جلسنا على مقهى «الحالمون» نتبادل الآراء حول الناس والسعادة والجمال حولنا،
وقال لى الشاب الحالم دائما:
ما هو تعريفك لجمال الإنسان؟
قلت له:
فى بحثى عن الجمال وجدت الأستاذ العقاد يقول
إن الجمال هو الحرية..
توقف أمام الرأى إعجابا وطالبا تفسيرا.
فقلت له مفسرا «إن جمال الجسد الإنسانى خلاصته فى ثلاث: حرية الحركة، وقدرة العقل على الوضوح فى الكلام ثم فى الوجه».
قالت زميلته بابتسامته جذابه: اشرح لنا كمان يا دكتور
قلت: حرية الحركة ممكن أن تتخطى حدود شكل الجسم وتغير منظور الجمال القياسى الذى يتغير من زمن إلى زمن.
أما النطق وظهور جمال العقل فى الحديث فمن الممكن أن يظهر قبحا فى جمال شكلى وجمالا فيما كنّا نظنه قبحا.
ويقول الأستاذ العقاد أيضا إن الوجه وخاصة العين والشفاه، هما اللتان ترتسم فيهما حالة النفس وإحساسها بغاية الوضوح والجلاء، وأصدق ما يقال فى هاتين الجارحتين أنهما نافذة النفس، فمنها تطل على العالم، ومنها يطل العالم عليها، ولعل ما تكشفه منا للناس أكثر مما تكشفه من الناس لنا.
قال ثالث: فعلا تتغير مقاييس الجمال جيلا بعد جيل، ومعك حق، فمهما كان جمال المرأة أو وسامة الرجل فأول ما يتكلمون تتغير الأحاسيس بالجمال.
أما العينان بالذات فهما الكاشفتان.
قلت: الجمال أيضا نسبى حسب معايير كل واحد تكيفا مع ثقافته وتعوده
قال: إعطنا أمثلة
قلت: خذ مثلا اللوحات الموجزة التجريدية، ستجد البعض يراها قبحا والبعض يرى فيها جمالا أخاذا
وأكملت حاكيا: ذات مرة أخذنى الأستاذ صلاح طاهر الفنان العظيم معه فى بداية التسعينات، إلى محاضرة فى جمعية محبى الفنون الجميلة، وقال لى إن تعليم مهارة الرسم ممكن لغير الفنان، ويصبح ناقلا لما يرى فقط، ولكن يظل الفنان الذى يعبر عن إحساسه مختلفا ومميزا، ومن هنا فإن الفن التجريدى والسريالى والموجز فنا أعلى من النقل المجرد وهى أمور تدركها وتتعلمها بمرور الوقت.
خذوا عندكم أيضا الموسيقى الكلاسيكية التى نستمتع بها ويستمتع بها أطياف من شعوب العالم، ولكن ولا يسمع منها غير الضجيج من لم يتذوقها ويسعد بها.
قال الشاب بابتسامة: يبهرنا فيك يا دكتور، أنك تستطيع أن ترى الجمال فى كل ما حولك طول الوقت فتنقل البهجة لمن حولك بدون أن يدركوا أنك سببها.
قلت: بل أنتم الذين تلهمون الأجيال الأكبر بطاقة جبارة، ممكن أن تكون إيجابية ومصدرا للبهجة، والأمر هو أن نتعلم أن نرى الجمال حولنا أولا.. ومن يتذوق الجمال هو من يستطيع أن يكون سعيدا، ومن يستخلص الجمال فيما يرى ويسمع لا يمكن أن يكون هداما.
قالت الشابة بعد نفس عميق: هوه فين بس الجمال حولنا يا دكتور، وحتى إن وجد، محدش علمنا نشوفه وإحنا مش فنانين علشان نعبر عنه.
قلت: يا ابنتى إن الجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى فى كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام ذو مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط، والشعور بالسعادة التى يبعثها الجمال فى النفس، قد يستطيع الإنسان التعبير عنها وقد لا يستطيع. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات: قدرة الإحساس بالجمال، وقدرة التعبير عنه. ولأن الإحساس بالجمال الخارجى والداخلى هو إدراك معرفى، فإنه يمكن تعلمه. أما القدرة الأخرى للإنسان والتى تعبر عن الجمال وتظهره وتبينه، فهى القدرة التى يتمتع بها الفنان مصورا كان أو أديبا، أو غيرهما من أصحاب القدرات الفنية المختلفة. وحيث إن العلم والتجربة قد أثبتا أن هناك الكثير من المعارف والمهارات التى يمكن للإنسان تعلمها، خصوصا فى السن الصغير، تمكنه من زيادة قدراته فى التعبير عموما، فإن كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات. ويبقى التفرد فى الفن للمواهب الخاصة التى ينفرد فيها إنسان عن الآخر
قال شاب رابع: حضرتك تقصد نتعلم ده فى مدارسنا.. حضرتك بتحلم أكتر مننا.
قلت: فلسفة الأخلاق، وعلم المنطق، وفلسفة الجمال، بدرجات متفاوتة من العمق، يجب أن تندرج فى وجدان الشباب، حسب المرحلة العمرية التى يدرسون فيها بشكل أو بآخر. إن اختيار مناهج الأدب والشعر وفنون الكلام، يجب أن يتناسق مع هذه الرؤية، وإدماج هذه المنهجية بلا تردد فى التعليم، هو جزء يجب ألا ينفصل عن رؤية التطوير الشاملة. إلا إننى أؤكد أن الأهم ليس فى منهج يدرس، بل فى معلم يفهم هذه القيمة، ومدرسة ومعهد تكون فلسفة الجمال رائدة لمضمونها.