علي مقهي ” الحالمون بالغد”
النداء الجديد في زمن جديد
حسام بدراوي
“أجيال ورا أجيال”
بريشة د. اسامه حمدي
في بداية التسعينات ، كان النداء الجديد….تجمع ليبرالي سياسي تنويري من الدرجة الأولي ، جمع بيننا كشباب وبين الدكتور سعيد النجار رحمة الله علية ، وهو من هو ، علماً وثقافة ومكانة دولية.
كنا نجتمع في رحاب النداء الجديد كل يوم أربعاء ، نتناقش ونتحاور ، ونصدر أوراقاً وبحوثاً ، بهدف إصلاح حال البلاد ونشترك إيجابًا في طرح مبادرات وسياسات ننشرها تباعاً و نتناقلها بيننا.
تعلمت في النداء الجديد إقتصاد وإجتماع وسياسة ، وتفرقنا حسب مفاهيمنا السياسية ، واندمج بعضنا، وانا ود. اسامة الغزالي حرب وغيرنا للإصلاح من داخل النظام، وفضَل بعضنا العمل في إطار المعارضة مثل محمود أباظة ومنير عبد النور. وغيرهم ، وظل الكثيرين مستقلين ،مثل مني ذو الفقار وعمر مهنا وسعد الدين ابراهيم وغيرهم، ولكن كان وظل يجمعنا ويربطنا ما إجتمعنا عليه في النداء الجديد في ذلك الوقت و حتي الآن.
وما أقرب اليوم بالأمس ، حيث وجدتنا نتحاور بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً ، وكأن المشهد السياسي ما زال في نفس اللقطة.
آمنا أن الحرية الفردية أساس كل تقدم حضارى ومنبع كل إبداع، و أن المسئولية هى الوجه الآخر للحرية الفردية، وفلسفتها لا تنظر إلى الفرد باعتباره كيانًا قائمًا بذاته، إنما تنظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من منظومة اجتماعية.
الليبرالى المستنير د.سعيد النجار أثرى جَمْعنا بكتبه ودراساته التى اتسمت دومًا بحس نقدى رفيع، ونزعة إنسانية رحبة، داعياً إلى مجتمع ليبرالى منفتح، يسمح بتحقيق التوازن بين الفرد والجماعة، بين الأهداف الاقتصادية والتطلعات الروحية، بين استقلالية الفرد والحاجة إلى الارتباط بالجماعة، مؤمناً ونحن معه أن ذلك لا يتم إلا من خلال دولة الحق والقانون والديمقراطية، كأساس للحرية والمساواة والتماسك الاجتماعى.
عناوين اصدارات النداء الجديد (وقتها) توافقت مع أحلامنا وشملت “الليبرالية الجديدة” و”مستقبل التنمية فى مصر”، و “الإصلاح الاقتصادى والمفاهيم الخاطئة”، و” الجات والنظام التجارى العالمى” و “ماذا عن حقوق الإنسان؟” و ” نظامنا السياسى فى مفترق الطرق” ، و “نحو تفسير مستنير للتراث” وغيرها .
أذكر حوارنا حول كتاب د.سعيد النجار «تجديد النظام الاقتصادى والسياسى فى مصر» الذى صدر فى جزأيْن عن«دار الشروق» عام1997، انطلاقًا من مقولة محورية ترى أن «الفرد هو الحقيقة الاجتماعية التى تعلو فوق الدولة، وأن الدولة إنما هى وكيلته وخادمه للقيام بوظائف محددة، لا يجوز لها أن تتخطاها أو أن تفتات على حقوقه الأساسية إلا فى الحدود والشروط التى يضعها القانون»، مُضيفًا: «إن الحرية الفردية هى الإطار الصحيح لتحقيق تنمية شاملة مطردة، كما أنها أساس كل تقدم حضارى، ومنبع الإبداع، ومصدر الفضائل».
أكدنا في النداء الجديد العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد الحر ومفهوم العدالة الاجتماعية، فيما أسميناه الليبرالية الإجتماعية.
أما في الجانب التنويري ففي رأيي أنه يوجد تنويريين ولكن لا يوجد للتنوير تياراً متماسكاً في مصر ، وعبر مختلف العصور، يتعرض من يدعو الي التنوير للانتهاك والاغتيال المعنوي والجسدي، بلا كيان يحتمون فيه وبه. والفكرة كانت ولا تزال كيف نخلق هذا التيار؟ وكيف نجمع ركائزه؟ وما هي الآلية التي من خلالها للفكرة التي نؤمن بها أن تنتشر وترتقي.
جزء كبير من إيمانى بالليبرالية والتنوير نابع من استخدام عقلي، وبحثي في المراجع، واستنباط المعاني بمرجعية معرفتي بالعلوم والفلك والطب وخبرتي في الحياة و استماعي واستمتاعي بآراء الآخرين المختلفة عن آرائي؛ ما يحفزني للبحث عن الحقيقة وعن الحلول.
تقول خبرتي إن الكثيرين يتعاركون بدون تعريف لمعاني كلمات يختلفون حولها، ولو اتفقوا على التعريف لما كان هناك سبب للمعارك..
التنوير والليبرالية من هذه الكلمات، التي استنفرت تلاميذي في «الحالمون بالغد» لسؤالي، فدار بيننا الحوار التالي الذي يدل على سعة أفقهم، ورغبة الشباب في المعرفة، وإيمانهم بالعلم طريقا ووسيلة وسعيهم وراء الحرية والكرامة وأملهم في مستقبل مشرق يختلف عن واقع يشكون منه ..
قال الشاب المثقف: ماذا تقصد بكلمة التنوير وما هي علاقتها بالليبرالية ؟ وما علاقة كل ذلك بالإصلاح والنهضة؟
قلت: التنوير هو مصطلح يعبر عن حركة فكرية وثقافية وفلسفية ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا، تدافع عن العقلانية والمنطق، وتنادى بإحكام قوة العقل بوصفها وسيلة لتأسيس نظام شرعي للأخلاق والمعرفة.
يشتمل التنوير على مجموعة من الأفكار التي تركز على:
1- سيادة العقل، باعتباره مصدرًا أساسيًا للمعرفة.
2- تقرير المثل العليا والعمل بها كالحرية والتسامح والإخاء.
3- الحكم الدستوري، وفصل مؤسسات الدين عن الإدارة السياسية للدولة.
4- إحترام الحرية الفردية .
5- التسامح الديني.
6- اتباع المنهج العلمي في التفكير
فضلا عن التشكيك في العقائد المتوارثة بلا مرجعية ورفض الحكم القائم علي التخويف وإرهاب الفكر ، وهو الموقف الذي سلط عليه الضوء الفيلسوف (إيمانويل كانط)، في مقالته الرائعة «تجرأ على المعرفة»، قائلا إن حماية الإنسان وتعليمه يكمنان في أن يصبح ناضجا، وقادرا على الاعتماد على نفسه، وأن يستخدم عقله للتحرر من المعتقدات الغريزية في الحقائق المعطاة، سواء تلك الغرائز الفطرية التي تشكلت في ميدان المعرفة، أو تلك المستوحاة من العادات، وهذه هي وسيلته الوحيدة للحداثة والترقي.
قال الشاب: وماذا في استخدام العلم والعقل والمنطق من ضرر؟!
قالت أخري: إن دستور مصر الذي وافق الشعب يؤكد هذه المفاهيم ، بل يفصلها تفصيلاً
وقال ثالث: وما القيود التي تعوق التنوير وممارسة الحرية بهذا المعنى؟
قلت: القيود كثيرة، وأهمها راحة الإنسان لبقاء الأمر كما هو عليه؛ حيث إن التغيير يستلزم جهدا وتنازلات مشتركة وانتقالا من زمن إلى زمن جديد تتغير فيه المسؤوليات، وتتعدد فيه التوجهات، وتتعلم فيه الشعوب من أخطاءها ، ويتعلم فيه الحكام من مصائر من سبقوهم .
الخبرة تقول أنه إذا استتب الحكم لطائفة سياسية أو دينية، فلماذا يعرضون أنفسهم لهزات قد تسلبهم ملكاً أو تحكماً في الشعوب؟ ولكن هذه مسؤولية كل مواطن مستنير في الأمة أمام المجتمع الذي نعيش فيه، وهي مهمة إجتماعية وسياسية و تربوية للتحرر من الجهل والظلامية وطغيان النظم الديكتاتورية المطلقة إلى حرية ينظمها القانون، وعقل يتسع لقبول الاختلاف على تنوع مسمياته، بل احترامه.
دعونا نحدد أسس التنوير ومظاهر الحرية الذي نقصدها أولا، حتى لو اختلفنا في أيديولوجيات الحكم، وفي معتقداتنا الاقتصادية و الدينية والثقافية، وأن نجعل لإنتمائنا لفلسفة الدستور منصة نجتمع فيها وحولها.
لم يتواني النداء الجديد في التسعينات عن تأكيد تلازم الإصلاح السياسى والإصلاح الاقتصادى، وفي واحدة من «رسائل جمعية النداء الجديد» بعنوان «نظامنا السياسى فى مفترق الطرق»، وكنا قد دعينا مع د. سعيد لحضور «مؤتمر الحوار الوطنى» وقتها أرسلنا رسالة الي رئيس الجمهورية نقول فيها «إننا ــ يا سيادة الرئيس ــ نؤمن إيماناً عميقا بأن المشكلة الأولى فى مصر فى هذه المرحلة الدقيقة التى نمر بها، هى مشكلة نظامنا السياسى الذى يعانى من اختلالات شديدة تحول دون المواجهة الجادة لما يعترضنا من تحديات ونحن على عتبة القرن الحادى والعشرين.. ومن ثم فإن نقطة البداية فى إخراج مصر من أزمتها الراهنة ودفعها فى طريق التقدم والازدهار، إنما تتمثل فى مراجعة شاملة لنظامنا السياسى بوضع دستور جديد، على أسس ومبادئ ديمقراطية حقيقية». ( هذا في منتصف التسعينات وليس اليوم)
وقالت إحدي رسائل النداء الجديد “إن الديمقراطية تعنى تداول السلطة، وليس عندنا أى تداول للسلطة،( كان قد مر علي حكم الرئيس مبارك وقتها عشر سنوات) وهو ما يتعارض مع أبسط مبادئ الديمقراطية، وأفضى إلى ركود الحياة السياسية، وضمور الأحزاب، وانتشار السلبية إزاء العمل العام على أوسع نطاق “
وفي رسالة بعنوان «مفهوم المواطنة فى الدولة الحديثة»، خلُصنا فيها إلى أن مصر القرن الحادى والعشرين دولة مدنية تستوجب المساواة بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن ديانتهم أو جنسيتهم أو عنصرهم أو عقيدتهم السياسية، محذّرين من خطورة رفع شعار الخصوصية على حقوق الإنسان؛ لأنه يعنى ببساطة أن علينا أن نعترف بأن ما فى القوانين الداخلية من صور التمييز المختلفة إنما يرجع إلى خصوصية الحضارة الإسلامية، ومن ثَمَّ، لا مناص من القبول بعالمية مبادئ حقوق الإنسان؛ بوصفها القاسم المشترك بين جميع الأشخاص والشعوب، أو قل إنها الحد الأدنى الذى تتطلبه الكرامة الإنسانية.
حقيقة الأمر ، وبمراجعة التاريخ ، فإنني أعاود الدعوة الي النداء الجديد في زمن جديد، وحزين، رغم تفائلي الطبيعي، أننا ما زلنا في نفس اللقطة و الإحتياج لنداء جديد.