مقال د.حسام بدراوي في المصري اليوم
بعنوان “فسيولوجيا الوطن…بين الإنسان والمدينة”
كلما تعمقنا فى معرفة جسم الإنسان وتشريحه وفسيولوجيته، سنجد أن عظمة الله فى خلقه هى أساس فلسفة حياتنا التى نظنها مادية فى مسار يومها من حركة وأكل وشرب وطرق ومواصلات، وقانون وشرطة وجيش، وحكومة وشعب. إن خلق جسم الإنسان وتكوينه هو أساس الهندسة والديناميكا والفيزياء والكيمياء.. وغيرها من العلوم الوضعية التى نبغ فيها البشر. تعالوا معى فى رحلة داخل الإنسان، وقارنوا بينها وبين المدينة التى نعيش فيها.
إن حياة الإنسان قائمة على قدرته على التنفس واستنشاق الأكسجين من خلال رئتيه ليصل إلى كل خلية فيه حتى تعيش. حقيقة بسيطة يعلمها الأمى والمتعلم والطبيب والقاتل الذى إذا أراد إنهاء حياة إنسان خنقه ومنع عنه الهواء النقى رغم جهله بعلم الفسيولوجيا.
ويصل الأكسجين إلى كل خلية محمولًا فى الدم داخل الأوعية الدموية الصغيرة والكبيرة، فى شبكة متكاملة تصل إلى الأعضاء وخلاياها، ليقوم كل منها بعمله.
لو انسد أىٌّ من هذه الأوعية الدموية حسب مكانها قد يؤدى ذلك إلى بتر طرف من الأطراف، أما إذا انسد فى عضو مهم مثل القلب أو المخ، فقد يؤدى إلى الوفاة.
ما رئة المدينة؟.. رئتها فى حدائقها وخضارها.. حدائق يجب أن تتناسب مع عدد السكان فى الحى والمدينة. إذا لم تتواجد رئات المدينة خُنقت كما يختنق الإنسان إذا تقلصت رئتاه أو امتنع جسمه عن استنشاق الأكسجين.
وماذا عن جهاز الإنسان الدورى، شرايينه وأوردته، التى يماثلها فى هندسة المدينة طرقها ومواصلاتها، التى تنقل الغذاء إلى كل مكان فى الجسم؟!.
وكما فى الإنسان تتفرع الشرايين الكبرى ويماثلها فى المدينة الطرق الكبرى (high ways)، إلى طرق فرعية وأفرع من الفروع.. وهكذا، فى بناء له منطق يسمح بحركة سلسة للدم وما يحمله بلا توقف.. إذا انسدت الشرايين، مرضَ الإنسان، وقد يموت.. وإذا ضاقت بالجلطات والكوليسترول على الجانبين، تجمدت الحركة وتوقفت السلاسة وتورم الجسم. نحن فى علم التشريح نعلم تمامًا أين يسير كل شريان وأين يتفرع، وفى المدن الحديثة كذلك، إن لم تكن لها شبكة طرق واضحة تسمح بالحركة السلسة، التى لا يسدها عائق أو كمائن دائمة، فقد تمرض المدينة وقد تموت.
جسم الإنسان يتلقى الغذاء من جهازه الهضمى الذى يمتص منه ما يشاء، وتخرج منه الفضلات بولًا وبرازًا وعرقًا، فإذا مُنعت من الخروج يمرض الإنسان وقد يموت، ونحن كذلك فى المدينة، فهناك حركة توريدات للاحتياجات وللطعام، ثم التعامل مع مخرجاتها الصلبة والسائلة التى أصبح التعامل معها علمًا له تطبيقات ووسائل للتخلص منها أو تدويرها، فإن لم يكن لها حساب، سقطت المدينة ومرضت.
وكما يُخرِج جسم الإنسان فضلاته بانتظام، وإلا فشل ومات، يخرج من جهازه البولى سائل البول، الذى إن لم يُصرف من الكلية فإنها تتوقف عن العمل ويتسمم الجسم، وكذلك فى المدينة يجب أن يكون لديها جهاز لتوصيل المياه وإخراج الفضلات السائلة، وهو ما تمثله أجهزة الصرف الصحى التى تعتبر من أهم أجهزة المدينة لضمان حياتها لتعيش.
إذا هاجمت جسم الإنسان جراثيم أو فيروسات، فإن جهاز مكافحة الضرر ممثلًا فى أجهزة المناعة والمكافحة يعمل ويرسل أدواته ليصل إلى مكان اختراق الجسم، وترتفع درجة الحرارة، لأن البدن فى معركة تنتهى بضحايا من كرات الدم البيضاء وغيرها التى تم تدخلها لتحارب الدخلاء، أو لتسد مكان تسرب الدماء، ويأتى الجسم بمن يعيد بناء الجزء الذى تضرر.. ألا يتشابه ذلك مع حكومة البلاد وأجهزة الشرطة والدفاع فى الوطن؟!.
يتعرف الجسم ويحكم على نوعية الضرر بأجهزة استشعار تُرسل رسائل للجهاز العصبى ليحرك دفاعات الجسم فى الوقت المناسب بأجهزة تعريف تحدد من هو خارج عن النظام ولا يتوافق مع فسيولوچيته ووجوده، ليوقف الفوضى.
العقل وأجهزة الاستشعار ووسائل المناعة والبناء هى حكومة المدينة ومؤسساتها الخدمية التى تستلهم قوتها، كما فى الإنسان، من معارفها التى تقويها لتظل متماسكة وصحيحة لتتجدد وتسمو بأفرادها.
أحيانًا، لا يصاب الإنسان بالمرض من خارجه، ولكن تبدأ الخلايا فى التصرف بأنانية وجنون، وتأكل من حولها لتعيش هى، وتصيب باقى الأعضاء بالخلل مثل مرض السرطان، وهنا قد لا يستطيع الجسم؛ خصوصًا إن كانت أجهزته ضعيفة ومناعته متآكلة، أن يكسب هذه المعركة إلا بالاستئصال الكامل لجسم السرطان ومَن حوله ومَن يغذيه وإلا عاد من جديد وأجهز على باقى الجسم وأنهاه.
بماذا يُذكركم ذلك فى الوطن؟!، أترك ذلك لخيالكم، لأننا أحيانًا نعيشه بأشكال مختلفة فى كل فترة من حياة الوطن.
جسم الإنسان هو مِن خلق الله، وإذا أراد مجتمع أن يعيش فى قرية أو مدينة أو وطن، فعليه أن يعرف تشريحه وفسيولوجيته، وأن يَعلم أن أكبر الضرر قد يحدث من أقل الشرر.
كم رأينا إنسانًا يفقد الحياة، لجلطة فى مخه أو نزيف أو انفجار فى شريان!. وكم تآكلت جودة الحياة من توقف عمل الكلية أو الكبد!. وكم قضى السرطان على أجساد وأوطان!. كم انهار جسم واختنق لعدم وصول الأكسجين من رئتيه إلى كل خلية فيه أو حتى لمجرد عدم قدرته على التخلص من فضلاته ومخرجاته!.
تعالوا ننظر إلى جسم الإنسان وإلى حياتنا ونأخذ العبرة.
يجب أن يكون للوطن مايسترو يعرف ما يدور، وينسق ويتناغم مع مفردات احتياجاته بتوازن، ويحمى خلاياه من دمار- داخليا كان أو خارجيا- مع استمرار البناء والتجديد. عقل الأمة وجهازها العصبى هو حكومتها وأجهزة الحماية والنظام فيها التى يجب اختيارها بدقة، وأن يُحكم على كفاءتها دائمًا وتجديدها بناءً على معايير نستطيع التعرف عليها بالفحص الدورى واستخدام التكنولوچيا الحديثة للتشخيص والعلاج.
إننا كأفراد نمثل خلايا الجسم، وصحتنا هى أساسٌ لصحة كل البدن، وبلدنا هى بدننا ونحن خلاياه. ليصح البدن يجب أن نكون أصحاء.. ولكى نعيش وننمو ونتكاثر، لابد أن يكون الوطن صحيحًا متكامل الأوصاف. فلا نستهين بأى وظيفة من وظائف جسم الوطن مهما بدت تافهة أو صغيرة ونحترم وجودها، فإذا أصاب عضو ضرر فعلينا أن نحميه ونراعيه.
هل يمكن للجهاز العصبى أن يحل محل الجهاز الهضمى؟، وهل يصلح الجهاز البولى أن يقوم بالدفاع عن هجوم فيروسى أو بكتيرى لعضو آخر؟. الكل له وظائفه التى لابد له من القيام بها، وإذا تَجَبّر جهاز على باقى الأجهزة، فمهما كانت كفاءته، فإنه يؤذى نفسه وكل البدن ولا قيمة لوجوده دون وجود باقى الأعضاء. ليكون الإنسان صحيحًا معافى، فلابد أن يصله الزاد باستدامة، وتتجدد خلاياه ولا يُراكم مخرجاته المضرة ويتعامل معها بعلم وذكاء، كما أرانا الله فى إبداع خلق جسم الإنسان.
الجمال هو فى أن الله أعطانا العقل لنفكر ونراكم الخبرات ونستفيد منها، وبدون العقل والتفكير والحرية فى التعبير نفقد إنسانيتنا. فى حياة الوطن، فإن التعلم من التجارب السابقة حيوى لكى لا يقع الوطن فى أزمات بتكرار نفس الأفعال فى انتظار نتائج مختلفة.
كيف نحتفظ بجسم الوطن سليمًا، معافى، متجددة خلاياه وأنسجته إلا بتنسيق بين وظائفه واستخدام أفضل لأعضائه وصحة عقله وجهازه العصبى الذى تمثله حكومته؟.. الطريق إلى معافاة الوطن سياسى من الدرجة الأولى، وحوارنا الوطنى هو حوار لتجديد واستدامة هذا العقل وأجهزته.
ولن يفلح الحوار دون اعتراف بأن لكل جهاز ومؤسسة وظيفة محددة، يقوم بها لصالح باقى البدن، ولا يستطيع جهاز واحد من أعضاء البدن مهما كانت أهميته وكفاءته القيام والتحكم فى كل وظائف الجسم الأخرى؛ لأنه سيفقد قدرته على القيام بدوره المنوط به، ولن يحقق صحة البدن فى التنفس والهضم والإخراج واستدعاء المناعة والتجدد والتطور بحججٍ ثبت عبر التاريخ الصحى للأمم أنها غير مستدامة.
عقل الأمة وضميرها لن يعمل دون عدالة ناجزة (التحدى الرئيسى هنا).. وتنمية إنسانية مستدامة (التحدى الثانى)، تجعل خلايا البدن وأفراد الأمة قادرين على الاختيار الصحيح بين بدائل بالعلم، واستمرار التعلم وزيادة المعرفة فى ظل حكومات تتجدد، وتداول للسلطة يسمح بالمحاسبية الإيجابية والبناء على الإنجاز، والتعرف على إمكانات الوطن واستخدامها الأمثل بتنسيق من العقل وكفاءة أداء أعضائه.