علي مقهي “الحالمون بالغد”
النوم بين العلم واللغة
حسام بدراوي وصديقته الجِنًية
هذا حوار مع صديقتي، ملاك من الجنة صنعه خيالي في صورة جِنًيًة ، حول النوم. وتخيلت هذه الجِنًيًة الصديقة ذكية لمَّاحة، خفيفة الظل، عالمة ببواطن الأمور و اللغة، مطلعة على ما تخبئه النفوس، صاحبة همزات ولمزات وتشرح اللغة بالقصص والحكايات.
قلت لها: سأكلمك عِلم وتكلميني نَحوي عن النوم وما حوله. فأنتي زائرتي فيه أحيانا وفي صحوي. قالت: تعالي نغوص في أحوال النوم، ونحيط به وظروفه، وأنا تحت أمرك في الشرح وصنوفه.
قلت: النوم هو حالة طبيعية من الإسترخاء عند الكائنات الحية، وتقل خلاله الحركات الإرادية والشعور بما يحدث حولهم.
النوم يعتبر تغيرًا لحالة الوعي وليس فقدانا له كما في حاله التخدير أو الغيبوبة المرضية. إنَّه ظاهرة طبيعية لإعادة تنظيم نشاط المخ والفعاليات الحيوية الأخرى في الكائنات الحية ولايمكن للإنسان أن يعيش بدون نوم. إننا نقضي حوالي ثلث حياتنا نائمين، وتحدث خلال النوم العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم بصفة عامة. بعض الوظائف الحيوية تكون أنشط خلال النوم، وبلغة الموبايل التي إبتكرها الإنسان، فكأنها مرحلة يحتاجها الجسد البشري لشحن بطاريته وطاقاته ويحدث خلالها تنزيل لبعض الوظائف وتجديد للبرامج الرقمية في المخ والكبد والأنسجة والخلايا وخلافه.
قالت صديقتي: في اللغة العربية وبدون تفصيلات العِلم، مراحل النوم التي نعرفها هي الهجوع والإضطجاع والنعاس والوسن والترنيق والتغفيق والرقاد والتهويم والكرى والسبات.
إبتسمت وقلت لها: إذن التقسيم العلمي للنوم أيسر من اللغة!!!.
قالت: زدني معرفة بالعلم، وسأدلك على معاني اللغة في النوم.
قلت: يتم تنظيم النوم في مناطق محددة من المخ وبتأثير من هرمونات مثل الميلاتونين التي تنشأ في منطقة الغدة النخامية [hypothalamus] وهي المنطقة التي تقوم بتنظيم وقت النوم . واستناداً على دراسات أجريت على الموجات الدماغية أثناء النوم، تم تقسيم النوم إلى ثلاث مراحل، وظاهرها للدارس هو حركة العين السريعة وغير السريعة أثناء النوم مع دراسة لكهرباء المخ.
قالت: ماذا يعني ذلك ؟
قلت: أول مراحل النوم تكون حركة العين أثنائها غير سريعة وبعدها مرحلة الحركة السريعة ، وتتوالي الدورات أثناء النوم. كل مرحلة تأخذ من ٥ إلى ١٥ دقيقة قبل الدخول في نوم المرحلة الثالثة التي تستغرق حوالي ١٠ دقائق وأحيانا تمتد إلى ساعة. في المرحلة الأولى، مرحلة التثاؤب والنوم الأولى تكون العيون مغلقة ولكن من السهل الإستيقاظ منها. في المرحلة الثانية، وهي مرحلة النوم الخفيف، يقل فيها مستوى الوعي بالأحداث الخارجية ويقل عدد ضربات القلب ويستعد الجسم للنوم العميق، و في المرحلة الثالثة، يكون النوم عميقا ويصعب الإستيقاظ منه. في هذه المرحلة، يرمم الجسم نفسه، وتنمو الخلايا الجديدة والأنسجة والعضلات وتتحسن موارد المناعة في الجسم، ويقضي الأطفال ٥٠٪ من نومهم في هذه المرحلة. وهذه الدورة التي تستغرق حوالي ٩٠ دقيقة، تتكرر طوال فترة النوم التي يحتاجها الجسم ليعيد برمجة نفسه ونموه وإصلاح أي تلف حدث فيه. و يتأثر عمق النوم بدرجة الإضاءة، والضوضاء . وليكون صحيا للمخ، فلابد أن يحدث في ظلام الليل وليس في ضوء النهار وفي سكون لا يوقظ المخ والحواس.
قالت: ومتى تحدث الأحلام ؟
قلت: الأحلام تستغرق عدة دقائق فقط من كل ٩٠ دقيقة لتبدأ بعدها دورة جديدة من المراحل. والأحلام هي تطبيق واضح لنظرية أينشتين في نسبية الزمن. فزمن الأحلام لا علاقة له بزمن الصحيان، فما نعتقد أنه ساعات قد يكون ثوان، والذهن قادر على تخطي الزمن وربط الماضي بالحاضر واسترجاع واستنباط أحداث مع من توفاهم الله والإنتقال إلى أي مكان في الكون.. أثناء النوم كل شئ ممكن..
قالت: وكم عدد الساعات التي نحتاجها للنوم الصحي ؟
قلت: تختلف الفترة التي يحتاجها الفرد للنوم من شخص إلى آخر وقد تكون فترة ٨ ساعات كمعدل لفترة النوم الضرورية في اليوم الواحد. وتقول الأبحاث أن قلة النوم قد تؤدي إلى زيادة نسبة بعض الأمراض مثل ارتفاع ضغط الدم والجلطة القلبية والسرطان. وهناك إحتمال كبير في أن تقل المناعة عموما عند قليلي النوم. إن احتياج الأطفال للنوم ساعات أطول له منطقه العلمي لاحتياجهم للنمو، واحتياج كبار السن للنوم ساعات أقل يصبح أيضا منطقيا.
بعض الناس خصوصاً بعد ارهاق بدني وذهني يمرون بليلة او اثنين بنوم طويل يمتد لساعات أطول وليس ذلك مرضاً بل هو استرجاع لطاقة فُقدت وأحيانا لهروب من مواجهة مواقف حياتية في الصحيان ، الي أن يصل الذهن الي استيعاب اكبر لها. النوم هنا جزء من استراتيجية العقل لإعادة النشاط ، وفي لغة الكمبيوتر إعادة تشغيل “rebooting”
قالت: زدتني علما ومعرفة بلغة العلماء. وبالطبع فإن علماء اللغة العربية لم يكن لديهم الوسائل العلمية التي تجعلهم ينظرون إلى النوم بنظرتك، ولكنهم سموا مراحل النوم كما لاحظوها ووصفوها. وبما أني أتكلم عن اللغة فكلامي معك سيكون مليئا بالإشارات والتلميحات الشعرية، والموازنات السجعية، فتحملني وأنت تصغي إلي.
قلت: هاتي ما عندك يا أديبة، يا شاعرة، يا جِنيًة.
قالت : أذكرك بوصف النوم وأنواعه وليس بمراحله وأسبابه: الهجوع والاضطجاع والنعاس والوسن و الترنيق والتغفيق والرقاد والتهويم والكرى والسبات.
الهجوع في اللغة هو الإلتجاء إلى المهجع، أي غرفة النوم لننام. و أحسن أوقاته أول الليل. ولقد جاء ذكر الهجوع في القرآن الكريم”كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ” الذاريات (17). أما الإضطجاع فمعناه في اللغة الإستلقاء على أحد الجانبين مع الإرتكاز على الكف أو الكوع أو الزند أو كل الذراع. وإختصاراً يقال في العامية المصرية على المُضًطجع أنه ” مِكَوّع”.
أما النعاس، فأصله نعس أي فترت حواسه فقارب النوم. ومنها نعس حظه أي قلّ. ومنها نعست السوق أي كسدت و بارت بضاعتها. و النعاس فيه سكينة، و فتور همة، وثقل في الجفون، و قلة تركيز فيما يُسمع أو يُقال أو يحدُث. وقد ذكر النعاس مرتين في القرآن الكريم : ” إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ” (الأنفال). وفي سورة آل عمران يقول” ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ”.
أما الوسن فهو نفس النعاس و لكنه غفوة بسيطة فإنتباهة، يتكرران في متتالية من الكسل اللذيذ. ويقال: “وسن الشخص” أي أخذته غفوة قصيرة. وفي القرآن الكريم في وصف الله تعالى: ” لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ ( البقرة)
والمعنى واضح. ويقال: العيون التي في طرفها حَوَرُ والجفون التي في طرفها وَسَنُ.
قلت: قولي كمان..
قالت: والله ما كنت لأقول شيئاً من هذا إلا لكونه وسيلة للتواصل معك يا صديقي من بني الإنسان. وأضافت: الترنيق هو مد البصر بعيداً في سرحان ثم العودة لليقظة الكاملة في متواليات قصار و سريعة والانسان لا نائماً ولا يقظان. وأمثلته في اللغة كثيرة، منها رنق الطير: أي وقف ساكناً في السماء ناشراً وصافاً جناحيه لا يمضي محلقاً ولا يهوي هابطاً. والتغفيق كلمة منحوتة لُغوياً من كلمتي الإغفاء والإفاقة. وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان مغمضاً عينيه فيبدو كالنائم و لكنه في الحقيقة يبقى مدركاً بحاستي السمع و اللمس. وقد يتبع النومُ التغفيقَ و قد تتبعه اليقظة الكاملة.
وإستكملت الجِنية قائلة: أما التهويم، فهو بداية النوم السابقة على الكرى، نتيجة رتابة الهز أو الهدهدة مثلما يحدث أثناء السفر في القطار أو السيارة ،أو تهويم الطفل لينام.
ثم يأتي الرقاد وجذره اللغوي من الفعل رقَد بمعاني شتى و أكثرها شيوعاً أن الإنسان يستلقى و يتمدد على الفراش تهيئةً للنوم أو للراحة، وجاء ذكر الرقود في سورة أهل الكهف: “وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ”. وأحياناً يكون الرقود لشعب ما من فعل نظام الحكم، عندما تُكبل العقول فتفتر الهمم وتنضب الأفكار و ينعدم الإبداع و تفر الكفاءآت. و يصبح الوطن مَرقداً.
قلت: يا جنية ده إنتي أيضاً طلعتي سياسية!!
رمقتني بابتسامة وأكملت: سُميَّ الكرى كذلك لأنه يتكرر أكثر من مرة في نفس الليلة في متوالية تتابعية مع (السُبات ). الكرى وعاء الأحلام والأوهام والإلهام و الرؤى و الأفكار الموحية و الإتصال بالروح والشعور عن بُعد و الكوابيس. و قد جاء في قصيدة الأطلال : ” يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى و تولَّى الليل والليل صديق”.
قلت لها: أفحمتيني بالمعاني، والأوصاف وإدخال الفن والسياسة والتاريخ في شرح الكلمات.
وإلى لقاء.
“الصورة المرفقة هي لوحة الجمال النائم للفنان فيكتور غيلبر ١٩٨٠م”