ملحمة النفاق
بقلم حسام بدراوي
يا أهل النفاق !! تلك هي أرضكم .. وذلك هو غرسكم .. مافعلت سوى أن طفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها .. فإن رأيتموه قبيحاً مشوها، فلا تلوموني بل لوموا أنفسكم .. لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة . أيها المنافقون !! هذه قصتكم، ومن كان منكم بلا نفاق فليرجمني بحجر “.
يوسف السباعي “أرض النفاق”
تاريخ النفاق في ثقافتنا العربية ،قديم وأصيل وله جذور عميقة وفروع فارهة..
قال ابن هانئ في مدح الخليفة الفاطمي حاكم مصر الإمام المعز لدين الله ، قصيدته الشهيرة والتى جاء فى مطلعها…
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ٠٠فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ..وكأنّما أنصاركَ الانصارُ
ها إنّ مِصرَ غداة صرْتَ قَطينَها..أحرى لتحسدها بك الأقطار.
الخليفة لم يعترض على هذة الابيات بل فرح بها على الأرجح لتجعل الشاعر يتمادى مجدداً ليمنح الحاكم صفة الإلة الذي يقسم الارزاق ويتحكم فى الأعمار فيقول فيه:
شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت ***بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار
هذة الابيات كانت منبع وأصل المثل المصرى الشهير ) أول القصيدة كفر( فلما سمع المصريين القصيدة، والتى تنافق المعز، وترفع مرتبته لدرجة الذات الإلهية ؛ قال المصريين فى صورة ساخرة : “أول القصيدة كفر”، وبذلك سارت مثلا نقوله و نتداولة حتى يومنا هذا، دون معرفة حقيقتة.
شعر النابغة الذبياني رفع سقف النفاق ، و تجاوز قول شاعر آخر فى الرشيد »كأنك من بعد الرسول رسول« أو وصف الخليفة العباسى المتوكل »ظل الله الممدود بينه وبين خلقه«، وكل أبيات النفاق التى أنشدت فى مدح ملوك بنى أمية.
ومقارنة بهذا يصبح بيت النابغة الذبيانى الذى مدح به النعمان أبو قابوس ملك الحيرة، عادياً، رغم ما انطوى عليه من مبالغة سياسية، حيث قال له:
إنك شمس والملوك كواكب.. إذا طلعت لم يبد منهن كوكب.
ونقفز الي زمن قريب قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي للأمير فاروق :
”فاروق يا أذكى نبات الوادي ** و لمحة الآباء والأجداد”
وأعود الي صلب مقالي عن النفاق وأبدأ بتعريفه .
النِّفاقُ هو القَولُ أو الفِعلُ بخِلافِ ما في القَلبِ مِن الاعتقادِ، والمُنافِقُ هو الذي يظهر تأييده وهو في القلب مستاء إنه ممارسة التظاهر بأن تكون ما ليست عليه بغرض الحصول على الثناء بدلاً من دوافع أخلاقية حقيقية أو الحصول علي مكسب أو فائدة بالتطبيل والهتاف لصاحب سلطة أو خوفاً من بطش وأذية..
فلننظر حولنا وسنتعرف علي المنافقين بدون جهد.
النفاق السياسي هو فعل قادة سياسيين أو أطراف سياسية يظهرون معتقدات أو قيماً لا يمتلكونها فعلياً أو لا يمارسونها ، أو إظهار مبَالغ فيه للولاء للسلطة خوفاً من بطش أو سعياً لفائدة. إنه ظاهرة سائدة وضارة في السياسة تقوض في المؤسسات السياسية وشكاً وريبة في حقيقة نتائج الإنتخابات، و له آثار سلبية متراكمة على المجتمع، تؤدي إلى خيبة الأمل والسخط بين الجمهور .
النفاق الاجتماعي هو حالة عدم التناغم بين السلوك الظاهر للفرد ومعتقداته أو قيمه الحقيقية و يعبر عن حالة تناقض بين ما يقدمه الفرد للمجتمع من صورة أو تصرفات معينة وبين ما يعيشه أو يعتقده في الخفاء.
وأشهر أنواع النفاق المجتمعي هو مسايرة القطيع و التظاهر بالتدين والتقوى ، ولكن في الوقت نفسه التصرف بطرق غير ملتزمة بتعاليم الدين والأخلاق .
ورغم أن ظاهرة » النفاق الاجتماعي «قديمة قدم البشرية إلا أن أزمتنا المعاصرة تكمن في تفشي تلك الظاهرة لدرجة اعتبارها أسلوب حياة ولغة عصر وشعار زمان، وتتطور في بعض الأمم لتصبح حالة كارثية من الكذب الصريح، وطمس الوقائع، وتزيف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه، .
هناك ظواهر انتشرت في المجتمع تقترب من النفاق مثل مرض النميمة ، وترديد الأقوال التي ليس لها برهان ولا مرجعية لتصبح حقائق في وجدان الناس وينقلب الحال ليصبح المجتمع لا يرى بالعين، بل يرى بالأذن .والآن بعد إنتشار السوشيال ميديا بأنواعها صار ذلك فناً وعلماً وله أهداف.
كذلك فإن الخط الفاصل بين المجاملة من باب التأدب والنفاق قد لا يظهر بوضوح لدي البعض فقد تصبح المجاملة الزائدة هي النفاق الصغير.
وشر المنافقين قومٌ لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق؛ فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق، فذو الوجهين منافق في العلاقات الاجتماعية كاذب ومخادع في علاقاته ومبادئه متلون في مواقفه ومشاعره..
إذا كان قانون الفيزياء يقول إن الضغط يولد الانفجار، فقانون الاجتماع يقول إنّ الضغط يولد النفاق .
وهناك درجات إتقان للنفاق ، فالمنافق الخطير هو الذي لا يُدرَك خِداعُه لأنه يكذب بصدق. .. و آيته ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف. .
كتب مفيد فوزي قائلا : “بظهور ثورة يوليو، كان جمال عبدالناصر نفسه مباشراً كالخط المستقيم فى حياته الخاصة وفى حياته كثائر كان مختلفاً عن التوافيق والتباديل الحزبية، كان المصريون يجربون لأول مرة الحكم العسكرى، وكان أعضاء مجلس الثورة يجرب» لغته «مع الناس، غير أن تقسيم الناس إلى »الولاء« و»الكفاءة « خلق مبكراً دولة النفاق وأعطاها شرعية. فالولاء للثورة كان مفضلاً على الأكفاء، وكان يقال إن الأكفاء ينقصهم » الإخلاص الثورى «! وقد اضطر بعض أصحاب الكفاءات للتحايل وربما النفاق وصولاً إلى الرزق وظنى أن الخط »المنحنى « بدأ يظهر على استحياء ويكبر ويتجذر، وأصبح طأطأة الرؤوس نهجاً وهدفاً للعيش”
قرأت كتاب “نيام بلا مضاجع” للأستاذ “ثروت أباظه”، ويقول أن النفاقَ والتملُّق وموت الضمير هي الآفاتُ الرئيسة التي تصيب أي المجتمع.
وكتب الاستاذ وجيه وهبة في مقال ممتاز له في المصري اليوم عام 2018 عن النفاق ، ونوه عن ماكتبه الأستاذ »فكرى أباظة باشا «منذ أكثر من مائة عام تحت عنوان »فلسفة النفاق«، يتهكم فيها بطريقته الساخرة على تفشى النفاق فى المجتمع المصرى. و يقول: » النفاق فن وللمنافقين فلسفة، ويتناول الكاتب بسخرية لاذعة نفاق المجتمع . «
ويعطي الأستاذ فكري أباظة مثلاً بنفاق الرئيس، الجاهل الغبى السخيف في العمل، الذي تضطر فى كثير من الأحيان إلى مديح رأيه ، وليس رأيه بالصواب، وإلى التنويه بفضله فى حفلات التكريم، وهو لا يستحق التكريم، وإلى تقديم تذكار الإخلاص ولست تشعر نحوه بذرة من الإخلاص.
ثم يصل فى النهاية إلى ما سماه أخطر أنواع النفاق ألا وهو »النفاق السياسي«فيقول: النفاق السياسى فى جميع دول العالم- وليس فى مصر وحدها- آفة على جميع الدوائر، و هو أبو النفاقات جميعها، وهو الزعيم الذى تتبعه جميع فرق النفاق وطوائفه و أجواقه..
ويقول الأستاذ أباظة : “المغالطة أخت النفاق”.
كان ذلك رأى فكرى أباظة أن النفاق فى أيامه.. »معول هدم«.. فماذا عن النفاق فى أيامنا؟.
المنافقون اليوم مهمتهم أسهل من ذى قبل، ويعتمدون على انحطاط مستوى الفهم لدى النفوس الضعيفة وصار للنفاق أكثر من وصف أحدها هو » المطبلاتية «وأشهرهم وصف نزار قبانى » المداحين والكورس«.
يقدم توفيق الحكيم فى كتابه » تحت شمس الفكر« اقتراحاً بغية تقليص النفاق أثناء الإنتخابات إلى أدنى حد بتكوين » شركة مقاولات انتخابات« (وكأنه كان يقرأ المستقبل ، فهذا ما يحدث الآن ) يدفع لها المرشح مقابل أن تقوم بالدعاية له من تجهيز الخطباء ونصب اللافتات وإعداد الولائم وتعظيم ما ليس في المرشح ، وتزييف حقائق الإنجازات، وقلب الباطل حقاً، وقتل المنافس معنوياً وتدمير سمعته .
ويعبر د. ياسر ثابت فى كتابه » صناعة الطاغية « عن هذا الوضع قائلا: “ما يقوله المنافق التاريخى لحاكم اليوم، سبق أن قاله لحاكم الأمس، الذى ما إن ترك الحكم، ميتا أو مقتولا أو معزولا، حتى هجاه، أو تنصل منه، بعد أن تحين اللحظة المناسبة للقفز من سفينته الغارقة.
إن أسوأ أنواع المنافقين هو المنافق المتجول، ذلك الذى يجول بين مختلف العهود السياسية- مهما تباينت- وشعاره » كن مستعدا«.. مستعد دائماً لأى تغيير فى النظام ، ولقد رأيت ذلك و عايشته بنفسي في انتقال الكثيرين من المطبلين والراغبين في التقرب للسلطة أيام مبارك وهم أنفسهم الذين يفعلون نفس الشئ مع كل سلطة .
لكي الله يا مصرنا من ضرر المنافقين وأذي المداهنين ، وأنار بصيرتنا لنراهم و نكشفهم ونتقي شرورهم.
يقول الشاعر:
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن
فالقوم في السر غير القوم في العلن
وتقول الحكمة:
إذا سمعت انساناً يقول فيك من الخير ما ليس فيك ، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك.