علي مقهي “الحالمون بالغد”
عظماء صنعوا الوجدان
أتكلم اليوم عن ثامن من رسموا وجداني ، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ، الموسوعي الذي مزج الفلسفة بالأدب، وقدم خلاصة ذلك للناس ليكون قريبًا من أفهامهم. ونجح في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عبارات أدبية مشرقة، وفكّ أصعب مسائل الفلسفة وجعلها في متناول قارئ الصحيفة اليومية، واستطاع بكتاباته أن يخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات لتؤدي دورها في الحياة.هذا هو د.زكي نجيب محمود….
كنت قد ككقرأت مقالاً للأستاذة سناء البيسى تقول فيه على لسان د. زكي نجيب محمود فى حوارها معه:
«كنت فى شبابى حاد الانفعال قوى العاطفة، خصوصًا إذا كان فى الأمر اختلاف على رأى، فمهما يكن الموضوع الذى يدور حوله الجدل، فقد كنت أدافع عن فكرتى فيه بحرارة ملتهبة مشتعلة، وكأن الحياة كلها ترتكز على صواب فكرتى.. وكنت شديد الحزن إذا خسرت فى اللعب، شديد الفرح إذا فُزت فيه، وكانت عروقى تغلى أيامًا طويلة إذا ما غضبت لإهانة لحقتني ولم أستطع ردها، كما كان دمى يوشك أن يجمد كلما أصابتني خيبة فى رجاء كنت أرجوه.. لقد علمتنى الحياة برودة العواطف، وعلمتنى أن العاطفة الحادة معناها عجز فى قوة التفكير.. نعم إن لذة الحياة قد نقصت حين بردت العواطف فى نفسى، لكن آلام الحياة كذلك قد نقصت تبعًا لذلك.. ولست أتردد فى أن أختار القليل من اللذة والألم معًا، على الكثرة منهما معًا، فإذا لم تعد لى لذة الحب العنيف الذى يتمتع به الشباب، فاننى، إلى جانب ذلك، مستريح البال من أوجاعه وآلامه، ولئن كان الشاب يعرف الحب، فالشيخوخة تعرف كيف تكون الصداقة؟ وما الصداقة إلا حب هدأت فيه العاطفة، وزالت عنه شرورها، والتزام الواقع فى هدوء بعيدًا عن صخب العاطفة وصراخها هو بعينه ما نسميه بخبرة الحياة.. وما أغزر الدماء التى اراقتها حروب النزوات الفردية، وكم كان الناس يكونون سعداء فى فردوس أرضى لو هدأت عواطفهم بين جنوبهم، فلم تدفعهم دفع الضلال الأعمى». واستطرد قائلا :
“هل يمكن تسمية تلك المرحلة الناضجة فى حياتنا باسم «البرود العاطفى؟».
«وهل يسعدنا ذلك أم يشقينا؟!!!».
بعد أن قرأت مقال الأستاذة سناء البيسى، أغمضت عينى وتعجبت من توارد الأفكار وتسائلت هل أنا في مساحة الإعتدال التي يتسائل عنها د. زكي …ووجدتني أعود الي مقولة الإمام علي بن أبي طالب ، أحد أبطالي ، ” أحبب حبيبك هوناً ما عسي أن يكون كريهك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما ، عسي أن يكون حبيبك يوماً ما” وتحاورت مع الشباب ومع أصدقائي حولها..
قالت لي صديقتى المثقفة وكأنها تري داخلي : أنا لا أراك فى حالة برود عاطفى ولا اعتدال ممل، كما يحدث مع الآخرين، بل أحس توازنك بشكل مختلف ، التوازن فى تكوينك قد يكون فى الانتقال من تأجج عاطفة الشباب واندفاع ولذة أحاسيسه إلى حكمة النضج والتحكم فى المشاعر و التأني و التروى، فقد يكون التوازن أيضا فى الجمع بينهما والتمسك بهما معا، فى سبيكة الكيان الإنساني.
يا صديقي كل عاطفة جياشة فيها نشوة وحكمة، ووراء كل حكمة عاطفة جياشة.
كنت قد قرأت للدكتور زكي نجيب محمود كتباً في الفلسفة والمنطق كانت مؤثرة في أفكاري ، وبالذات “حياة الفكر في العالم الجديد” ، وهو من قدمني الي فلسفة بيرتراند راسل ، ولكن ما وجه بوصلتي السياسية كان كتابه “عن الحرية أتحدث” ثم “أسس التفكير العلمي” و “تجديد الفكر العربي”. وكان ما كتبه في “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” و”حصاد السنين” أثراً في تكوين وجداني التنويري .
إن شغفي بالقراءة يتوافق مع ما يقول د. زكي نجيب: ” إنك تقرأ لتضيف الي عمرك المحدود عشرة أمثال أو مائة أو ألفاً بحسب القدر الذي تقرؤه والطريقه الي تقرأ بها لماذا؟ لأنك خلال عمرك المحدود ستجمع خبرات وأفكار عن العالم و عن الناس و عن حقيقه نفسك لكن تلك الخبرات والافكار سيكون مداها مرهوناً كذلك بعدد السنين التي كتب لك أن تحياها”
ويقول: “الأصل في الفكر – إذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم – هو أن يكون حواراً بين ” لا ” و ” نعم ” وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا الرفض المطلق الأعمى يعد فكراً ولا القبول المطلق الأعمى يعد فكراً، ففي الأول عناد الأطفال، وفي الثاني طاعة العبيد.”
ويقول :“لقد أدركت أن العربي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة أشد ميلا بحكم ثقافته إلى العبارات المثيرة للوجدان، منه إلى العبارة المستندة إلى عقل،و أدركت فوق هذا وذلك أن في مقدمة الإصلاح أن نربي الأجيال الجديدة على وقفة يفرق لنفسه فيها بين ما هو عام فيحيله إلى العقل وادواته وما هو خاص فلا بأس عندئذ في الركون إلى لغة الشعور.”
ويقول : “بين اليقظة الواعية في طرف ، و الموت البارد في طرف آخر ، هنالك حالات متدرجة من الغيبوبة و النعاس ، و سيأخذك العجب حين أزعم لك أن قلة ضئيلة من الناس هي اليقظانة الواعية ، و أما الكثرة الغالبة منهم ففي غيبوبة و نعاس ، في وجوههم أعين مفتوحة ، لكنها تنظر ولا ترى”
ويقول : “موقف الحياد هو موقف العاجز الذي يريد لنفسه السلامة والهدوء.”
ويقول في حديثه عن قيم من التراث:
“معنى الحرية الدينية ليس بالضرورة أن أخرج على ما يعتقده الناس ، بل معناه أن أعرف هذا الذي أتبعه من عقيدة، أن أعرفه بالتفصيل حتى لا أستند إلى أحد في شرحه لي.””
ويقول في كتاب “رؤية إسلامية”
“من أهم ما يجب أن يتغير في نفوسنا .ذلك التطرف في العقيدة تطرفاً لا يسمح لصاحبه برؤية ما قد يكون عند أصحاب الاتجاهات الأخرى من حق”
ويقول في كتاب ” قيم من التراث”
“هل يحق لنا بعد ان اصبح محور اهتمامتنا الدينيه تفصيلات شكليه عجيبه لا تمس روح الدين وجوهره ولا تحرك الضمير الديني عند الانسان من قريب ولا من بعيد اقول ألا يحق لنا ان نسأل ماذا أصاب المسلمين ليصبحوا علي ما اصبحوا عليه من هزال وضعف وانحراف؟”
ولعلي يجب أن أذكر أن مقولته لى حول «قوة المستغنى» كانت من أبرز ما شكل وجدانى السياسى عندما دخلت الانتخابات أول مرة عام ٩٥ ثم بعد ذلك أثناء مسيرتي السياسية….
ولعل إيمانى بهذه الفلسفة السياسية الإنسانية هو ما أبعدني عن المناصب الوزارية، أكثر من مرة، وسبّبَ حيرة القيادات السياسية ، حيث كانوا دائمى السؤال «انت عاوز إيه؟».
و لأنى فعلا كنت مستغنياً، فقد كنت أقوى وأقدر على الاختيار والاعتذار عن تكليفات لا تناسب فلسفتي، مما حير أولى الأمر فى نواياي لأنهم لم يصدقوا أنى فعلا مستغنٍ.
نعم ، رحمة الله عليه كان له أبلغ الأثر وأعمق التأثير في ثقافتي ومعارفي…، وبما أكتبه اليوم إكتملت مجموعة مقالاتي عن رواد صناعة فكرى الإنساني والثقافي والسياسي ، ولكنني لا أستطيع أن أتوقف قبل الاعتراف بأثر أساتذتي في المدرسة والجامعة، فقد كان لهم أكبر الأثر في صنع مهاراتي وتهيئة وجداني لأتفاعل مع من صنعوا فكري ولونوا هذا الوجدان…. الأستاذ شندي مدرس اللغة العربية في مدرستي الابتدائية في المنصورة ، الذي كان سبب حبي في اللغة العربية وما جعل خطي جميلاً ، وهيأني لأقرأ وأستوعب وأفهم ، والأستاذة زينب آدم مدرستي للمواد الاجتماعية في مدرسة القومية في الزمالك بعد انتقالنا الي القاهرة ،وهي من فتحت عيناي علي قيمة التاريخ وربطة بالجغرافيا ، والأستاذ ادوارد مدرسي للعلوم في مدرسة الأورمان الإعدادية الذي جعل من العلم والبحث شغفاً في عقلي ونفسي ، والأستاذ سعيد محمود مدرسي للغة الإنجليزية في مدرسة الأورمان الثانوية الذي علمني أن إتقان اللغة يجعلها ليس فقط أسلوب حديث بل وطريقة تفكير ….ثم أنتقلت الي الجامعة فكان د.حسن حمدي أستاذ الفسيولوجيا ثم عميد الكلية وبعدها رئيس جامعة القاهرة مُلهمي في علاقاتي مع الشباب والتفاعل معهم ، واستاذي المحترم رشيد بهجت أستاذ الكيمياء الحيوية الذي تعلمت منه الدقة والجدية وتبسيط المركب والمعقد ، إنتهاءً بمن أثروا في مسيرتي المهنية كطبيب وظلوا حوالي حتي بعد مغادرتهم الحياة، العالم الشامل د علاء شفيق ، الموسوعة في العلم و د. محمد فياض اللذان كان لهما مع أخي الأكبر د. حمدي بدراوي الفضل في انطلاقي المهني والبحثي في مصر والعالم.