الجمعة , 20 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / عظماء صنعوا الوجدان 2

عظماء صنعوا الوجدان 2

علي مقهي “الحالمون بالغد”
عظماء صنعوا الوجدان
(2)
بريشتي
ثالث من أهدي إليهم كتابي ” دعوة للتفكير ” هو الأستاذ خالد محمد خالد. كانت علاقتي به استثنائية، فقد كنا أصدقاء رغم فارق 31 سنة في العمر.. كنت في الخامسة والثلاثين وهو قرب السبعين من عمره عندما التقينا وكنت قد قرأت له كتب “أزمة الحرية في العالم”و ” الديمقراطية أبداً” و “مواطنون لا رعايا ” و” رجال حول الرسول” . وازدادت معرفتي به لتكرار زيارته لمستشفى النيل بدراوي ، التي كنت أملكها وأسرتي ، للعلاج والنقاهة ، فكان يتاح لنا الوقت للحوار الذي كان يزيدني معرفة بالحياة ويضيف الي وجداني ويؤثر فيه.
ثم كان يدعوني الي منزله مع حماي حسن أبو باشا وزير الداخلية الأسبق والشيخ طنطاوي مفتي الديار ثم شيخ الجامع الأزهر بعد ذلك ، وبعضاً من اصدقائه في حوارات كنت أنا فيها الشاب الذي يتعلم ويصغي أكثر مما يتكلم.
بعد وفاته جائني إبنه بكل كتبه وآخرها كتاب ” قصتي مع الحياة” كما أوصاه والده. وفي كتابه الأخير تكلم عن أصدقاءه ، وشرفني أن أكون واحداً منهم . ولقد أثرت فيي جداً مقولة كان يقولها لي ، جعلتني أكتشف شيئاً في نفسي و أتمسك به و أنميه حتي يومنا هذا، وقد صاغ ما كان يقوله لي ولمن حوالي ذلك في كتابه قائلاً :
“الدكتور حسام بدراوي هو طبيب باهر وميمون، يمنح جواز المرور لكل قادم الي الحياة من النطف والأرحام. كما أنه يدير مستشفاه القائم علي ضفاف النيل الخالد بكفاءة ممتازة ، ثم هو إنسان ، عذب الروح، نقي السريرة، عف اللسان، يُذَكِر الناس بخير ما فيهم، ويشيد بفضل ذوي الفضل فيهم” .
هذه الجملة كان يكررها لي وللآخرين ، وكأنه كان يضئ نوراً بداخلي لأري سريرتي بعينيه ، فحاولت طول حياتي أن أرتفع لمستوي ظنه بي ، وأن أكون دائما هذا الإنسان الذي كان يراه الأستاذ خالد ، فتأصلت الصفة ، وأصبحت واحدة من صفاتي اللاشعورية.
ولأني فعلاً أري في الناس أفضل ما فيهم ، وأري الجمال في كل ما حولي ، فقد تعمق في داخلي إحساس دائم بالتفائل ، وحسن الظن بالآخرين ، وهو منهج تربوي له أصوله مع الأطفال والكبار ويشجعهم أن يرتفعوا لمستوي ظن الآخرين بهم.
نعم كان تأثير خالد محمد خالد عميقا في تركيبتي الانسانية لأنه دفعني أيضاً لأرتفع لمستوي ما أدعو اليه من قيم ومبادئ .
كان الأستاذ خالد محمد خالد كاتباً مصرياً معاصراً ذا أسلوب رفيع المستوي ، إلا أنه كان أيضا سياسياً و شجاعاً في رأيه ومواقفه، وتأثرت سياسياً بحواره أمام الجماهير مع الرئيس عبد الناصر في جلسات الإعداد للحوار العام حول الميثاق، وهو الوثيقة التي كان يعدها عبد الناصر ورجاله للعقد الاجتماعي للأمة في أوائل الستينات.. فلتقرأوا ، و لتتعلموا كما تعلمت..
ماذا فعل الكاتب عندما وجد نفسه فى مواجهة مع زعيم مثل جمال عبدالناصر؟ وأمام جمهور غفير يؤيد الزعيم أو على الأقل لا يجرؤ أن يعارضه. فى مثل هذه اللحظات يعتصم الناس عادة بفضيلة الصمت، لكن رجلاً واحداً هو خالد محمد خالد وقف بكل ثبات وإيمان يعارض الرئيس عبدالناصر ويرد عليه الحجة بالحجة فى حوار من أقوى الحوارات وأندرها بين زعيم ومواطن، أمام جمهور كبير من رجال الدولة ، والحاضرون كلهم يحبسون الأنفاس من جرأة الكاتب الذى يواجه حاكما بحجم وجبروت عبدالناصر.
جرت وقائع المواجهة أمام اللجنة التحضيرية للقوى الشعبية فى نوفمبر 1961 تلك التى اجتمعت لمناقشة طلب الرئيس عبدالناصر بالعزل السياسى للعديد من القوى الاجتماعية التى رأى عبدالناصر أنها كانت السبب فى فشل الوحدة مع سوريا، وكان السادات هو أمين عام هذا المؤتمر.
فى بداية الاجتماع قام أحد المتحدثين المزايدين ،ومثلهم كثيرين حتي اليوم ،وقال عزل إيه يا ريس .. دول عايزين مشانق!
فقام خالد محمد خالد وقال بكل شجاعة: لا يجب أبداً أن ترتجف الثورة من عائلة أو عائلتين ولا من معارض أو عشرات المعارضين . فلنتق الله ما استطعنا فى أداء هذه المسئولية، اننى أعلم أنه قبل الثورة كانت ثمة حياة سياسية تنطوى على كثير من الفساد ولكنى أعلم أيضا أنها كانت تنطوى على كثير من العمل الجاد. أنا ابن هذا الشعب، وثورة يوليو وليدة هذا الشعب، وليدة ماضيه وكفاحه، وليدة أخطائه وصوابه. إننى أهدم الشعب و أطعنه من الخلف حين أجرده من كل ميزة سياسية قبل الثورة.. أبداً.. كان لى آباء افتخر بهم.
وهنا قام الرئيس عبدالناصر وقال: الثورة الاجتماعية لم يكتب لها النجاح، وهى فى أول الطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق بين الطبقات و لابد أن نؤمن ظهرنا من أعداء الشعب الذين لا مصلحة لهم فى هذه الثورة.
فقام خالد محمد خالد وقال: كنت أريد أن أتحدث مثلما تحدث الرئيس ولكن صدقونى ليس فى صالح الشعب أن يتسلح بشعارات عنيفة، يجب أن نسلحه بطبيعته الطيبة الممتلئة باليقظة والوفاء والحب، إننى أؤمن بشعب مصر وليست لى أى مصلحة، فلست غنيا،و لقد كنت مخطئا حين طلبت الرحمة لمن نسميهم أعداء الشعب، أنا أطلب لهم العدل.
فرد جمال عبدالناصر قائلا: إن حرية الكلمة موجودة وبالنسبة لك أنت بالذات كانت موجودة وأنت تكتب فى الأهرام ولم يمنعك أحد. كنت أود أن أسمع من الأستاذ خالد محمد خالد إذا كان قال كلاما أو كتب كلاما ولم ينشر. كل الكتب التى ألفها نشرت وحرية الكلمة موجودة على أوسع مدى.
أعداؤنا يحاولون أن يظهرون أن لنا نظاما يخيف، والله ما أخفنا أحدا إلى الآن أبدا، لكن إذا كنت ذاهبا إلى معركة فعليك أن تطمئن على الجيش الذى سيقاتل.
نحن لم نظلم، حاكمنا البعض فمن هم الذين حاكمناهم؟
حاكمنا،الإخوان المسلمين.. نتكلم اذن على المفتوح ولماذا؟ هل حاكمناهم افتراءاً؟ أم لأنه كان يوجد لديهم جيش مسلح يُستخدم للانقضاض على هذا الشعب؟
الناس الذين عفونا عنهم عادوا ثانية للظهور لما علموا أن الأمريكان والإنجليز والاستعمار سيتدخل فى هذا البلد وينتهى النظام ويصبحون هم النظام الجديد.
فرد خالد محمد خالد: فى الحقيقة لا أنكر أنى شخصيا نعمت بحرية الكلمة فى عهد الثورة إلى أبعد آفاق الحرية. وأنا أقسم بالله غير حانث أن نصف شجاعتى خلال السنوات العشر فى التعبير عن آرائى جاءت من حسن ظنى بك. وإذا كنت أرجو لك مزيدا من الكمال السياسى كحاكم فلأنى أراك أهلا لهذا الكمال الذى أرجوه.. إننى إنسان عادى ومع ذلك أعتز بكلمتى، والشيء الذى يحز فى كبدى ونفسى أن خصومك وخصومنا يجدون حجة واحدة هى قولهم أين البرلمان؟ أين الدستور؟ أين المعارضة؟ إنى أريد أن أجيبهم على هذه الحجة ولا أجد إجابة.
ورد عبد الناصر: الدولة التى يسمونها دولة ديمقراطية سواء تبادلها هذا الحزب أو ذاك هى عبارة عن ديكتاتورية رأس المال. ونحن فى ثورة ضد الرجعيين ضد الاستغلال وضد النظام الطبقى الذى كان موجودا.
فقال خالد محمد خالد بكل شجاعة: تساءل الرئيس عن الديمقراطية وبين لنا مفهومه عنها.. وأود ونحن نستعرض ذلك ألا ندين الديمقراطية.
الديمقراطية بسيطة، أن يكون الشعب قادرا على اختيار حكامه ، وأن يغيرهم بالاقتراع الحر المباشر. وأنا لا أبالغ حين أقول إننا إذا أضعنا على الشعب فرصته الكاملة فى أن يمارس الديمقراطية فإننا نحرمه فرصة العمر، فالسبيل الأمثل هو أن نسير بهذا الشعب فى تحول لا فى ثورة ، وفى تطور لا فى طفرة، ولا داعى لأن نخاف أو نخيف المجتمع.
فرد عبد الناصر: أنت فى كتبك تقول إننا نكافح للقضاء على الاستغلال السياسى والاجتماعى فهل مكنتنا الديمقراطية التى تتكلم عنها من القضاء على ذلك قبل الثورة ؟؟.
كانت هذه أبرز النقاط التى دارت فى الحوار الرائع والجريء بين الكاتب الحر ورئيس الجمهورية.
وعندما جاءت لحظة التصويت قال السادات: المعارض يقف، (بدلا من الموافق يرفع يده كما هى العادة) ، فوقف خالد محمد خالد وحده، وتلفت حوله فلم يجد معه أى أحد بعد أن امتلأت القاعة بالخوف والخائفين.
وتسألوني كيف كان لهذا الرجل هذا الأثر علي فكري ووجداني!!

التعليقات

التعليقات