أنا وسبع ستات
بقلم حسام بدراوي
فى شهر المرأة، وعيد الأم، كتبت فى عام 2021 مقالًا بعنوان «أنا وأربع ستات»، وفى عام 2022 كان المقال عنوانه «أنا وست ستات»، وهذا العام أضيف ستى وتاج رأسى السابعة، وهى حفيدتى.. ومن المؤكد أن لكل قارئ مَن يماثلهن فى حياته.أبدأ بالسِت الثانية، وأترك الأولى إلى نهاية المقال: الست الثانية هى كل أم من أمهات هذا الجيل، الذى نداوم على انتقادهِ، فأرى حولى عكس ما يُقال عنهن، ستات أمهات ترعى كل منهن بيتها، وتُعيل أُسرتها، وتعمل بلا كلل صباحًا ومساءً، وتُنفق، وتُربى، وتُحاور، وتُذاكر، وتُعد لكل واحد من أسرتها غذاءه وملابسه وكتبه، وتذهب لتمارين أولادها، ودروسهم الخصوصية، وتمارس وظيفتها فى نفس الوقت لتشارك فى الإنفاق على أسرتها. وهى نفسها التى تحمل وتلد وترضع وتسهر الليالى، يومًا بعد يوم، ساعة بعد ساعة.
أمهات هذا الجيل بطلات فى نظرى.
الست الثالثة:
هى ابنتى.. طول عمرها وأنا أسميها «أفكارى السعيدة» لأنها إنسانة متفائلة، مبتسمة، جميلة المظهر والمدخل. ثم وهى فى سن الخامسة والعشرين، ظهر لها مرض السكر من النوع الأول، وهو الأخطر، وفى خلال شهور قليلة توغل المرض وأصبح جسمها خاليًا تمامًا من الأنسولين اللازم لحياتها ونشاطها وطاقتها، بكل ما يعنيه هذا المرض من احتياج لتغيير مطلق لنوعية الحياة، والعلاج المستمر، والحقن والقياس، وتغيير شكل ونوعية الغذاء.
فجأة أصبحت ابنتى، وهى أم لثلاثة أطفال، وزوجة، وامرأة عاملة، فى احتياج لصياغة حياتها بشكل جديد.
رأيتها، بشبابها وعلمها ونضارتها، تدخل مرحلة لم تكن مُعَدّة لها نهائيًّا، وسط مسؤوليات حياتها التى تأخذها بجدية والتزام.
غيّرت حياتها، بإرادة حديدية، وفى خلال سنوات قليلة تحكمت فى نفسها، وتفعل ذلك وهى تلازم بناتها وتشجعهن ليمارسن معها الرياضة، وتذهب معهن للتدريب البدنى، ودروس الموسيقى، وتشارك كل لحظة فى حياتهن، وتحضر كل نشاط فى مدرستهن، وتقرأ معهن ولهن، وتملأ حياة أسرتها بالبهجة والسرور.
ولأنها إنسان جميل، فإنها كرست جزءًا من مجهوداتها لمساندة الأطفال المصابين بالسكر لتمنع عنهم كوارث المرض بعد مرور السنين.
أنظر إليها وأقول هذه امرأة تستحق أن تكون مثلًا أعلى، ومِثلها فى المجتمع الكثيرات. لا هى فَرطت ولا تكَاسلت ولا انهارت، بل واجهت بابتسامة، وانتصرت بإرادة، ولا تُشعر أحدًا ممن حولها بما فيها، ولا تُحمّل واحدًا من أسرتها همها ولا لحظاتِ أسى وخوف لابد أنها قد مرت أو تمر بها.
ولماذا أكتب عنها؟.
أكتب لأن هناك فى كل مكان شابة مثلها، فنسبة الإصابة بالسكر فى مصر مرتفعة جدًّا، ومضاعفاته أراها فى المرضى كل يوم.
هناك آلاف مثل ابنتى، وعليهن أن يأخذن حياتهن فى أيديهن، فلا يبتئسن، ولا يستسلمن، بل يعلمن أن الإرادة والمعرفة والجدية تصنع من كل منهن بطلة وقدوة ومثلًا أعلى.
يا ابنتى.. ويا كل أم مثلها، أنتن أمهات تستحققن الفخر والتقدير.
الست الرابعة:
هى زوجتى.
كل أم تحب أولادها وتحميهم وتحنو عليهم وتعطيهم بلا انتظار لرد أو اعتراف بجميل، وهو ما يجعل الأم أمًّا. ولكن زوجتى غَلّفت أمومتها بصداقة مع أولادها بلا تكلف ولا ضغوط، وتواجد إنسانى فى حياتهم برغبتهم وسعادتهم واشتياقهم.
إن أول ما يخطر على بالهم وأنا معهم، بعد يوم عمل أو انتهاء مقابلة أو حدث سعيد أو أليم، هو الاتصال بها وسماع صوتها لأنها الأمان بدون كلام، وركن الراحة والاطمئنان بلا ضجة، ومساحة الحرية لهم فى التعبير عن أنفسهم بلا خوف من أحكام ولا رهبة من إخراج مكنون سعادة أو آلام.
أقول لها كشاهد إن هذا أفضل إنجازاتها فى الحياة لأنهم بأنفسهم السوية، واستقامة حياتهم، وجمال سلوكهم، وفضل وعقل علاقاتهم بالآخرين، نتاج لحبها المستمر بلا انقطاع، الذى كوّن وجدانهم وحنّن قلوبهم وأعطى كلًّا منهم الفرصة لإظهار أفضل ما فيه.
وعندما جاء لنا الأحفاد، طيورًا تغنى فى سماء حياتنا، وتعطيها نوعًا وعبيرًا للسعادة لم نعرفه من قبل، فإذا بها جدة غير عادية بحنان وعلم، وتواجد ومسؤولية، بلا تدخل زائد، بل بحب جارف ومشاعر فياضة وضعت أولوية جديدة فى حياتنا.
من أب وزوج يَعِى دورها فى حياته وحياة أبنائه، ويعلم أن جزءًا كبيرًا من فضل الله عليه بحب أبنائه يعود إلى أم تدفع فيهم كل ما هو جميل تجاهه، وتُعمِّق فى وجدانهم كل ما هو محترم لذاته، أحبكِ وأشكركِ وأحترمكِ وأقدركِ.
الست الخامسة: هى الصديقة.
الصديقة العاقلة القريبة الناصحة، فالصداقة مع المرأة قيمتها كبيرة وعظيمة لو تعلمون.
هل تعرفون لماذا؟؟.
صحيح أن الصداقة عمومًا كلها محبة وسكينة نفس، لكن الجميل فى الصداقة مع المرأة أنه لا لوم فيها ولا احتياج لتبرير فعل أو غياب.
الصداقة مع المرأة تتخلص من ضغوط ارتباط الزواج، ويمكن الشراكة فيها، ولا تستوجب إرضاء الصديق، بل أن تكون كما أنت.
فى الصداقة الزمن نسبى، فقد تمر سنوات وتقابل صديقًا وكأنه الأمس، فلا لوم ولا عتاب.
فى الصداقة بهجة بدون تكلفة، وسند بدون ثمن، وثقة لا تُختبر فى كل لقطة، وحب لا يدخل امتحانًا لأنه لا يحتاج شهادة لإثباته.
مَن له صديقة فليتمتع بالصداقة وبهجتها، ومعزة الصداقة ودوامها، وحريتها بنقاء واحترام لحدودها.
الست السادسة:
هى أختى.
هى الأخت القوية، المساندة، بألف رجل.
والأخت عندما تكون حنونًا وصديقة ومشغوفة، كما هو الحال بأختى، فقد أعطانى الله بها مودة، ومنحنى سندًا زمنيًّا، فما بالك إن كانت أيضًا عالِمة وقوية وطبيبة ترعى الأم والإخوة والأولاد والأحفاد والزوج، فى كل لحظة وفى كل مقام.
لا يوجد لأحد فى الأسرة تأثير كتأثيرها ولا تواجد مثل تواجدها. ليس فقط لعائلتها الصغيرة، ولكن لكل أولادنا وأحفادنا.
هى المتواجدة دائمًا، المؤثرة فى كل وقت، المُعالجة والحكيمة لهم كلهم. هى أول مَن يخطر على بال كل أم فى الأسرة لحظة الاحتياج أو الخوف على الأولاد. هى جدار المساندة لكل أسرة صغيرة من أسرتنا الكبيرة، ليس فقط لمهارة العلم، لكن لطمأنينة القلب. والعجيب أن كل مَن يكبر من الأطفال تظل هى طبيبته وحبيبته مهما كان طوله وعمره ووزنه.
هى أختى صديقتى الأولى وراعيتى عبر السنين.. يا لها من امرأة بألف رجل.
الست السابعة: هى الحفيدة، الآنسة والمؤنسة، التى تعطى للحياة طعمًا جديدًا، ومذاقًا لا يحسه الإنسان إلا عندما يصبح جدًّا. أرى نموها فأعجب، وألاحظ نضوجها فأسعد، وأراقب بإعجاب اتساع مداركها فينشرح صدرى، وأفخر ببطولاتها فى المدرسة، وكأن الحياة تبدأ معى من جديد.
الحفيدة جائزتى من الله، أبقاها لى ولكل جد أملًا وطاقة، تمنحنا حياة متجددة.
أما الست الأولى: فهى ست الستات فى الحقيقة:
هى الأحب والأعز والأقرب إلى عقلى وروحى ووجدانى.. هى أمى.
كيف استطاعت هذه الأم أن تكون هذه الموسيقى الحالمة فى حياتنا بلا ضجيج، ودون أن تطلب من أى واحد منا شيئًا أبدًا؟!.
هى مصدر الحب، والمودة، والبهجة، والالتزام بيننا. استطاعت بلا تدخل فى شؤون أى منَّا أن تكون طرفًا فاعلًا فى حياة كل منَّا. جعلت حبها لوالدنا، رحمة الله عليه، نموذجًا لكل زوجة فى الأسرة، وجعلت قناعتها وسكينتها تتسلل إلى وجداننا. وبلا طلب ولا سؤال، جعلت دوراننا حولها متعة وبهجة وأمانًا.
هذه هى أمى الجميلة، بل الأجمل فى الأسرة.
برقتها
بأناقتها
بصمتها
وابتسامتها
أحببتكِ يا أمى وأحبكِ وأفتقدكِ بعد رحيلكِ
أحب منكِ رسالة الهدوء وسماحة القبول بيننا، وبلا جهد تَنشرينها
أحب فيكِ الصبر والمحبة التى تعطين
أحب فيكِ استيعابك لنا عبر السنين
بلا شكوى أو أنين
فأنتِ يا أمى كنتِ ومازلتِ إلهام وجداننا
تُشعِّين نورك باستدامة
بإيماءة
وحتى بصمْتك أو بابتسامة
أنا لا أكتب فى أمى الآن شعرًا، أنا فقط أصف ما فيها كما هو، وكلماتى لا ترقى إلى حقيقتها.
نحجُّ إليها ولا تدعونا، وإذا التقينا بها تروينا بابتسامتها بلا لوم ولا عتاب لمَن تأخر أو مَن لا يجىء.
سبعة أمثلة لسيدات، فى حياتى، وغالبًا مثلهن فى حياة كل منكم.