عن أحوال البلاد.. الحلول والمبادرات (3)
حسام بدراوي
التف الشباب حولى بحميمية، وقال واحد منهم: شرحتَ لنا وحاورتَنا فى أحوال البلاد السياسية، والآن نريد أن نتكلم عن المستقبل. ما رؤيتك للمستقبل؟
قلت: سيحتاج الأمر إلى مساحة أكبر ووقت أوسع. ولكنى سألخص ثم سأسترسل بعد ذلك على مدى الأسابيع القادمة.
فى البداية أود أن أؤكد أن رؤى المستقبل كلها متداخلة، ولا يمكن النظر إلى مصر المستقبل جزئيًا، بل لابد من أن تحوط رؤيتنا للإصلاح جوانبه كلها فى وقت واحد، سواء كان ذلك سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا.
إن تماسك الإصلاح واستدامته يرتبطان بالتنمية فى جميع مجالاتها، وبالرغم من أن صوت الدعوة إلى الإصلاح السياسى مهم وأساسى، فإن ذلك يجب ألا يُلْهِينا عن أن البنية الأساسية لعملية الإصلاح تبدأ وتستمر وتتواصل بالتنمية الإنسانية، وأن التعليم والثقافة هما مدخلاها الرئيسيان.
إن الإنسان هو الأساس، والقدرة التنافسية لأى مجتمع تعتمد فى النهاية على مجموع قدرات أفراده، والتى تتضاعف قيمتها بالعمل الجماعى والمشاركة الفعالة. إن وظيفتنا الأولى هى بناء القدرات وتوفير الفرص، ونجاحنا كمجتمع هو أن نترك الحرية للأفراد للاختيار بين فرص متعددة.. بعدالة ونزاهة ومساواة فى الحقوق.
إن القدرة على الاختيار هى موضوع الساعة وموضوع المستقبل، إننا نستطيع أن نجعل من كل فرصة أمامنا مشكلة وأزمة، وأن نرى ونكتشف فى كل أزمة تواجهنا فرصًا جديدة يمكن استثمارها والتنمية من خلالها، وسيعتمد ذلك على طريقة نظرتنا إلى الأمور ومعالجتنا للواقع، الذى يطرح فرصًا متعددة للانتقال إلى عهد جديد..
إن القدرة على الاختيار الأصوب والأفضل، والذى يراعى القيم الأصيلة الواجب إدماجها فى وجدان الفرد والأسرة والمجتمع كله، تنبع من مدخل المعرفة واستخدام العقل والمنهج العلمى فى التفكير.
إن مشروع الإصلاح لتحقيق نهضة مصر ليس مجرد أرقام على ورق ولا جمل صماء ومعانى مجردة.. إن روح الإصلاح يمثلها فى النهاية الإنسان وراء الأفكار، أفرادًا وجماعات وكيانات، يزداد عددها يومًا بعد يوم، لتصبح فى لحظة فارقة حجمًا حرجًا يزيد من سرعة الإنجاز، ويؤتى نتائج أعمق وأوسع وأكثر تأثيرًا.
إن الإصلاح يصبح لا قيمة له إن ظل حبيس الأوراق، بل يمرض ويموت إن لم يخرج إلى الحياة، ويصبح لا معنى له إن كان هدفه هو فوز يحققه فرد أو مؤسسة فى نقاش أو جدل سياسى أو صوت يعلو على صوت آخر فى تنافس حول مَن يكسب الجماهير أو يحصل على السلطة.
.. إن الإصلاح المنشود تظهر قيمته التاريخية والمستقبلية عندما يصبح حقيقة مُفعَّلة، عندما يتم تنفيذه ليظهر أثره على المجتمع.
وكما تتجدد الأفكار، يجب أن تتجدد الوسائل، وروح الإصلاح فى المرحلة الجديدة تحتاج إلى آليات جديدة. ولقد قال أينشتاين، العالِم العبقرى الفذ فى تاريخ العلم، إن المشكلات العويصة التى نواجهها لا يتأتى حلها بتطبيق نفس النهج الفكرى الذى استخدمناه ساعة إيجاد مثل هذه المشكلات..
إن رؤية المستقبل لابد أن تعتمد على واقع تحكمه قواعد استقرت فى العقول والنفوس، ولابد أن تكون لدينا القدرة على التعامل معها وتغييرها أو تثبيتها لنتمكن من الانتقال من نقطة الواقع إلى مساحة المستقبل.
إن نجاح أى حكومة فى إدارة المجتمع المصرى لابد أن يرتكز على هذه الخدمات والحقوق، فمهما زاد الدخل واتسعت مساحات القدرات، فسعادة الأفراد والأسر ترتبط بهذه الخدمات الرئيسية التى تجعل الحياة ممكنة، وتعطى المواطنين قاعدة للأمل فى مستقبل أكثر إشراقًا.
قال الشاب المفكر: فلنحدد التوجهات ثم نستفيض فى الحوار.
قلت: إن هناك اثنى عشر توجهًا رئيسيًا يجب أن نسعى لتحقيقها:
الأول: إحداث تغيير ثقافى وسلوكى فى وجدان المجتمع.
الثانى: إجراء تغيير هيكلى فى الاقتصاد المصرى، بهدف تحفيز النمو واستدامته وتوازنه، مع خلق فرص التشغيل.
الثالث: الإصلاح الإدارى وتغيير نمط الحوكمة والرقمية فى كافة المؤسسات، مع تطبيق تدريجى للامركزية.
الرابع: تحديد هوية الدولة المدنية الحديثة وترسيخ مفهومها لدى الأجيال الجديدة.
الخامس: الحفاظ على البيئة من أجل هذه الأجيال.
السادس: إصلاح مؤسسى وفكرى لمؤسسات القضاء ومؤسسات إنفاذ القانون «الشرطة».
السابع: تحديد الدور المصرى فى صناعة مستقبل العالم واستراتيجيات تطبيقه.
الثامن: زيادة قدرات جيش مصر، وحمايته من الانخراط فى العمل السياسى والاقتصادى، وتغيير نمط التسليح بزيادة القدرة على التصنيع العسكرى.
التاسع: استدامة توفير الطاقة النظيفة والمياه لاحتياجات الشعب المصرى المتزايدة.
العاشر: تنمية دور المجتمع المدنى الفعّال وتنشيطه ودعمه واحترام حقوق المواطنين.
الحادى عشر: التحكم فى نمو ونوعية وتوزيع السكان.
الثانى عشر: صناعة القادة.
صمت الشباب، وقال واحد منهم: وهل لديك سياسات واضحة وتطبيقات ممكنة لكل ما ذكرت؟
قلت: لا أحد لديه كل الحلول، ولكنى سعيت وتواصلت مع الخبراء فى كل مجال، ثم وثّقت الآراء، ويسعدنى أن أشارككم فيها على مدى الأسابيع القادمة، ونشرح فى كل مقالة واحدًا من هذه التوجهات، ونشارك الحكومة فى طرح بدائل، ونشارك المجتمع وخبراءه فى حوار فعال قد يستفيد منه الجميع.
قالت شابة متحمسة: وهل يمكن جمع هذه الآراء فى وثيقة ترسل إلى المسؤولين؟
قلت: إن الهدف الرئيسى من الحوار البناء هو ذلك، والحقيقة أن تراكم الخبرات وتداول السلطة سلميًا، بدون هدم ولا فوضى، هو الطريق الوحيد لاستدامة أى سياسة أو تطبيق.
إننى أستطيع أن أجزم أن مصر تملك من الإمكانات البشرية والكفاءات المهنية، والقوه الضاربة من شبابها المستعدين للتعلم والتدريب، ما يضمن لها فى عقد واحد أن تتبوأ مركزها فى طلائع الدول المتقدمة.
وعلى بركة الله نبدأ من الأسبوع القادم طرحًا تفصيليًا للاثنى عشر توجهًا ومبادرة على المجتمع.