الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / علي مقهي الحالمون بالغد “النوم بين العلم واللغة” حسام بدراوي

علي مقهي الحالمون بالغد “النوم بين العلم واللغة” حسام بدراوي

علي مقهي “الحالمون بالغد”‏
النوم بين العلم واللغة
حسام بدراوي وصديقته الجِنًية
هذا حوار مع صديقتي، ملاك من الجنة صنعه خيالي في صورة جِنًيًة ، حول النوم. وتخيلت هذه الجِنًيًة الصديقة ‏ذكية لمَّاحة، خفيفة الظل، عالمة ببواطن الأمور و اللغة، مطلعة على ما تخبئه النفوس، صاحبة همزات ولمزات ‏وتشرح اللغة بالقصص والحكايات. ‏
قلت لها: سأكلمك عِلم وتكلميني نَحوي عن النوم وما حوله. فأنتي زائرتي فيه أحيانا وفي صحوي. قالت: تعالي ‏نغوص في أحوال النوم، ونحيط به وظروفه، وأنا تحت أمرك في الشرح وصنوفه. ‏
قلت: النوم هو حالة طبيعية من الإسترخاء عند الكائنات الحية، وتقل خلاله الحركات الإرادية والشعور بما يحدث ‏حولهم. ‏
النوم يعتبر تغيرًا لحالة الوعي وليس فقدانا له كما في حاله التخدير أو الغيبوبة المرضية. إنَّه ظاهرة طبيعية ‏لإعادة تنظيم نشاط المخ والفعاليات الحيوية الأخرى في الكائنات الحية ولايمكن للإنسان أن يعيش بدون نوم. إننا ‏نقضي حوالي ثلث حياتنا نائمين، وتحدث خلال النوم العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم بصفة ‏عامة. بعض الوظائف الحيوية تكون أنشط خلال النوم، وبلغة الموبايل التي إبتكرها الإنسان، فكأنها مرحلة ‏يحتاجها الجسد البشري لشحن بطاريته وطاقاته ويحدث خلالها تنزيل لبعض الوظائف وتجديد للبرامج الرقمية ‏في المخ والكبد والأنسجة والخلايا وخلافه.‏
‏ قالت صديقتي: في اللغة العربية وبدون تفصيلات العِلم، مراحل النوم التي نعرفها هي الهجوع والإضطجاع ‏والنعاس والوسن والترنيق والتغفيق والرقاد والتهويم والكرى والسبات. ‏
إبتسمت وقلت لها: إذن التقسيم العلمي للنوم أيسر من اللغة!!!. ‏
قالت: زدني معرفة بالعلم، وسأدلك على معاني اللغة في النوم. ‏
قلت: يتم تنظيم النوم في مناطق محددة من المخ وبتأثير من هرمونات مثل الميلاتونين التي تنشأ في منطقة الغدة ‏النخامية [hypothalamus] وهي المنطقة التي تقوم بتنظيم وقت النوم . واستناداً على دراسات أجريت على ‏الموجات الدماغية أثناء النوم، تم تقسيم النوم إلى ثلاث مراحل، وظاهرها للدارس هو حركة العين السريعة وغير ‏السريعة أثناء النوم مع دراسة لكهرباء المخ. ‏
قالت: ماذا يعني ذلك ؟ ‏
قلت: أول مراحل النوم تكون حركة العين أثنائها غير سريعة وبعدها مرحلة الحركة السريعة ، وتتوالي الدورات ‏أثناء النوم. كل مرحلة تأخذ من ٥ إلى ١٥ دقيقة قبل الدخول في نوم المرحلة الثالثة التي تستغرق حوالي ١٠ ‏دقائق وأحيانا تمتد إلى ساعة. في المرحلة الأولى، مرحلة التثاؤب والنوم الأولى تكون العيون مغلقة ولكن من ‏السهل الإستيقاظ منها. في المرحلة الثانية، وهي مرحلة النوم الخفيف، يقل فيها مستوى الوعي بالأحداث ‏الخارجية ويقل عدد ضربات القلب ويستعد الجسم للنوم العميق، و في المرحلة الثالثة، يكون النوم عميقا ويصعب ‏الإستيقاظ منه. في هذه المرحلة، يرمم الجسم نفسه، وتنمو الخلايا الجديدة والأنسجة والعضلات وتتحسن موارد ‏المناعة في الجسم، ويقضي الأطفال ٥٠٪ من نومهم في هذه المرحلة. وهذه الدورة التي تستغرق حوالي ٩٠ ‏دقيقة، تتكرر طوال فترة النوم التي يحتاجها الجسم ليعيد برمجة نفسه ونموه وإصلاح أي تلف حدث فيه. و يتأثر ‏عمق النوم بدرجة الإضاءة، والضوضاء . وليكون صحيا للمخ، فلابد أن يحدث في ظلام الليل وليس في ضوء ‏النهار وفي سكون لا يوقظ المخ والحواس. ‏
قالت: ومتى تحدث الأحلام ؟ ‏
قلت: الأحلام تستغرق عدة دقائق فقط من كل ٩٠ دقيقة لتبدأ بعدها دورة جديدة من المراحل. والأحلام هي تطبيق ‏واضح لنظرية أينشتين في نسبية الزمن. فزمن الأحلام لا علاقة له بزمن الصحيان، فما نعتقد أنه ساعات قد ‏يكون ثوان، والذهن قادر على تخطي الزمن وربط الماضي بالحاضر واسترجاع واستنباط أحداث مع من توفاهم ‏الله والإنتقال إلى أي مكان في الكون.. أثناء النوم كل شئ ممكن.. ‏
قالت: وكم عدد الساعات التي نحتاجها للنوم الصحي ؟
‏ قلت: تختلف الفترة التي يحتاجها الفرد للنوم من شخص إلى آخر وقد تكون فترة ٨ ساعات كمعدل لفترة النوم ‏الضرورية في اليوم الواحد. وتقول الأبحاث أن قلة النوم قد تؤدي إلى زيادة نسبة بعض الأمراض مثل ارتفاع ‏ضغط الدم والجلطة القلبية والسرطان. وهناك إحتمال كبير في أن تقل المناعة عموما عند قليلي النوم. إن احتياج ‏الأطفال للنوم ساعات أطول له منطقه العلمي لاحتياجهم للنمو، واحتياج كبار السن للنوم ساعات أقل يصبح أيضا ‏منطقيا.‏
بعض الناس خصوصاً بعد ارهاق بدني وذهني يمرون بليلة او اثنين بنوم طويل يمتد لساعات أطول وليس ذلك ‏مرضاً بل هو استرجاع لطاقة فُقدت وأحيانا لهروب من مواجهة مواقف حياتية في الصحيان ، الي أن يصل ‏الذهن الي استيعاب اكبر لها. النوم هنا جزء من استراتيجية العقل لإعادة النشاط ، وفي لغة الكمبيوتر إعادة ‏تشغيل ‏‎“rebooting” ‎
‏ قالت: زدتني علما ومعرفة بلغة العلماء. وبالطبع فإن علماء اللغة العربية لم يكن لديهم الوسائل العلمية التي ‏تجعلهم ينظرون إلى النوم بنظرتك، ولكنهم سموا مراحل النوم كما لاحظوها ووصفوها. وبما أني أتكلم عن اللغة ‏فكلامي معك سيكون مليئا بالإشارات والتلميحات الشعرية، والموازنات السجعية، فتحملني وأنت تصغي إلي.‏
‏ قلت: هاتي ما عندك يا أديبة، يا شاعرة، يا جِنيًة.‏
‏ قالت : أذكرك بوصف النوم وأنواعه وليس بمراحله وأسبابه: الهجوع والاضطجاع والنعاس والوسن و الترنيق ‏والتغفيق والرقاد والتهويم والكرى والسبات. ‏
الهجوع في اللغة هو الإلتجاء إلى المهجع، أي غرفة النوم لننام. و أحسن أوقاته أول الليل. ولقد جاء ذكر الهجوع ‏في القرآن الكريم”كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ” الذاريات (17). أما الإضطجاع فمعناه في اللغة الإستلقاء ‏على أحد الجانبين مع الإرتكاز على الكف أو الكوع أو الزند أو كل الذراع. وإختصاراً يقال في العامية المصرية ‏على المُضًطجع أنه ” مِكَوّع”.‏
‏ أما النعاس، فأصله نعس أي فترت حواسه فقارب النوم. ومنها نعس حظه أي قلّ. ومنها نعست السوق أي كسدت ‏و بارت بضاعتها. و النعاس فيه سكينة، و فتور همة، وثقل في الجفون، و قلة تركيز فيما يُسمع أو يُقال أو يحدُث. ‏وقد ذكر النعاس مرتين في القرآن الكريم : ” إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ‏وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ” (الأنفال). وفي سورة آل عمران يقول” ثُمَّ ‏أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ”. ‏
أما الوسن فهو نفس النعاس و لكنه غفوة بسيطة فإنتباهة، يتكرران في متتالية من الكسل اللذيذ. ويقال: “وسن ‏الشخص” أي أخذته غفوة قصيرة. وفي القرآن الكريم في وصف الله تعالى: ” لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ ( البقرة)‏
والمعنى واضح. ويقال: العيون التي في طرفها حَوَرُ والجفون التي في طرفها وَسَنُ. ‏
قلت: قولي كمان.. ‏
قالت: والله ما كنت لأقول شيئاً من هذا إلا لكونه وسيلة للتواصل معك يا صديقي من بني الإنسان. وأضافت: ‏الترنيق هو مد البصر بعيداً في سرحان ثم العودة لليقظة الكاملة في متواليات قصار و سريعة والانسان لا نائماً ‏ولا يقظان. وأمثلته في اللغة كثيرة، منها رنق الطير: أي وقف ساكناً في السماء ناشراً وصافاً جناحيه لا يمضي ‏محلقاً ولا يهوي هابطاً. والتغفيق كلمة منحوتة لُغوياً من كلمتي الإغفاء والإفاقة. وهي المرحلة التي يكون فيها ‏الإنسان مغمضاً عينيه فيبدو كالنائم و لكنه في الحقيقة يبقى مدركاً بحاستي السمع و اللمس. وقد يتبع النومُ ‏التغفيقَ و قد تتبعه اليقظة الكاملة.‏
‏ وإستكملت الجِنية قائلة: أما التهويم، فهو بداية النوم السابقة على الكرى، نتيجة رتابة الهز أو الهدهدة مثلما ‏يحدث أثناء السفر في القطار أو السيارة ،أو تهويم الطفل لينام.‏
‏ ثم يأتي الرقاد وجذره اللغوي من الفعل رقَد بمعاني شتى و أكثرها شيوعاً أن الإنسان يستلقى و يتمدد على ‏الفراش تهيئةً للنوم أو للراحة، وجاء ذكر الرقود في سورة أهل الكهف: “وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ”. وأحياناً ‏يكون الرقود لشعب ما من فعل نظام الحكم، عندما تُكبل العقول فتفتر الهمم وتنضب الأفكار و ينعدم الإبداع و ‏تفر الكفاءآت. و يصبح الوطن مَرقداً. ‏
قلت: يا جنية ده إنتي أيضاً طلعتي سياسية!!‏
رمقتني بابتسامة وأكملت: سُميَّ الكرى كذلك لأنه يتكرر أكثر من مرة في نفس الليلة في متوالية تتابعية مع ‏‏(السُبات ). الكرى وعاء الأحلام والأوهام والإلهام و الرؤى و الأفكار الموحية و الإتصال بالروح والشعور عن ‏بُعد و الكوابيس. و قد جاء في قصيدة الأطلال : ” يقظةٌ طاحت بأحلام الكرى و تولَّى الليل والليل صديق”. ‏
قلت لها: أفحمتيني بالمعاني، والأوصاف وإدخال الفن والسياسة والتاريخ في شرح الكلمات. ‏
وإلى لقاء.‏
“الصورة المرفقة هي لوحة الجمال النائم للفنان فيكتور غيلبر ١٩٨٠م”

التعليقات

التعليقات