أمطرني شباب الحالمون بالغد بشلال من الأسئلة حول أوروبا و روسيا وأوكرانيا ، وموقف العالم ، وموقف مصر بين ثنائية المعايير الدولية ، وفلسفة إحترام المواثيق والعهود ، وثبات قيم حقوق الدول وإحترام حدودها ونظم الحكم فيها.
قال شاب شديد الحماس: كيف يتسني لدولة أن تغزو بقواتها العسكرية دولة أخري بحجة إحتمالات تهديد أمنها في المستقبل ، يبدو أننا نعيش في غابة يا دكتور ، الاقوي عتاداً يتحكم في الأضعف بلا مراعاة لحقوق دولية معترف بها ولا مواثيق أممية موقع عليها.
قلت : الأمور نسبية يا بني، فمن هو الأقوى ؟؟!!وما هي قوانين هذه الغابة التي أعتقدنا أن الإنسانية قد خرجت منها؟
قال زميله: إن حكم بوتين المطلق والديكتاتوري لبلاده قد أثر علي تفكيره وتصرفاته ، ويدفعه لأن يتصرف بعدم إحترام لغيره معتقداً أن هذا حقه .
إبتَسَمت شابة أخري تدرس في كلية العلوم السياسية وقالت : يجب أنْ نتذكر أن الرغبة الروسية بعودة الاتحاد السوفيتي هي عقيدة راسخة في عقل كل روسي، وليست نتيجة طموحات لحظية، أو أهداف شخصية للرئيس بوتين.
وقد قال مراراً : “لقد أنجزنا تنظيم الاتحاد الروسي، ورسالتنا الرئيسة التالية أن نهتم بمحيطنا الجيوسياسي”.
قال زميلها : كذلك من العدالة أن نتذكر أن أمريكا عندما أنشأت “الناتو” كان ذلك انطلاقا من رغبتها في احتواء روسيا، وعدم عودتها خصما موازياً لها ، وبالتالي يجب أن نتذكر أن كلا الطرفين يتصارعان حول النظام العالمي، فمن جهة تريد أمريكا الاستمرار في قيادة العالم بأحادية مطلقة ومن جهة أخري ترغب روسيا في التواجد علي نفس المائدة وهذا حقها.
قلت : الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا يا شباب هي حساب استغرق صنعه ثلاثون عامًا. يتعلق الأمر بما هو أكثر بكثير من أوكرانيا وعضوية الناتو المحتملة ، ولكن يتعلق بمستقبل النظام الأوروبي الذي تم تشكيله بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. خلال التسعينيات ، والذي أنشأت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها هيكلًا أمنيًا أوروبيًا أطلسيًا لم يكن لروسيا أي وجود أو مصلحة فيه . روسيا تتحدى هذا النظام الآن حيث أشار بوتين بشكل روتيني من أن النظام العالمي يتجاهل مخاوف روسيا الأمنية ، وطالب الغرب بالاعتراف بحق موسكو في مجال المصالح المتميزة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي.
قالت الشابة السياسية: لقد قرأت تحليل هام لمايك ويتني يقول أنه لا علاقة للأزمة الأوكرانية بأوكرانيا. الأمر يتعلق بألمانيا، وعلى وجه الخصوص، بخط الأنابيب الذي يربط ألمانيا بروسيا، فهل هذا صحيح؟
قلت : لا أعلم ولكن حسبما قرأت فإن المصلحة الأساسية للولايات المتحدة، تتعارض مع أي تحالف بين ألمانيا وروسيا أساساً أو إزدياد قوة أوروبا عموما .
إن اتحاد هاتين الدولتين معاً يشكل قوة رهيبة يمكن أن تهدد هيمنة أمريكا علي أوروبا .
ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا وكيف أن واشنطن تعتبر خطوط الأنابيب بين البلدين تمثل تهديداً لمصالحها وأولوياتها في أوروبا.
عندما تبدأ عمليات توصيل إمدادات الغاز الروسي إلى كل أوروبا سيكون للمنازل والشركات في ألمانيا مصدر موثوق للطاقة النظيفة وغير المُكلفة، بينما ستشهد روسيا زيادة كبيرة في عائدات الغاز. إنه وضعٌ مربحٌ للطرفين.
التجارة تبني الثقة، والثقة تؤدي إلى توسيع الأعمال التجارية وغير التجارية. وكلما ازداد دفء العلاقات، يتم رفع المزيد من الحواجز بين البلدين، ومعها يتم تخفيف اللوائح والشروط، وينتعش الإقتصاد ، وتنشأ بنية أمنية جديدة بين البلدين. عندما تكون ألمانيا وروسيا دولتين صديقتين وشريكين تجاريين، ليست هناك حاجة لقواعد عسكرية أميركية، ولا حاجة لأنظمة صواريخ وأسلحة أميركية باهظة الثمن، ولا حتى لوجود حلف شمال الأطلسي.
ليست هناك حاجة أيضاً إلى التعامل مع صفقات الطاقة بالدولار الأميركي، أو تخزين سندات الخزانة الأميركية لموازنة الحسابات. يصبح بالإمكان إتمام المعاملات بين شركاء الأعمال مباشرة، وبعملاتهم الخاصة، وهذا يساهم في خفض قيمة الدولار بشكل كبير، وإحداث تحول كبير في القوة الاقتصادية.
هذا هو السبب الرئيسي لمعارضة إدارة بايدن مشروع نقل الغاز بيسر وإستدامة بين روسيا وأوروبا . إنه ليس مجرد خط أنابيب، إنه نافذة على المستقبل؛ مستقبل تتقارب فيه أوروبا وآسيا معاً، في منطقة تجارة حرة وضخمة تزيد من قوتهما المتبادلة، وإزدهارهما المشترك. مستقبل تصبح فيه الولايات المتحدة مهمشة نسبياً . علاقات أكثر دفئاً بين ألمانيا وروسيا ستكون بمثابة “مؤشر” إلى نهاية “النظام العالمي الأحادي القطب” الذي استفردت الولايات المتحدة بقيادته على مدار السنوات الطويلة الماضية. التحالف الألماني-الروسي من شأنه أن يُسرّع انحدار القوة العُظمى التي تدير العالم الآن.
هنا قد يكمن موقع أوكرانيا في الصورة العامة للوضع الراهن. أوكرانيا هي “السلاح المفضل” لواشنطن لوضع إسفين بين ألمانيا وروسيا وباقي أوروبا.
واشنطن تخلق تصورآ بأن روسيا تشكل تهديداً أمنياً لأوروبا ويصدقه العالم وتصدقه الشعوب . البداية بخلق الخيال لإثبات أن بوتين “معتد”، “متعطش للدماء”، “صاحب مزاج صعب” ولا يمكن الوثوق به. ولهذه الغاية، وكما هو معتاد ، يتم تكليف الآلة الإعلامية بالترويج لذلك..
لكن من هم المعتدين في التاريخ الحديث؟؟
إنها الولايات المتحدة في الحقيقة هي التي غزت و أطاحت بأنظمة في أكثر من ٢٥ دولة في السنوات الماضية وليست روسيا، وهي من يحتفظ بأكثر من ٨٠٠ قاعدة عسكرية في مختلف أنحاء العالم. وسائل الإعلام لا تتحدث أبداً عن هذه الحقائق والمسلمات، لكنها توظف كل إمكاناتها وتركيزها على “بوتين الشرير” الذي يهدّد بإغراق أوروبا بأكملها في حرب دموية أخرى”!
ومن السخرية أنها حرب يمكن إنهاءها بإعلان من الولايات المتحدة أن أوكرانيا لن تدخل حلف الناتو ولن توضع أسلحة علي أرضها تهدد روسيا..
ويبدو لي أحياناً أن أعداء الولايات المتحدة الحقيقيون هم حلفاؤها فالتاريخ يقول كما في المثل المصري ، “المتغطي بأمريكا عريان ”
قال الشاب النابه: هل هي إذن مجرد بداية لحرب أوروبية قد تتحول قبل نهاية هذا العام إلى حرب عالمية؟
قلت : في رأيي أنها ستبقى حرباً أوروبية، وسلاح أمريكيا فيها هو العقوبات الاقتصادية الأحادية، التي تستخدمها علي مزاجها وتجبر الآخرين عليها . ومما لا شك فيه أن العقوبات ستؤثر على الطرفين وقد يكون الأثر الأكثر سلباً هو على الجانب الأوروبي ، لأن أمريكا لن تدخل الحَرب على الأرض، وسيكون التأثير السلبي عليها محدوداً ، علماً كذلك أن أوروبا ليست موحدة في الموقف لأن بريطانيا هي الحليف المؤكد لأمريكا وقد يكون خروجها من الإتحاد الأوروبي كان تمهيداً لخنق ألمانيا وروسيا وفرنسا والله أعلم .
قالت الشابة السياسية : إذن تؤكد أنه لن يكون هناك حرب عالمية ثالثة ؟
قلت : كيف لي أن أقول ذلك. ما أستطيع تأكيده هو أن “الحرب العالمية الثالثة” إذا حدثت ، ستكون حربا مختلفة عن الحرب العالمية الثانية ، بسبب طبيعة التطورات التقنية التي تستند إلى القوة العسكرية عن بُعد وإلى الهجمات الإلكترونية، فلا يتوقع أحد أن تحتل جيوش الدول العظمي بعضها ، بل سيتبقي بعض العمل العسكري الأرضي محدوداً.. إنها الحرب التكنولوجية الاقتصادية التي قد تدمر العالم الأفقر والأقل إستعداداً
إلا أنني أتمني في نهاية هذه الأزمة أن ينشأ نظام عالمي جديد، وبقيادة متعددة الأطراف، و اتفاقيات دولية جديدة، كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية!
إن الاتفاق على قيام “نظام عالمي جديد ثلاثي القطبية هو في رأيي في مصلحتنا و كل العالم، بدلا من النظام الأحادي الحالي الذي جعل أمريكا والغرب الموالي شيطاناً أقسي وأعتي من الاستعمار القديم.
قال شاب آخر : وما هو موقفنا يا دكتور.
إذا أيدنا موقف روسيا نخون مبادئنا في عدم الوقوف مع المعتدي، وإذا أخذنا موقف أمريكا و الغرب فكأننا نستهبل أنفسنا لأننا نعلم أنهم بلا مبادئ إنسانية حقيقية ، و هم الذين بدأوا الحرب إستفزازاً بل وساقوا روسيا الي هذا المكان.
ثنائية معايير مرفوضة ، وجنون عظمة وسلطة أحادية ، أمام قرارت أخلاقية علينا الموازنة تجاهها بلا ميوعة ، وأري أن موقف مصر في الأمم المتحدة كان كذلك الي الآن..
السؤال الآن ، هل نقوم بواجبنا في الداخل ، ومع دول المنطقة لمواجهة اللحظة ، والإستعداد لما بعدها.. ؟؟
فلنجمع العقول ، ونطرح الأفكار ، فعلينا أن نقود مصيرنا بأكثر من مجرد قدر الإمكان..
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / علي مقهي “الحالمون بالغد” المعايير الثنائية ، ومأزق الإنسانية