحثي في التنوير على مجموعة من الأفكار التي تركز على سيادة العقل ، باعتباره وعاء المعرفة، والمُثل العليا ، كالحرية والتسامح والاخاء واحترام حقوق الإنسان ، وفصل مؤسسات الدين عن الإدارة السياسية. وتشير هذه الفصول إلى ابن رشد و سبينوزا ، ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وزكي نجيب محمود وغيرهم من رواد التنوير”.
و أقول في المقدمة ” أنهيت الكتاب بحوارات الشباب وأسرهم والأصدقاء، حول القيم الإنسانية الواجب إرسائها في النفوس وإدماجها في التعليم..
كان الشباب في هذا الحوار رائعاً وحاداً أحياناً، وهي سمة هذه الفئة العمرية التي علينا أن نستوعبها ونتعلم منها.
وأنهيت المقدمة بما قاله الإمام علي بن أبي طالب ، وهو أحد رواد الفكر الذين أثّروا في أفكاري و استنفروا مداركي للبحث عن الحقيقة ، حيث قال:
“لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم فلقد خُلِقوا لزمان غير زمانكم “
قال شاب من الحالمين: نحن مشتاقين للقراءه معك ، ولكن لمن ستهدي الكتاب؟
قلت: أهدي هذا الكتاب الي من كانوا مصادر إلهامي، ولهم الفضل في نسج وجداني وهم:
الإمام علي بن أبي طالب، والأساتذة عباس العقاد، والشيخ محمد عبده ،و زكي نجيب محمود، و خالد محمد خالد ، وجبران خليل جبران ، وإحسان عبد القدوس.
بعضهم قرأت له فقط فترك علامة وأثر ، ومنهم من قابلته ونهلت من علمه ومنهم من صادقته فزادني عمقاً وفتح أمامي سماءاً لأري نور المعرفة وجمال تنوير العقل.
قالت شابة من الحالمات: ولماذا هؤلاء بالذات وكيف أثروا في تفكيرك؟
قلت: سأبدأ بالإمام والأستاذ ثم نكمل الحوار حول الآخرين في مقال قادم .
كنت قد قرأت وأنا في سن مبكرة ، حلقات كان يكتبها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي من كتابه
” علي إمام المتقين ” وانبهرت بعقل وقدرات الإمام علي بن أبي طالب، فبحثت عنه وقرأت له فزاد تأثري بعبقريته وتداخلت حِكَمه في صنع وجداني من الصغر.
قرأت نهج البلاغة ، وأعدت قراءة “عبقرية الإمام ” للاستاذ العقاد، وكان علياً ، يا شباب، باب مدينة العلم كما قال عنه رسول الله وكان قاضي القضاة وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره. وهو القائل عندما سأله الناس أن يصف لهم الله عز وجل:
“من وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، و من قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه، كائن لاعن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، و غير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه”
هذا فيلسوف ، وعبقري وحِكمته أبهرتني إبهاراً عندما يقول :
“ينبّئ عن عقل كل امرءٍ لسانه، ويدلّ على فضله بيانه”
ويقول “إيّاك ومصادقة الأحمق.. فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك”
ويقول “أفضل النّاس أنفعهم للنّاس؛.
وأتذكر دائما ما أثر في وجداني قوله ” العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال”.
“لا يكون الصّديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته”.
وعندما يقول “العقل أن تقول ما تعرف وتعمل ممّا تنطق به”
وحكمته العظيمة عندما يقول “ما أكثر العبر وأقل الاعتبار”
وأردد عنه دائماً مقولته العبقرية “كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع”
الإمام علي شخصية مبهره في علمه وتقواه وقوته في الحق وهو الذي قال فيه رسول الله في نهاية حجة الوداع فيما لا يختلف فيه أهل السنة و كل الصحابة
” من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني” ثم قال :
“من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيثما دار ، اللهم هل بلغت “
الإمام علي كان شخصية استثنائية في التاريخ ، وأثارت حكمته في نفسي الرغبة في المعرفة والتعلم والإلتزام.
قال شاب من الحالمين : ولماذا الأستاذ العقاد كما تحب أن تناديه؟
قلت: لأنه كان مُلهما لي بقوته في الحق واعتداده بكرامته ، وأسلوبه القوي ومعرفته الموسوعية وهو الذي لم يكمل في تعليمه الا المرحلة الابتدائية..
الاستاذ كان صاحب فكر ومواقف، لغته العربية شامخة ، وحجته عاتية وقدراته العقلية شاملة وعلم نفسه بنفسه.
كنت قد قرأت العبقريات وأنا في المرحلة الثانوية ولكني توسعت بعد ذلك وتأثرت بالذات بكتبه:” إبن رشد” و “حياة المسيح” و “عبقرية الإمام” و “الحكم المطلق في القرن العشرين” و
” الديمقراطية في الاسلام و “الله ” و “حياة قلم “و ؛ساعات بين الكتب ” و ” التفكير فريضة إسلامية”
وكما كان أديبًا عظيما كان شاعرا متفرداً ، وكنت قد قرأت له قصيدة ترجمة شيطان ، وانبهرت بدمجه الفكر الفلسفي في الشعر بهذه العبقريه..
، وبعدها تعرفت علي رومانسيته في الشعر ، وكأن هذا الجبل القوي وراءه نفسا حساسة وقد جعلني ذلك منفتحا علي تزاوج القوة مع اللين ، والحدة مع المحبة ، والحكمة مع البساطة عندما يقول:
“الناس تغيظهم المزايا التي تنفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا… إنهم يكرهون منك ما يصغرهم، لا ما يصغرك”
ويقول” لا تحسدن غنياً في تنعمه فقد يكثر المال مقروناً به الكدر
تصفو العيون إن قلت مواردها ، والنيل عند إزدياد الماء يعتكر”
وعندما أهدته حبيبته بلوفر تريكو ، نسجته بيديها قال مقطوعة شعرية جميلة أتذكرها حتي الآن :
“ألم أنا منك فكرة في كل شكة إبرة؟
وكل عقدة خيط وكل جرة بكرة
هنا مكان صدارة هنا هنا في جوارك
والقلب فيه أسير مطوق بحصارك “
كانت كتاباته الأدبية “فيض العقول”… وكانت قصائده عملا عقلانيا صارما في بنائها الذي يكبح الوجدان ولا يطلق سراحه ليفيض على اللغة بلا ضابط أو إحكام، وكانت صفة الفيلسوف فيه ممتزجة بصفة الشاعر، فهو مبدع يفكر حين ينفعل، ويجعل انفعاله موضوعا لفكره، وهو يشعر بفكره ويجعل من شعره ميدانا للتأمل والتفكير في الحياة والأحياء كما وصفه د. جابر عصفور
واستلهم د. زكي نجيب محفوظ في قوله : إن شعر العقاد هو البصر الموحي إلى البصيرة، والحس المحرك لقوة الخيال، والمحدود الذي ينتهي إلى اللامحدود، هذا هو شعر العقاد.
شعر العقاد أقرب شيء إلى فن العمارة والنحت، فالقصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى هرم الجيزة أو معبد الكرنك منها إلى الزهرة أو جدول الماء، وتلك صفة الفن المصري الخالدة، فلو عرفت أن مصر قد تميزت في عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة عرفت أن في شعر العقاد الصلب القوي المتين جانبا يتصل اتصالا مباشرا بجذور الفن الأصيل في مصر»
هذا العملاق الحساس كان ملهماً لي سياسياً فقد من كبار المدافعين عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، فدخل في معارك حامية مع القصر الملكي، واُنْتخب عضوًا بمجلس النواب و سجُن بعد ذلك لمدة تسعة أشهر عام 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية ، فحينما أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، ارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الاشهاد من أعضائه قائلًا: «إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه».
و تسألوني لماذا تأثرت بالإمام و بالأستاذ !!!!!
ونستكمل في الحوار القادم لماذا أهدي كتابي للعظماء المذكورين في بداية المقال.