التعليم الفنى والتدريب المهنى
بقلم
د حسام بدراوي
يستوعب التعليم الفنى والتدريب المهنى أكثر من نصف عدد الطلاب الذين يلتحقون بالمرحلة الثانوية بعد المرحلة الإعدادية، ما يمثل أغلبية من الشباب. وبالنظر إلى أن الاقتصاد المصرى يسعى لأن تصل معدلات النمو فيه إلى أكثر من ٦٪ سنويا بشكل مستدام لعشر سنوات على الأقل، فإن فرص العمل التى تتوافر وستتوافر فى المستقبل كبيرة. ولا يمكن استدامة هذه التنمية دون عمالة فنية عالية المستوى وتنظيم فعال للمهن التى تتطلبها هذه التنمية، بل إن سوق العمل إقليميًا وعالميًا، خصوصا فى شمال البحر المتوسط، ستحتاج إلى عمالة من خارج نطاقها الجغرافى، ما يفتح فرصا أكبر أمام الشباب المصرى إذا كان مُعدًا بشكل جيد لشغل الوظائف التى تحتاجها هذه السوق، ما يزيد من مواردهم وموارد الدولة ويخفف من البطالة ويحقق مكسبًا اقتصاديًا وإنسانيًا للمواطنين.
والتعليم الفنى، كأى نظام تعليمى قديم، يتعرض إلى تحديات كثيرة، كما يحتوى أيضا على نقاط قوة وفرص للتطوير والتنمية.
إن أهم تحديات هذا النوع من التعليم هو غياب رؤية متكاملة له، وانخفاض الميزانيات المخصصة عن احتياجات وطموحات التطوير، ويعانى مثله مثل غيره من قطاعات التعليم من فلسفة توزيع وتوجيه الطلاب على أساس مجموع الدرجات فى شهادة إتمام التعليم الأساسى، بينما يتم التنسيق الداخلى للمدرسة حسب سعة القسم وعدد المدرسين فى التخصصات وحسب الدرجات أيضًا، دون مراعاة لاحتياجات سوق العمل أو ميول واستعداد الطلاب
إن الواقع يؤكد مثلًا ارتفاع نسبة البطالة لخريجى المدارس الفنية، خصوصًا التجارية، التى ترتفع نسبة الالتحاق بها إلى حوالى ٣٤% من مجموع عدد الملتحقين بالتعليم الفنى، أغلبهم من الفتيات، وكأنه مرأب خلقه نظام التعليم ليس بهدف اكتساب المهارات وزيادة المعرفة، بل لقضاء الوقت فى هذه المرحلة العمرية الحيوية بلا عائد على الشباب والمجتمع.
ومن العجيب عدم الإقبال على التعليم الزراعى فى مصر ذات التاريخ الزراعى المؤثر فى العالم، فالإقبال على التعليم المهنى فى هذا القطاع يواكب نظرة اجتماعية متدنية لهذا النوع من التعليم، واعتباره وخريجيه فى درجة اجتماعية أقل.
كل هذه الأمور توالدت واتسعت فى غياب الحلم وانعدام الرؤية، التى ضاقت لتكون ذات هدف محدود لاستيعاب الشباب، بغض النظر عن الجدوى فى مؤسسات تعليم لا تعلم، ومهارات لا تكتسب، فى إطار سياسى يدّعى النجاح لمجرد الاستيعاب.
هل هذه التحديات التى خلقناها بأنفسنا قابلة للتحديث؟.. وأرى أنه من الممكن التغلب عليها، بل الانطلاق بالتعليم الفنى والتدريب المهنى برؤية تتكامل مع التعليم العام، وتتشابك مع رؤية وحلم الإصلاح والتنمية فى مصر.. ولكن كيف؟، هذا هو السؤال.
إن السياسات المقترحة للارتقاء وتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الإنسانية التى يجب أن ننتهجها، وحيث إن جهودًا متميزة مبعثرة قد تم تطبيقها فى هذا المجال على مدى الأعوام الماضية، فإن النظرة الشاملة لجهود التطوير سوف تعطى لها قيمة أكبر وتحقق التنمية المرجوة.
وتنقسم السياسات المقترحة الخاصة بتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى إلى ستة حزم من السياسات، نعرض لها على النحو التالى:
أولًا: سياسات خاصة بالتعليم العام المتصل بالتعليم الفنى:
إن الطالب فى هذا النظام مازال عليه الحصول على معارف عامة ومهارات فى اللغة واستخدام الحاسب الآلى ومواد دراسية تُعمّق انتماءه الوطنى وتشكل هويته وارتباطه بالمجتمع. أما التعليم العالى فله دور مهم موازٍ وهو تخريج المدرسين والمدربين لهذه المؤسسات، وكذلك التوسع فى معاهد التعليم الفنى والتكنولوجى كجزء من نظام التعليم العالى، ما سيؤدى إلى نتيجتين مؤثرتين، أولاهما: توافق التعليم العالى الفنى مع متطلبات بعض المهن، والنتيجة الأخرى: تظهر فى الأثر المجتمعى لدمج التعليم الفنى والتعليم العالى فى رفع قدر هذا النوع من التعليم فى عُرف المجتمع مع الاحتياج الحقيقى له على أن يكون ذلك فى وجود إطار قومى للمؤهلات فى مصر (نسعى لإقراره من عشرين سنة !!).. لذا فإن هذا النوع من التعليم يجب أن يتمتع بالمرونة فى المنهج الذى يجب أن يتواكب مع نوع المهن المرتبطة بعدد سنوات الدراسة التى لا يجب تحديدها بسنتين أو ثلاث أو أربع، بل بحزم تعليمية ودرجات جدارة وكفاءة مهارية تدرس بنظام الساعات المعتمدة.
ثانيًا: سياسات خاصة بتطوير المظلة المسؤولة عن هذا النوع من التعليم:
المظلة الآن هى وزارة التربية والتعليم بشكل أساسى، ووزارة التعليم العالى والوزارات النوعية كالصناعة والزراعة والسياحة والقوى العاملة والإسكان.. وغيرها، والتى قد تشرف على بعض مراكز التدريب وبرامجها، ولكن بشكل غير مترابط، ودون رؤية شاملة متناسقة، ما قد يبعثر الجهود ويشتتها. وشاهدنا إنشاء وحذف وزارة مسؤولة عن التعليم الفنى بلا تحليل.. لماذا نشأت ولماذا أُلغيت؟!
ثالثًا: سياسات خاصة بتطبيق نظم توكيد الجودة والاعتماد:
لكل البرامج الخاصة بالتعليم الفنى والتدريب المهنى ومؤسساته.. إن أى خدمة يجب أن تكون لها معايير، وأى خدمة لابد من تقييمها بناءً على مؤشرات هذه المعايير. ولا شك أن معايير التعليم العام الواجب اعتمادها من هيئة ضمان الجودة والاعتماد فى التعليم تختلف عن المهارات الفنية «الصناعية أو الزراعية أو فى غيرهما من المهن»، التى يجب اعتمادها وتقييم التدريس والتدريب عليها من جهات تقييم محايدة.. وهى الفلسفة التى أراها واجبة فى التعليم الفنى.
وعلينا أن نفرق بين اعتماد البرنامج التعليمى أو التدريبى الذى تقترحه المجالس النوعية لكل مجموعة مهن، وبين اعتماد المؤسسة التعليمية أو التدريبية التى تقوم بتعليم أو تدريب هذا المنهج.. وكلاهما مطلوب، وهى علاقات جديدة على مجتمع التعليم الفنى. ومن أهم انجزات الوزارة إنشاء هيئة مستقلة جديدة لضمان الجودة والاعتماد فى التعليم التقنى والفنى والتدريب المهنى (ETQAAN) بدعم من قبل جميع شركاء التنمية الرئيسيين (USAID, GIZ EU) عام 2022
رابعًا: سياسات خاصة بتطوير وتنمية أداء الكوادر البشرية العاملة:
سواء كانت فى المدارس أو المؤسسات والمراكز التدريبية، وذلك من خلال وضع نظام للحوافز المادية والعينية لجميع أعضاء مجتمع التعليم الفنى والمهنى، وعقد برامج دراسية مع معاهد دولية لتقديم مناهج دراسية مشتركة يشترك فيها طلاب التعليم الفنى من داخل مصر وخارجها، وإرسال البعثات وخلق شراكات مع القطاع الخاص ونثنى على وزارة التربية و التعليم والتعليم الفنى إدراجها أكاديمية معلمى التعليم الفنى (TVETA) ضمن الهيكل التنظيمى الجديد للوزارة، وأيضاً استحداث مفهوم قطاعى جديد يتمثل فى مراكز التميز القطاعية (Centers of Competence) حيث بدأ تطبيق هذا المفهوم مع kfw والإتحاد الأوروبى فى قطاع الطاقة الجديدة والمتجددة ومع GIZ فى قطاعي الصناعات الهندسية والسيارات، ومن الجدير بالذكر أن الوزارة منذ عام 2018 قدمت نموذجاً جديداً للتعليم وهى مدارس التكنولوجيا التطبيقية بالشراكة مع شركات القطاع الخاص الرائدة والمؤسسات الدولية لضملن الجودة، وكانت البداية بثلاثة مدارس والآن لدينا أكثر من 41 مدرسة بما فى ذلك 6 مدارس جديدة بمفهوم متطور تحت مسمى المدارس الدولية للتكنولوجيا التطبيقية.
خامسًا: سياسات خاصة بتغيير نظرة المجتمع للتعليم الفنى:
يأتى ذلك من خلال الاهتمام الإعلامى بالتعليم الفنى، مع إبراز قدرات ومجالات وفرص العمل المرموقة لخريجيه، وتقدير الأوائل والمتميزين منهم، كذلك فإن إضافة التعليم التكنولوجى إلى مسمى التعليم الفنى ومحتواه (التعليم الفنى والتكنولوجى والتدريب المهنى) قد يكون عاملا لتغيير انطباعات المجتمع حول هذا التعليم بشكل أكثر إيجابية.
سادسًا: سياسات خاصة بمزاولة المهن المختلفة:
وذلك من خلال تحديد مستويات الجدارة الفنية لكل مهنة، والترخيص وإعادة الترخيص لها، وشراكة القطاع الخاص فى ذلك، بحيث يتم توحيد مسميات المهن على المستوى القومى، وتوصيفها وتحديد مهاراتها، ووضع برامج مناسبة وموحدة للحصول على تلك المهارات، ووضع اختباراتها ومنح شهاداتها مع العلم أن هناك خطوات جدية تخطوها الوزارة فى هذا الصدد تتمثل فى تطوير المناهج المبنبة على الجدارات، والتى تتميز بمراعتها وترابطها الواضح مع سوق العمل حيث تبدأ المنهجية بجلسات مع ممثلى سوق العمل للإتفاق على مواصفات الخريج من الجدارات .. وصولاً إلى إكساب الطالب المهارات والمعارف والسلوكيات اتى يحتاجها سوق العمل اليوم، ومنذ عام 2018 قامت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى مشكورة بتطوير عدد 86 منهج دراسى حسب منهجية الجدارات من اجمالى 125 منهج ومراجعتها من قبل ممثلى سوق العمل وكذلك اشراك ممثلى سوق العمل فى الإمتحانات العملية لطلاب التعليم الفنى، ومنح الطالب شهادة الدبلوم مع شهادة أخرى بالجدارات التى أتقنهان، وأيضا استحداث عدد 29 برنامج ومنهج جديد للاستجابة لاحتياجات سوق العمل.
إن درجات الجدارة المهنية لكل مهنة يجب أن تكون مرئية بين الدول وبعضها ومتفقًا عليها. ولعل الاتحاد الأوروبى وما قام به من جهود محترمة فى هذا المجال قد وحّد بين الدول الأوروبية، بما يسهل حركة المهنيين والمعلمين عبر الحدود بين بلد وآخر، ولقد كانت دعوتى- ومازالت- أن نأخذ بهذه المعايير وهذا الأسلوب، فإن شبابنا المهنى ستتوفر له سوق عمل أوسع من مصر فى البلدان العربية وشمالى البحر المتوسط، فإذا كانت أنظمة التعليم الفنى والتدريب المهنى متوافقة المعايير مع النظم الأوروبية فسيكون ذلك عاملا إيجابيا لإيجاد فرص عمل جيدة هناك بلا احتياج للوجود غير الشرعى أو قبول الرواتب المتدنية لانخفاض المستوى المهنى وغياب الترخيص المرتبط بدرجات الجدارة المهنية المتعارف عليها وتماشياً مع ذلك تجرى وزارة التربية والتعليم مسح دولى لإحتياجات سوق العمل فى أوروبا ودول الخليج من العمالة المصرية وتحديد المهارات و المؤهلات اللازمة بهدف تطوير برامج لتلبية هذه الإحتياجات، حيث يتم تمويل هذه المبادرة من قبل البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD).
إن الفرصة متاحة، بل أراها تنادينا وتسعى إلينا، وقد آن الأوان لنبادر بالأخذ بها، الأمر لا يحتاج إلى عبقرية جديدة، بل يحتاج إلى إرادة سياسية وتطبيق مستدام.