الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / علي مقهي الحالمون بالغد “المتنبـي .. والعقاد” حسام بدراوي

علي مقهي الحالمون بالغد “المتنبـي .. والعقاد” حسام بدراوي

المتنبـي .. والعقاد ‏
بين الحكمة وجمال الكلمة ‏
بقلم
حسام بدراوي
تستهويني معرفة أصول وتعريف ما نردده من جُمل ، و تحليل الكلمات التي يتجادل أحياناً كثيرة حولها وفيها ‏المجتمع وكلٌ يقصد معانٍ مختلفة. و أحاور شباب الحالمين بالغد ، وأصدقائي في ذلك . وفي واحدة من هذه ‏الحوارات ترددت جُمل وحِكم ، عبقرية تلخص أمور الحياة ، وتوضح في سطور ما قد يكتب عنه الآخرين في ‏صفحات ، و لا يعرف الناس من أين أتت. جمل نقولها ولا ندري أصلها، مثل:‏
‎”‎تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ‎”‎‏ و ‏‎”‎مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ ‏‎”‎و عبارات أخرى كثيرة نستخدمها في حياتنا ‏اليومية دون أن يدري أغلبنا أنها أجزاء من أبيات شعرية من الأساس، ونتاج أعمال أدبية محترمة. ‏
فالعشرات من أبيات المتنبي بالذات ،أصبحت مع الزمن أمثالاً و حِكماً يستخدمها العارف و الجاهل على حدٍّ ‏سواء. و أشارككم بعضاً من أبيات شعر المتنبي‎ ‎يختفي‎ ‎وراء كل منها قصةً و عبرة وتلقي بظلالها علي ‏حاضرنا .‏
فالعبارة الخالدة ‏‎”‎يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم‎”‎‏ لا تعدو كونها جزءاً من قصيدة للمتنبي كانت موجهة لحاكم ‏مصر في عهده ، يهجو بها وضع أمة العرب‎ ‎قبل ألف عام ، ولكن وكأنها تقال اليوم…‏
‏”أغايةُ الدينِ أن تُحفـوا شواربكم يـا أمةً ضحكت من جهلهـا الأمـمُ
و فيما يلي بعض الأبيات التي تحوي سطوراً ذهبية نعرفها جميعاً ولا يعلم أغلبنا أنها أقوال المتنبي مثل:‏
مـا كلُّ مـا يتمنـى المـرءُ يدركهُ‎ ‎تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
و من قصائد أخرى نجد له :‏
‏”لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى‎ ‎
‏ حتـى يراقَ على جوانبـهِ الدّمُ”‏
وأبيات من حكمة الحياة مثل:‏
ـ ” إذا أتتـكَ مـذمتـي مـن نـاقـصٍ‎ ‎‏ فهـي الشهـادةُ لـي بأني كاملُ”‏
ـ “من لم يمت بالسيفِ ماتَ بغيرهِ‎ ‎‏ تعددتِ الأسبابُ و الموتُ واحدُ”‏
ـ “ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ‎ ‎‏ و أخـو الجهالة في الشقـاوة ينعـمُ”‏
‎ ‎
ـ “بـذا قضتِ الأيامُ ما بين أهلها مصـائبُ قــومٍ عند قـومٍ فـوائِـدُ”‏
و من قصيدة يخاطب حاكم البلاد يقول:‏
ـ “يا أعدل الناس إلا في معاملتي‎ ‎‏ فيـكَ الخصامُ و أنتَ الخصمُ و الحكمُ”‏
وكأنه يتكلم عن الفصل بين السلطات الذي نطالب به اليوم. ‏
ويعبر عن حكمته قائلا:‏
‏ “إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قَدِروا …. . ألا تفارقَهمْ فالراحلون همُوْ
‏ ‏
‏”يا مـن يعـزُّ علينـا أن نفارقهـم‎ ‎وجـداننـا كــل شــيءٍ بـعـدكــم عــدمُ”‏
ربما كان المتنبي يعرف أنه سيُذكر بعد أكثر من ألف وخمسين عاماً على وفاته وربما للأبد، حين قال ونردد:‏
‏”إذا أنـتَ أكـرمـتَ الكـريـمَ ملكتَــهُ‎ ‎
‏ و إن أنـتَ أكـرمـت اللئيــمَ تمـرّدا”‏
ويعبر عن كبرياءه وعزة نفسه وثقته عندما يقول :‏
‏”و ما الدّهرُ إلا من رواةِ قصائدي‎ ‎‏ إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ”‏
ويقول بذكاء الخبير بالحياة:‏
‏”إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ”‏
ويقول:‏
‏”إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ”‏
وينشد المتنبي قائلاً:‏
‏”إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصاً مِنَ الأَذى فَلا الحَمدُ مَكسوباً وَلا المالُ باقِيا”‏
ويقول:‏
‏”كُلُّ السُيوفِ قٍواطِعٌ إن جُرِّدَتْ ‏ وحُسامُ لَحظِكَ قاطِعٌ في غِمْدِهِ”‏
وتعليقاً علي الحوار أرسل لي صديقي د. محمود حمزه العليم باللغة ، الشغوف بالأدب والشعر ، وشريكي في ‏العمل مع التلاميذ والشباب في التعليم أولاً ، مشاركاً، قائلاً:‏
لم يكن المتتبي إلا تعبيراً حياً عن وضع المجتمع العربي فى القرن الرابع الهجري بكل مافيه من تشتت وانقسام ‏وزيف ديني ربما نعاني منه حتى الآن، وبرغم رؤية المتنبي الشعرية التى صدرت فى أغلب الأحيان عن موقف ‏أو مصلحة شخصية إلا أنه عبر بصدق عن حال أمتنا العربية فى لغة دقيقة معبرة فاستحق شعره أن يملأ الدنيا ‏ويشغل الناس.‏
ويضيف “لقد كانت حكم المتنبي خلاصة تجربة حية متأججة لم تتوقف يوماً عن الصراع من أجل الوجود، ولقد ‏كان شعره قطعة من ذاته فلم يجد المجتمع العربي أدق من تلك الأبيات لتعبر عن خلاصة التجربة الإنسانية فى ‏كل زمن وفي كل عصر”.‏
ولأنني أظن أن العقاد من أكثر المفكرين والكتاب قدرة على فهم دخائل العظماء والأبطال، وامتلاك مفاتيح ‏شخصيتهم، والكتابة عنهم، والترجمة لحياتهم ببراعة فائقة تجمع بين ذائقة النحل في الانتقاء، وصبر النمل في ‏التحليل، وإعادة بناء ورسم وإبراز مقومات وسمات الشخصية، فقد بحثت عن رأيه في المتنبي وما كتبه عنه.‏
‏ يقول‎ ‎الأستاذ العقاد وأشاركه ‏‎ ‎‏”أن الحياة نفسها عمل فني صاغته يد الفن الإلهي، وتحكمه الأصول الفنية ذاتها ‏التي تحكم بيت الشعر واللحن الموسيقي وصورة الرسام، فالغاية القصوى لهذه الحياة هي الجمال والتحرر من ‏القبح”‏
ولقد وجدت أن كل منهما ” المتنبي والعقاد” صاحب عقل قلق جبار ، عظيم الثقة في النفس، مفرط في ‏الاعتزاز بذاته ومواهبه وقدراته، كما أن كلاً منهما كان علامة مميزة في عصره، وشغل الناس من بعده ‏بشخصيته وحياته وأعماله.‏
‏ “المتنبي لم يكن ملكاً ولا أميراً ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، وهو الرجل الفرد ‏الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات‎”.‎
واستغنى المتنبي وكذلك العقاد بفكره وأدبه عن كل منصب وجاه، وكل صاحب سلطان، فعاشا وماتا عظيمان في ‏نفسهما وعند أبناء عصرهما.‏
كان العقاد يسمي المتنبي بـ‎ ‎الشاعر العظيم‎ ‎أو الرجل الفرد الذي نظم في ديوان ما تزنه الحياة من تجارب‎. ‎
قال شاب من الحالمين : ولماذا الأستاذ العقاد كما تحب أن تناديه؟
قلت: لأنه كان مُلهما لي بقوته في الحق واعتداده بكرامته ، وأسلوبه القوي ومعرفته الموسوعية وهو الذي لم ‏يكمل في تعليمه الا المرحلة الابتدائية.. ‏
الاستاذ كان صاحب فكر ومواقف، لغته العربية شامخة ، وحجته عاتية وقدراته العقلية شاملة. ‏
‎ ‎ وكما كان أديبًا عظيما كان شاعراً متفرداً ، وكنت قد قرأت له قصيدة ترجمة شيطان ، وانبهرت بدمجه الفكر ‏الفلسفي في الشعر بهذه العبقريه ، وبعدها تعرفت علي رومانسيته في الشعر ، وكأن هذا الجبل القوي وراءه نفسا ‏حساس وقد جعلني ذلك منفتحا علي تزاوج القوة مع اللين ، والحدة مع المحبة ، والحكمة مع البساطة عندما يقول
‏”الناس تغيظهم المزايا التي تنفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا… إنهم يكرهون منك ما يصغرهم، لا ما ‏يصغرك”‏
ويقول” لا تحسدن غنياً في تنعمه فقد يكثر المال مقروناً به الكدر
تصفو العيون إن قلت مواردها ، والنيل عند إزدياد الماء يعتكر” ‏
‏ وأستلهم د. زكي نجيب محمود في قوله : “إن شعر العقاد هو البصر الموحي إلى البصيرة، والحس المحرك لقوة ‏الخيال، والمحدود الذي ينتهي إلى اللامحدود، هذا هو شعر العقاد”.‏
‏ شعر العقاد أقرب شيء إلى فن العمارة والنحت، فالقصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى هرم الجيزة أو معبد ‏الكرنك منها إلى الزهرة أو جدول الماء، وتلك صفة الفن المصري الخالدة، فلو عرفت أن مصر قد تميزت في ‏عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة عرفت أن في شعر العقاد الصلب القوي المتين جانبا يتصل ‏اتصالا مباشرا بجذور الفن الأصيل في مصر.‏
العقاد والمتنبي يثريان العقل والوجدان بالكبرياء ، وجمال الكلمة والتمكن من ناصية اللغة وسلاسة المنطق ‏والحكمة التي تقول في سطور ما يحكيه الآخرين في صفحات. ‏
May be an image of 1 person and text

التعليقات

التعليقات