علي مقهي الحالمون
الربيع العربي بين الحقيقة والخيال
تعتمد الحقيقة على إدراك العقل،وربط المعلومات بعضها ببعض، واستخلاص المعرفة . ويقال أن كل واقع هو ترجمة لخيال في مرحلة ما، وعلم السياسة والاجتماع ليسا مختلفين. كنت مدعواً في ربيع ٢٠١٥ لإلقاء محاضرة في منتدي مونت كارلو جنوب فرنسا حول الربيع العربي ، وأعطيت عنواناً للمحاضرة ” الربيع العربي بين الحقيقة والخيال “. واليوم ، في ذكري واحد من أهم الأحداث التي مرت بها مصر ، والعالم العربي ، وجدتني أراجع ما قلته بعد الأحداث بأربع سنوات في مونت كارلو ، وما يدور في ذهني اليوم بعد أحد عشر سنة..
كان غوستاف ليبون، عالم الاجتماع الفرنسي، والأنثروبولوجيا،قد عمل عام ١٨٩٥ على دراسة العقل الجمعي للحشد وأوضح وجود كينونة
جديدة منبثقة عن اندماج الناس مجتمعين، حيث ينشأ مجال مغناطيسي من الجمع ،و تماهي للسلوك الفردي ليصبح جزءا من التكوين الجمعي، الذي يستولى من كل فرد في الجمع على آرائه ومعتقداته وقيمه الشخصية. وكماقالفيواحدةمنمقولاته” إنالفردفي الجمع يكون كحبة الرمل داخل عاصفة رملية ، يتحرك معها ويندمج فيها ولا يوجد لها إرادة .فردية وتحدث ليبون بالتفصيل عن ٣ عمليات رئيسية تؤثر في سلوك الفرد في الحشد: *مجهولية الهوية،
*والإيحاء *والعدوى. *مجهولية الهوية تعطي شعور بفقدان
للمسؤولية الشخصية ويصبح الشخص أكثر بدائية وعاطفية وبلا قيود،وتمنحه شعور بانه لا يقهر.

*والعدوى تعني انتشار سلوك معين خلال الحشد )كأعمال الشغب مثل تحطيم النوافذ والقاء الحجارة (. إذ يبادر شخص بفع ٍل ما فيتبعه آخرون ،وقد تظهر سلوكيات مثل التضحية بالمصلحة الشخصية للمصلحة الجماعية أيضاً.
*أما الإيحاء فهي الآلية التي يتم من خلالها انتقالالعدوى. الهتافاتالقويةتجعلاللاوعي عنصري أحياناً، ويصبح الحشد متجانس ومرن ومتقبل إقتراحات أقوى أعضائه، أؤلئك الذين يقودون المسيرة أو الحشد أو التظاهرة يمكنهم بأصواتهم العالية قيادة وتوجيه المجموعة. وهؤلاء أصبحوا مدربون في الوقت الحاضر، ومسار أي مظاهرة كبيرة أو ترند في السوشيال ميديا يمكن أن يكون محدداً بشكل كبير مسبقا .

العقل الإيجابي الجمعي لمشجعين في مباراة كرة قدم يفرز في لاعبيهم كيمياء تزيد من قدرتهم وطاقتهم ) الأرض تلعب مع أصحابها (، ونحن نفهم الآن، حيث تنشأ الطاقة التي تحرك الناس من خلال العقل الجمعي للحشد الذي يخلق هذه الطاقة. مقدمتي كانت تهدف في المحاضرة إلى إعطاء خلفية علمية لاستيعاب ما حدث، في العالم العربي ومازال.
الربيع العربي يشار إليه باعتباره موجات ثورية من المتظاهرين والمحتجين، سواء كان مصحوباً بعنف وأعمال شغب أو بدون ، ويشير أيضا إلى الحروب الأهلية التي بدأت منذ ١٨ ديسمبر ٢٠١٠ وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي والمناطق المحيطة به حتى الآن.)وقت القاء المحاضرة(
تعود المرجعية التاريخية للمصطلح الى الاضطرابات في أوروبا الشرقية عام ١٩٨٩ عندما بدأت الأنظمة الشيوعية القوية في السقوط تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية الجماعية بالتتالي على طريقة سقوط قطع الدومنو. وفي فترة قصيرة من الزمن، إعتمدت معظم بلدان الكتلة الشيوعية السابقة أنظمة سياسية ديمقراطية ذات اقتصاد سوق حرة على النقيض مما كانوا عليه عقوداً متتالية .
أما الأحداث في الشرق الأوسط ، فقد ذهبت في إتجاه مختلف، دخلت مصر وتونس واليمن فترة إنتقالية غير واضحة.. ودخلت سوريا وليبيا حرب أهلية، في حين ظلت الأنظمة الملكية الغنية في الخليج والمغرب دون تأثر عميق من هذه الأحداث على الرغم من كونها أنظمة شمولية، ديكتاتوريه..
أما الاستخدام المحدد الأول “للربيع العربي” للدلالة على أحداث وقعت بالفعل فكان في مجلة السياسة الخارجية الامريكية حيث أبرزه مارك لينش في مقالته عن السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وكان المصطلح ضمن إستراتيجية أمريكية للسيطرة على )التحركات ( والأهداف وتوجيهها نحو النموذج الديمقراطي الأمريكي الليبرالي. )الخيال ( ، أو الفوضى المحكومة ) الواقع (. وكما تقول التقاليد، فوالد المولود له الحق في تسمية طفله، وهكذا أتي الاسم من الولايات المتحدة.
على أي حال، كل الانتفاضات والثورات، والنجاح النسبي، والنتائج، تبقى متنازع عليها بين الشعوب العربية، والمراقبين الأجانب، وبين القوى العالمية التي تبحث عن الاستفادة من تغيير الخريطة في الشرق الأوسط.
وفي وقت لاحق تم الكشف أن العديد من قادة الشباب لهذه التظاهرات تم تدريبهم وتمويلهم في أوروبا الشرقية، من قبل مخابرات دول كبرى مؤثرة، )الولايات المتحده والمملكة المتحده ( وهم لم ينكروا هذا عندما نجحت الثورات في إسقاط الأنظمة.
طالب المتظاهرون السياسيون في الأنظمة الملكية مثل الأردن والمغرب بإصلاح النظم تحت إدارة الحكام الحاليين، حيث دعا بعضهم إلى التحولالفوريإلى َملكيةدستورية،والبعض الآخر إكتفى بالإصلاح التدريجي.
أما الشعوب التي تعيش في ظل الأنظمة الجمهورية مثل مصر وتونس فقد أرادوا إسقاط الرئيس ونظامه ولكن لم يكن لديهم أفكار عما يجب فعله بعد ذلك غير المزيد من الدعوات للعدالة الاجتماعية.لم يكن لديهم فكرة بسيطة حول ما يجب القيام به ولم تُو ِج ْد لهم الثورات
عصاً سحرية لإصلاح الاقتصاد أو التغلب علي الفقر ، أو حتي كيفية الحصول علي الحرية في ظل فوضي عارمة…. بعد إنتهاء التظاهر والثورة ، ذهب المجموع الأصيل )genuine( الي منازلهم وتبقي المحرضون و المستفيدون .
والحقيقه أن مصر وتونس بالذات كانتا تقفان علي مرتبة عالية من توجه إقتصادي سليم زاد من النمو والتنمية ، وكان ممكنا أن يؤدي الي طفرات إقتصادية عملاقة.
علي أرض الواقع ، الجماعات اليسارية والنقابات أرادت أجوراً أعلى وتثبيت توظيفات حكومية ، وإلغاء صفقات الخصخصة .
أما الإسلاميون المتشددون ،كانوا أكثر اهتماماً بصورة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الصارمة من خلال تفسيراتهم، وسعوا لملء
الفراغ السياسي الذي تخلفه الثورات، و كان ذلك معداً من قبل الأحداث بشكل نسبي أو كامل وبتأييد من أجهزة مخابرات غربية.
كان الشكل الذي فرضته أمريكا والغرب في الدول التي حدثت فيها ثورات هو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان،)الخيال و إزدواجية المعايير( معتبرين أن الديمقراطية هي فقط صناديق الاقتراع، علماً بأن ما يسبق ويلي عملية التصويت والانتخابات مليئ بالخداع الذي نعلم جميعاًأنه ُيخرجالديمقراطيةمنجوهرها، حيث يسيطر عليها من يملك التمويل والتنظم والسلاح في دو ٍل ينتشر فيها الفقر والجهل ، تم حقن الفكر السلفي الديني في وجدانها لسنوات..أي أن نتيجة الإنتخابات محددة سلفاً.
السؤالهو: هلالربيعالعربينجاحأمفشل؟
ومع تدفق المعلومات عبر الإنترنت، وإتاحة مواقع اليوتيوب لأعداد ضخمة من الفيديوهات التيتحتويعلىوقائع ُمفترضةوأخبار متنوعة، تجعل من كل شخص بطل أو شرير، فالخلط بين الوهم والحقيقة أصبح عميقا كما لم يكن من قبل، فمع هذا الكم الهائل من التسريبات أصبح الناس يعيدون النظر فيما يرونه بسبب تعرضهم لأخبار متعارضة ومتناقضة، وربما أيضا لفقدان الثقة في كل ما يقدم إليهم.
الصعوبة الآن )٢٠١٥( أصبحت تأكيد الحقيقة وسط الكثير من الخداع، والشائعات، والمزاعم والأكاذيب و الدعايا و الدعايا المضادة، فلا تستطيع ان تعرف ما هي المؤامرة وما هي الصدفة..
هذا جزء من محاضرتي حول الربيع العربي أمام مجموعة من السياسيين من مختلف دول أوروبا في منتدي مونت كارلو السياسي عام
٢٠١٥، وأعيد نشره الآن وافكر بعد ٦ سنوات من اللقاء و أحد عشر سنة من الثورة، هل ما زال رأيي هو هو أم تغير ؟. كيف نقيس الحدث ؟ هذا هو السؤال… بأحداثه أم بنتائجه أم بأثره المستدام!! بعد أحد عشر سنة ، هل نحن أفضل اقتصادياً؟ هل زادت رفاهة الشعوب ، وأصبحت أكثر سعادة ؟!! هل تم القضاء علي أسباب ثورة يناير ، التي أنتفض شباب مصر الجميل أثناءها من أجل ال ِعزة والكرامة والعدالة قبل اختطافها من الإخوان المسلمين؟؟!!
هل حددنا أساساً أسباب الثورة ؟ هل يمكننا تجنبتكرارأثرهاالسلبيوالبناء ِعليأثرها
الإيجابي؟ ما هي المؤسسات التي كانت مصب غضب الجماهيرفييناير )الحزبالوطنيوجهاز أمن الدولة(.. الحزب الوطني إختفي ، فهل ظهر لهمماثل،أوبديل؟؟. وهلمازالأمنالدولة
بمسماه الجديد )الأمن الوطني( يمارس نفس الدور أم تَ َعلمت المؤسسة من الدرس؟؟ للعلم ، أنا من المساندين والفاهمين لأهمية جهاز الفكر والتدبير ، وعقل مؤسسة الأمن كما كنت أفهمه من حماي السياسي الفاضل حسن أبو باشا، وليس كأداة في يد أي نظام حكم ضد معارضيه. مهمة هذا الجهاز الهام هو حماية الدستور وأمن البلاد بفهم وعقل وتحليل وتذكير للسلطة التنفيذية بما يدور خلف الستائر من مؤمرات ضد الإستقرار، وهم مؤهلين لذلك.. أجد أحيانا أن الدروس التي تعلمتها من يناير ، تَعلم غيري عكسها!! كنت أظن أن مساحة الحريات كانت ضئيلة، وتداول السلطة شرعياً كان مستحيلاً ، وفَهم غيري أن هذه المساحة الضئيلة هي التي شجعت الناس علي الثورة، ويجب إغلاق منافذها. أكتب ذلك الآن ، وأنا أري تحريك جماهيري في السوشيال ميديا يسوق المجتمع نحو تصلب
سلفي جديد. وحسب نظرية چوستاف ليبون ، يتضح أمامي خلق جديد لموجة خطيرة ضد الدولة المدنية الحديثة، تختبر الوجدان الديني الاخواني الذي تغير نسبيا بعد ثورة ٣٠ يونيو وَك ْشفالأغراضالسياسيةالديكتاتورية للإخوان، تيار يدفع نحو وأد الفنون والثقافة والتنوير، باستخدام نظرية قيادة القطيع وتحريك عواطفهم الدينية المسطحة، وبتخاذل من الدولة ثقافياً وإعلامياً أمام ذلك .في رأيي أن التيار الإسلامي السياسي يختبر أرضية معركته.