الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ – صناعة الوعي وملء الفراغ ‎

علي مقهي “الحالمون بالغد”‏ – صناعة الوعي وملء الفراغ ‎

علي مقهي الحالمون بالغد
صناعة الوعي وملء الفراغ
بقلم
حسام بدراوي
كتب مرة الكاتب المبدع طارق الشناوي قائلا : الكلمات النابية لم تعد تثير إندھاش أحد، تمتعت من فرط تداولها بحصانة إجتماعية ضمنية، سيطرت تماماً على »المیدیا« التقلیدیة، بعد أن تم فطامها من »السوشیال میدیا«، فهى تحقق القسط الأكبر من المتابعات، وفى هذا الزمن صار الجميع یتنبارون بالأرقام، إنه الترمومتر الذى يتابعون درجاته صعوداً وھبوطاً.
وعَلَقت عليه قائلا:
حتي الأخبار التي كانت تقلب العالم وتسقط الحكومات أصبحت مثل الكلمات النابية لها حصانة ولا تلقي ردود فعل كما كان في السابق، مثلا الرئيس الأمريكي السابق يقول نحن ( الولايات المتحدة ) الذين صنعنا داعش، أو يقول رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لم يكن في العراق أسلحة دمار شامل ، وهو السبب في غزو العراق وقتل الآلاف وتقسيم البلاد.. ولا يحدث شئ ولا تسقط حكومات ولا حتي ينفعل الناس..
الأمثلة كثيرة علي فقدان الحقيقة تأثيرها من كثرة وتعود الكذب وتكراره ..
زمان في شبابي لما كنت أذهب لاستاد القاهرة في المباريات شغلني جداً أن الجمهور يشترك في الهتاف ضد حكم أو لاعب في سباب بالأم وكلھم محمیین ببعض. والعجیب أن الجالسین في المقصورة من كبار رجال الدولة كانوا یرددون نفس الإباحة بتحریك الشفایف فقط بدون صوت حرجاً. وقلت لنفسي أنه لابد من دراسة إجتماعیة لتصرف الجمھور جمعیاً في النطق بالسباب والسعادة بذلك.
وعندما كنت أحلل تصرفات الجماھیر في المظاهرات سیاسیاً وجدت غوستاف لوبان عالم الاجتماع ، والأنثروبولوجیا،الفرنسي عام 1895 يحلل في دراسة متعمقة العقل الجمعي للحشد و یوضح وجود كينونة جديدة منبثقة عن اندماج الناس مجتمعين، حيث عندما يكونون معا ینشأ مجال مغناطيسي من الجمع أو لأسباب أخري مثل “التماھي” وھو تقلید الجمع من السلوك الفردي ليصبح جزءاً من هذا التكوين الجمعي، الذي يستولى من كل فرد في القطيع على آرائه ومعتقداته و قيمه الشخصية. وكما قال في واحدة من مقولاته : أن ھناك ثلاث عمليات رئیسیة تؤثر في سلوك الحشد: مجھولیة الھویة، و الإيحاء والعدوى.
مجھولیة الھویة تعطي شعوراً بفقدان للمسؤولية الشخصية ويصبح الشخص أكثر بدائية وعاطفية وبلا قيود،وتمنحه شعور بأنه لا یُقھر.
والعدوى تعني انتشار سلوك معين خلال الحشد كأعمال الشغب و تحطيم النوافذ وإلقاء الحجارة إذ يبادر شخص بالفعل فيتبعه آخرون وقد تظهر سلوكيات عكسية مثل التضحية بالمصلحة الشخصية للمصلحة الجماعیة.
أما الإيحاء فهي الآلية التي يتم من خلالها انتقال العدوى، فالھتافات القوية السجعية تجعل اللاوعي عنصري، ويصبح الحشد متجانس ومرن ومتقبل اقتراحات أقوى أعضائه، أؤلئك الذين يقودون المسيرة أو الحشد أو التظاهرة و یمكنھم بأصواتهم العالية قيادة وتوجيه المجموعة، ومثل هؤلاء أصبحوا مدربون في الوقت الحاضر، ومسار أي مظاهرة كبيرة يمكن أن يكون محدداً بشكل كبير مسبقاً بقیادتھم.
ولو كان لوبان معاصراً لنا لأضاف أثر الاعلام و السوشیال میدیا علي جعل ما ھو قبیح مقبول ویتیح للأفراد شعور الحماية المجتمعية بدون تجمع الجمهور فتتدنى الألفاظ واللغة كما يصف الكاتب.
بل وأذهب خطوة زائدة وأقول أن خلق الانطباعات الجمعية أصبح علماً يجعلها حقيقة ولا تحتاج لبرهان ، وأن تكرار الأخبار بنماذج متعددة يؤدي الي قبول ما كان لا يمكن قبوله.
كذلك كتبت د.أماني فؤاد قائلة تحت عنوان “من يصنع الوعي؟ (وتقصد الوعي المستقر في المجتمعات وليس الوعي اللحظي )، عادة هم فئة الطبقة الوسطى من المدرسین وأساتذة الجامعة، والكتاب والصحفیین، حيث ينقلون الأفكار من قيمة استعلائية مجردة ینتجھا المفكرون إلى قيمة تداولية، تصل إلى تحققها على مستوى السلوك، وعندما تنحدر ثقافة تلك الفئة تنحدر الثقافة العامة لأنهم الطبقة التي تحافظ على الوعي الجمعي المستدام ، وتشكله بداية من الأسرة الصغيرة كوحدة وصولا لكل طبقات المجتمع وشرائحه.
منذ بزوغ عصر الصورة “السنيما والتلیفزیون” وسيادة ثقافة المشاهدة یسھم الفنانون “الممثلون والمطربون”، والریاضیون، ونجوم البرامج الحوارية في صناعة الوعي وتشكيله أیضاً.
وفي اللحظة الآنية المعاصرة يتم تشكيل وعي الشباب الصغير عبر ما یُقدم في التلیفزیون والسينما ووسائط التواصل الاجتماعي كافة، بما تتضمنه هذه الأعمال والفیدیوھات أحيانا من نماذج طفیلیة غريبة بالنسبة للأجيال الكبيرة، لكنها جاذبة للأجيال الصاعدة لمخالفتها للسائد والتقليدي، فتلك الشخصيات تزيح النمط المستقر في الأذهان عن البطل ومظهره العام وما يرتدي من ملابس، وتقدم نمطا غريبا حول كيف يفكر ويتصرف عندما تواجھه الأحداث، ماهي أحلامه وطموحاته، ماذا يدرس، و ھل يأخذ دراستة على محمل الجد، ماذا یسمع من أغنيات وكيف يعامل أسرته وأصدقاءه وحبیبته، طريقة كلامه ومعجم مفرداته التي یستخدمھا، ماذا يمتلك، ھل ھو منتمي إلى شيء ويشعر بھویته؟ أن الخير والشر يتجاوران في المجتمعات وهو الشيء الطبيعي، لكنني أرصد ھنا مفهوم استباحة العنف اللفظي والجسدي في الخلافات الیومیة والمغالاة فیها، وامتلاك الأسلحة البيضاء وإشھارھا في مواجهة من نختلف معهم، كأننا بذواتنا تحولنا للسلطة التنفیذیة والسلطة القضائية معا، كأن الأفراد أصبحوا ھم القانون، وكأن بعض الشباب یعیدون انتاج ما يرونه على الشاشات في الدراما.
كذلك تسهم الموسيقى والأغنيات في تشكيل الوعي أيضا، وطبيعة المزاج العام للشباب، ما يخترق وجدانھم ومشاعرهم وذائقتهم من أنغام وكلمات الأغنیات التي یسمعونھا، ويراودني دائما شعور بأن موسيقى المهرجانات وكلمات أغانیھا المبتذلة في الغالب كفيلة بصنع حالة عراك داخلي وخارجي لدى الشباب، إن ما تتركه هذه الموسيقى المعدنية الاحتكاكية من حالة صخب وما یصاحبھا من انطلاق عشوائي لحركة الأجساد في رقصات إيقاع غير منتظم يترك أثرا كامنا عند الشباب يتمثل في: فوضى الحركة، وحالة من الصخب العام والانفعال، الضحالة وعشوائية تناول الحياة.
فكرت أنا كسياسي فيما یقوله الكاتبان ، وفي فوضي تشكيل الوعي للمجتمع المصري، لماذا ظهرت هذه النماذج ، أھي تعبير عن واقع الوجدان المجتمعي أم ھي ممنھجه لتشكيله. التجربة السیاسیة تقول أن أي فراغ سیاسي أو وجداني في المجتمع سیتم ملئه بشئ.
مثلا الدوله عبر سنوات لم تنجح في تقديم خدمات أعتبرها حقوقا في الرعایة الصحية والتعلیم والمواصلات والسكن، فماذا حدث؟ الرعایة الصحیة الأولیة امتلكتها في وقت ما جماعة الإخوان في الجوامع وامتلكت حق الوصول الي قلب الأسر المصریة. فشلت الدولة عبر السنین في تحقيق أهداف التعليم ، فانتشرت الدروس الخصوصیة وانقسم المجتمع الي فئات قادره تتعلم بمبالغ خزعبلیة مع فقدان للھویة، وأغلبية غير قادره ندعي انها تتعلم مجانا وھي في الحقيقة تسدد تكالیف التعلیم خارج نطاق نظام الدولة، ولا يتم تنفيذ رؤیة التعليم التي أُعلنت للمجتمع.
ماذا حدث في وسائل المواصلات التي غابت الدولة عن تقدیمھا،أو لم تتواكب في حجمها مع الزيادة السكانية المفزعة، ملأها التوك توك والسرفیس…… الفراغ الذي حدث من عدم تخطيط البناء ملأته العشوائيات حتي أصبح أغلب السكان یعیشون فیھا. كذلك فإن الفراغ الثقافي والوجداني تملأه كلمات أغاني المهرجانات المتدنية وموسيقي تحريك الأجساد بلا نمط فني وإنتاج الأفلام الهابطة .
و ھنا يأتي السؤال، كيف يمكن تحريك المجتمع ثقافياً وخلق الوجدان السوي بدون رؤية متكاملة . إنني أري جهوداً تبذل ، ولكن أغلبها يتوجه نحو المنع والعقوبة. تلك جهوداً سلبية لا تحقق بناء ولا تُستدام لأن للناس حاجات لابد من توفیرھا. إن لم یكن المناخ الذي تخلقه الحكومه في المجتمع محفزا للقطاع الخاص والمجتمع المدني بقواعد معلنة ومحفزات تتحملها الدولة، فأي فراغ سيتم ملئه بفوضى مقدمي الخدمات الرديئة ولا لوم علیھم ، فهذا ما يعرفونه.. لقد قصدت عدم التحدث عن نظام الحكم السياسي الذي يعاني من فراغا تملأه الآن أجهزة الأمن والمخابرات ، ولا يوجد توازنا فيه بين الحريات المفترضة دستوريا للعمل السياسي ، وهو ما يُحدث هذا الفراغ ، خوفا من أن يملأه الأكثر تنظيما وتمويلا وهم في الأرجح جماعات الإسلام السياسي أو عملاء أجهزة المخابرات الأجنبية التي تريد أن تفسد البلاد وتخربها كما حدث في السودان وليبيا والعراق و سوريا .
ياساده ، أغاني المهرجانات وتدني مستوي الفن الإعلام لا يختلف عن الدروس الخصوصية ولا العشوائيات البنائية ولا التوك توك غير المرخص، ومواجهة ذلك
لا تتم بالمنع والعقوبة أو الصراخ والنقد ولكن بخلق مناخ يسمح لطاقات المجتمع بالعمل ، بمحفزات لملء الفراغات التي أنشأتها بادئ ذي بدء عدم كفائة مستدام لمده
أكثر من سبعين عاما في بناء الدولة المصرية المدنية الحديثة..
هل نستطيع تغيير ذلك؟؟؟
الإجابة نعم بكل تأكيد…..

التعليقات

التعليقات