الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / عظماء صنعوا الوجدان (3)

عظماء صنعوا الوجدان (3)

علي مقهي “الحالمون بالغد”
عظماء صنعوا الوجدان (3)
الشخصية الرابعة ( وليس ذلك ترتيبا لمدي التأثير ، ولكنه ترتيب صياغة ) فيمن أثروا في وجداني وأهديهم كتابي “دعوة للتفكير ” هو الأستاذ المبدع إحسان عبد القدوس.. ابن السيدة روز اليوسف المرأة التي نافست الرجال في مجتمع ذكوري النزعة ، و مُؤَسِسَة مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير، و والده الأستاذ محمد عبد القدوس الذي كان فناناً ومؤلفا غير تقليدي بكل معاني الكلمة من إبداع..
قابلت إحسان عبد القدوس في الغردقة في السنوات الثماني الأخيرة من حياته،حيث كان يستجم وكنت أنا وأسرتي نتمتع بهدوء وجمال المكان تكراراً ، فسمح الوقت لي أن اجالسه ، وأتحاور معه ، وأنهل من ثقافته ونشأت بيننا هذه العلاقة التي جعلتني أقرأ أكثر له وعنه بشغف أثر في نسيج وجداني.
قرأت مثلي مثل شباب آخرين روايات إحسان وشاهدت أفلام عظيمة تجسدها مثل “أنا حرة” و”لا تطفئ الشمس” و “بئر الحرمان “و “أنف وثلاث عيون ” و “الرصاصة لا تزال في جيبي” و ” أين عقلي ” والنظارة السوداء”و “الراقصة والسياسي” و “يا عزيزي كلنا لصوص”
ثم ” الخيط الرفيع ” وقبلهم لا أنام ” وبعدهم “العذراء والشعر الأبيض” و ” لن أعيش في جلباب أبي “
، وأخيراً “أنا لا أكذب ولكني أتجمل”
بعد ذلك أتاح لي الزمان أن أصادق ابنه محمد عبد القدوس في عام 95 أثناء التحضير لإنتخابات البرلمان وكنت ، ومحمد، قد رشحنا أنفسنا مستقلين في ذلك السباق وجمعنا سوياً أن أجهزة الدولة كانت تعمل ضدنا لأسباب مختلفة ، ولكن جمعنا الإحساس بالظلم ومعاناة المرور في الإجراءات التي يعقدها الأمن أمامنا في ذلك الحين…أنا لجرأتي في نزول الانتخابات في دائرة مهمة (قصر النيل ) مستقلا في عمر ٤٤ سنة ضد مرشح الحزب الوطني ومرشح حزب الوفد الموعود بالكرسي في إطار صفقة سياسية، وفوزي عليهما في الجولة الأولي كمفاجأة غير متوقعة، ومحمد عبد القدوس لكونه ميالاً لتيار الإسلام السياسي الاخواني ومشاغباته علي سلم نقابة الصحفيين.
المهم أن صداقتي الحميمة مع محمد رغم إختلاف ميولنا السياسية ، ثم بأحمد عبد القدوس ، ومتابعتي لصالون إحسان في روزاليوسف جعلتني أكثر قرباً ومعرفة بوالدهم عن طريقهم ،وكأن بداية معرفتي بالأستاذ إحسان في الغردقة عام 82 قد إمتدت بعد وفاته من خلال ولديه.
كُتْب إحسان عبد القدوس دروساً إجتماعية، يكشف من خلالها المجتمع المصري، ويجهر بما فيه، بشجاعة جعلت له أعداءاً يعارضونه علناً و قد يمنعون بناتهم من قراءة رواياته ، لجرأتها في تشريح الشخصيات في إطار روائي غير مسبوق..ولكنه وصل الي كل شرائح المجتمع رغماً عن ذلك..وقد كانت مصارحته لواقع الحياة وشجاعته في العرض الأدبي والفني هامة لي وفي تقديري لمعني النظر وراء الأحداث وأخذ العبر و الإعتبار..
هل كان أديبًا فقط ، لا؟
كان سياسياً من الدرجة الأولي….وصحفياً من طراز فريد وهو في سن الشباب وفي مقتبل العمر…
لم يخشي إحسان الصحفي الدوله عندما كشف قضية الأسلحة الفاسدة في حرب ٤٨…ولم يهاب سلطة أصدقائه الذين دعمهم في بداية ثورة ٥٢ ، وقال رأيه ، فاعتُِقل في السجن الحربي لجرأئته في إنتقاد مسار الثورة في بدايتها ، وكان ينادي قائد الثورة “چيمي” لحميمية العلاقة ، وبعد خروجه من السجن الحربي دعاه ناصر الي منزله لتطييب خاطره فناداه بسيادة الرئيس لإعلامه بذكاء بموقفه من الصديق الذي كان..
وأجئ الي مرحلة من حياته يبدو أنها هي التي وضعت علامة مؤكدة في وجداني وهي مجموعة مقالاته ، “علي مقهي الشارع السياسي”، والتي بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً وجدتني ألجأ الي فلسفتها ، بدون تفكير متعمد ، في التعبير عن آرائي السياسية والإجتماعية في مقالاتي “علي مقهي (الحالمون بالغد) ” التي انشرها منذ أكثر من سبع سنوات في المصري اليوم تأثراً بحوارات الفيلسوف سقراط مع تلاميذه وإحسان عبد القدوس في حواراته بين الشاب والعجوز.
دعوني آخذكم معي في جولة علي مقهي الشارع السياسي في نهاية السبعينيات لتعرفوا أثر إحسان وتأثيره.
يقول إحسان في مقدمة الكتاب الذي ضم هذه المقالات:
“جلسات المقهى السياسي ليست قصصاً، ولكنها أيضاً ليست حملات صحفية، ولا مجرد مقالات سياسية…ولكنها آراء أبعد من الأحداث، أي ليست متعلقة بالحدث نفسه، ولكنها متعلقة بالمبادئ العامة التي أؤمن بها، وبالمنطق الذي أفسر به هذه المبادئ…..فهي تصلح كتسجيل لرأي يعبر عن فكر هذا الجيل الذي عشنا فيه و نعبر عنه”.
إخترت من حواراته علي مقهي الشارع السياسي حوارين نُشروا عام 1979:
الأول:
“قال الشاب وهو يبتسم ساخراً: لقد عادوا يتحدثون عن حرية الصحافة كانهم يتحدثون عن محاولة الوصول إلى القمر!
قال العجوز في مرارة:
كل الذين يتحدثون عن حرية الصحافة أغبياء يفهمون حرية الصحافة على أنها حرية الرأى.
قال الشاب في دهشة: اليست هي حرية الرأى ؟
قال العجوز:
لا قطعاً هناك فرق كبير بين حرية الرأى وحرية النشر. إنك الآن وأنت جالس على المقهي حر في أن تقول رأيك : ولكن لكي تنشر رأيك فأنت في حاجة إلى أداة للنشر .. والصحافة ليست إلا مجرد أداة للنشر. فإذا قلنا حرية الصحافة فالمعني الصحيح لهذه الحرية هي حرية أصحاب الصحف .. لا حرية الكاتب ولا حرية الصحفى ولا حرية إبداء الرأى ، ولكنها حرية صاحب الصحيفة وحده.
قال الشاب: ولكن رؤساء التحرير هم الذين يسيطرون على ما ينشر. ويستطيعون توفير حرية الرأى.
قال العجوز: أبداً .. إن رئيس التحرير مجرد موظف عند صاحب الصحيفة، هو الذى يختاره ويعينه وهو الذى يعزله ، ومهمة رئيس التحرير في العالم كله هي تنفيذ أوامر صاحب الصحيفة والتعبير عن اتجاهه السياسي أو الاجتماعي ..
قال الشاب: وكيف يستطيع صاحب الرأى أن يضمن نشر رأيه ؟
قال العجوز: أن يختار بين أصحاب الصحف ، وإذا وجد من يتفق مع رأيه ومع اتجاهه السياسي نشر في صحيفته.
قال الشاب:
وكيف نختار بين أصحاب الصحف في مصر؟
قال العجوز:
كل الصحف المصرية ليس لها إلا صاحب واحد ..
قال الشاب المتفائل:
هناك المجلس الأعلى للصحافة .. لا شك أنه قوة يمكن أن تحقق حرية الصحافة
قال العجوز البائس:
إنه أيضا مجلس مظهرى !. ومنذ وجد لم يتخذ ولم يبحث أی وضع خاص بحرية الصحافة.
أمسك أعصابك ، واستعمل مخك ..إن الفرق بين الصحف المصرية والصحف الفرنسية مثلا أو الأمريكية هو الفرق في نظم الحكم !. وقبل أن تصل .إلى أى قرار خاص بحرية التعبير يجب أن تحدد كيف تُحكم مصر؟
—————————————
الحوار الثاني يعود الأستاذ إحسان كاتباً:
“قال الشاب في هدوء وتواضع وكأنه يعترف بأستاذه العجوز :
لقد كنت ثائراً ضدي في لقاء الأسبوع الماضي وقلت في ثورتك إننا نعيش مرحلة إستعمار إقتصادی .. ماذا كنت تقصد ؟ لابد أن هناك ما أوحى إليك بهذا التعبير.
قال العجوز:
ربما كنت متأثراً بثقل الديون الخارجية على مصر ، فتذكرت أيام الخديو إسماعيل عندما ثقلت عليه الديون إلى حد أن اتفقت بريطانيا وفرنسا على احتلال مصر اقتصادياً وتحكمت في كل مليم من الملاليم المصرية .. وأنت تعرف طبعا بقية القصة.
وقال الشاب في فزع:
هل يمكن أن يعيد التاريخ نفسه ، أي يتفق الدائنون بعضهم مع بعض علينا ؟
قال العجوز في حماس حتى ينقذ الشاب من الفزع:
لا، والتاريخ لا يعيد نفسه ، ولكن العقلية السياسية تسير في خط واحد منذ أيام سيدنا آدم .. خطة ترسمها المصالح ، إن من مصلحة مصر أن تقترض ومن مصلحة روسيا أو أمريكا أو فرنسا أو السعودية أن تقرضها .. لا شيء لوجه الله !. وعندما تتعارض المصالح تختل العلاقات بين الدائن والمدين ويصبح اقتصاد الدولة في خطر
قال الشاب كأنه يطمئن نفسه: كل دول العالم تقترض..
قال العجوز في هدوء:
إن الدول الكبرى تقترض لا لانها دول فقيرة في حاجة إلى قروض، ولكن فقط لتوسيع قدرتها الإنتاجية ، وهي تعتمد على أن قوة استغلالها لرأس المال أقوى من رأس المال نفسه ..
– الطريق هو أن تحمي نفسك من الاستعمار الاقتصادي، أي أن تكون في مستوى رأس المال الذي تقترضه أو تستثمره .. أن تعامل رأس المال رأسا برأس أی تأخذ وتعطى ، أن تُصبح مجال إنتاج لا مجال ( سفلقة ) والحياة على حساب غيرك”.
————————————
إنتهي عرض الحوار القديم الجديد ….
إحسان عبد القدوس بدمجه الفن والمعرفة بالسياسة ، جعلني أدرك أهمية البعد الثقافي للسياسي فكان صانعاً لوجداني، و بتشريحه لواقع زمانه كان وكأنه يحذرنا في واقع زماننا.

التعليقات

التعليقات