الأحد , 22 ديسمبر 2024

فسيولوجيا الوطن

فسيولوجيا الوطن
حسام بدراوي
قال الشاب النابه: نعلم يا دكتور اهتماماتك العلمية الطبية، وكذلك تعدد قراءاتك فى الفيزياء والفلسفة.. فماذا يمكن أن تقول لنا حول تشابك المعرفة بين نوعية قراءاتك؟.
قلت له وللمجموعة من شباب الحالمين: سأعطيكم أمثلة لما يدور فى ذهنى أحيانًا حول هذا الموضوع. مثلًا: كلما تعمقت فى معرفة جسم الإنسان، تشريحه وفسيولوجيته، فستجد أن عظمة الله فى خلقه هى أساس فلسفة حياتنا التى نظنها مادية فى مسار يومنا، من حركة وأكل وشرب وطرق ومواصلات، وقانون وشرطة وجيش، وحكومة وشعب. ننساق فى خلافات هنا وهناك حولها، ونتناسى أن خلق جسم الإنسان وتكوينه هو أساس الهندسة والديناميكا والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم الوضعية التى نبغ فيها البشر.
قالت الشابة المثقفة: وضّح كلامك وزدنا معرفة.
قلت: تعالوا معى فى رحلة داخل الإنسان، وقارنوا بينها وبين المدينة التى نعيش فيها، والوطن الذى نحيا فيه.. نعم، جسم الإنسان والمدينة والوطن!.
مثلًا، إن حياة الإنسان قائمة على قدرته على التنفس وإدخال الأكسجين من خلال رئتيه إلى كل خلية فيه. حقيقة بسيطة يعلمها الأُمىّ والمتعلم والطبيب الذى ينعشه ساعة الاختناق، والقاتل الذى إذا أراد إنهاء حياة إنسان بخنقه ومنع الهواء النقى عنه، رغم جهله بالفسيولوجيا.
ويصل الأكسحين إلى كل خلية محمولا فى الدم داخل الأوعية الدموية الصغيرة والكبيرة، فى شبكة متكاملة تصل إلى الأعضاء وخلاياها، ليقوم كل منها بعمله.
لو انسدت أى من هذه الأوعية الدموية حسب مكانها، قد يؤدى ذلك إلى بتر طرف من الأطراف، أما إذا إنسدت فى عضو مهم فقد تؤدى إلى الوفاة، مثل القلب أو المخ.
ما هى رئة المدينة؟.. رئتها فى حدائقها وخَضَارها، حدائق يجب أن تتناسب مع عدد السكان فى الحى والمدينة. إذا لم تتواجد رئات المدينة اختنقت كما يختنق الإنسان إذا تقلصت رئتاه أو امتنع جسمه عن استنشاق الأكسجين، ورئة كوكب الأرض فى غاباته وحدائقه.
وماذا عن جهاز الإنسان الدورى، شرايينه وأوردته، التى يمثلها فى هندسة المدينة طرقه ومواصلاته التى تنقل الغذاء إلى كل مكان فى الجسم؟.
وكما فى الإنسان تتفرع الشرايين الكبرى، ويمثلها فى المدينة الطرق السريعة إلى طرق فرعية وأفرع من الفروع.. وهكذا فى بناء له منطق يسمح بحركة سلسة للدم وما يحمله بلا توقف.. إذا انسدت الشرايين، مرض الإنسان، وقد يموت. وإذا ضاقت بالجلطات والكوليسترول على الجانبين، تجمدت الحركة وتوقفت السلاسة وتورم الجسم أو توقف العضو عن العمل…
نحن فى علم التشريح نعلم تمامًا أين يسير كل شريان وأين يتفرع، وفى الأوطان الحديثة كذلك، إن لم تكن لها شبكة طرق واضحة تسمح بالحركة السلسة، تمرض المدينة وقد تموت، ويمرض الوطن ويتوقف نموه.
مَثَلٌ آخر، جسم الإنسان يتلقى الغذاء من جهازه الهضمى، يمتص منه ما يشاء والفضلات تخرج من الجسم بولًا وبرازًا وعرقًا، فإذا مُنع خروجها يمرض الإنسان وقد يموت، ونحن كذلك فى المدينة، فإن التعامل مع مخرجاتها ويمثل أغلبها فضلات الزبالة- أصبح علما له تطبيقات ووسائل للتخلص منها- فإن لم يكن لها حساب سقطت المدينة ومرضت.
وكما يُخرج جسم الإنسان فضلاته بانتظام، وإلا فشل ومات، يخرج من جهازه البولى سائل البول الذى إن لم يخرج من الكلية، فإنها تتوقف عن العمل.. كذلك فى المدينة، يجب أن يكون لديها جهاز لتوصيل المياه وإخراج الفضلات السائلة. إن أجهزة الصرف الصحى من أهم أجهزة المدينة لتعيش.
مَثل آخر، إذا هاجمت جسم الإنسان جراثيم أو فيروسات، فإن جهاز مكافحة الضرر يعمل ليصل إلى مكان اختراق الجسم ممثلا فى أجهزة المناعة والمكافحة، وترتفع درجة الحرارة لأن الجسم فى معركة تنتهى بضحايا من كرات الدم البيضاء التى تدخلت لتحارب الدخلاء، أو لتسد مكان تسرب الدماء، ويأتى الجسم بمن يعيد بناء الجزء الذى تضرر. ألا يتشابه ذلك مع أجهزة الشرطة والدفاع فى الوطن، ويتعرف الجسم ويحكم على نوعية الضرر بأجهزة استشعار ترسل رسائل للجهاز العصبى ليحرك دفاعات الجسم فى الوقت المناسب بأجهزة تعريف تحدد هل هو خارج عن النظام أم لا، ويحكم ويقرر مثل أجهزة القضاء فى المدينة على مسبب الضرر؟!.
العقل وأجهزة الاستشعار ووسائل المناعة والبناء هى حكومة الوطن وروحه ونفسه، يلهمه ويقويه ليظل متماسكا وصحيحا، لتنمو خلاياه وتسمو بأفراده وتسعد بوجوده. أما إذا هاجمت أجهزة المناعة خلايا الجسم بلا داعٍ، وبدأ الجسد يحارب ذاته، أو بحجة احتمال إصابتها بالمرض أو لمرض فى أجهزة المناعة (autoimmune)، فإنها ستقتل الجسم بحجة حمايته كما يحدث فى أمراض المناعة الذاتية، وبالقياس على ما يحدث فى الأوطان.
أحيانا أخرى لا يصاب الإنسان بالمرض من خارجه، ولكن تبدأ الخلايا فى الجنون وتأكل من حولها وتصيب الأعضاء بالخلل مثل السرطان، وهنا قد لا يستطيع الجسم- خصوصا إن كانت أجهزته ضعيفة، ومناعته متآكلة- أن يكسب هذه المعركة إلا بالاستئصال الكامل لجسم السرطان ومن حوله ومن يغذيه، وإلا عاد من جديد وأجهز على باقى الجسم وأنهاه.
جسم الإنسان هو خلق الله، وإذا أراد مجتمع أن يعيش فى قرية أو مدينة أو وطن، فعليه أن يعرف تشريحه وفسيولوجيته، وأن يعلم أن أكبر الضرر قد يحدث من أقل الشرر.
كم مرة رأينا إنسانا يفقد الحياة لجلطة فى مخه، أو لنزيف أو لانفجار فى شريان؟. وكم تآكلت جودة الحياة من توقف عمل الكلية أو الكبد؟.
وكم انهار جسم واختنق لعدم وصول الأكسجين من رئتيه إلى كل خلية فيه أو حتى لمجرد عدم قدرته على التخلص من فضلاته ومخرجاته؟!.
إن الجهاز الدورى بشرايينه وأوردته مرة أخرى هو وسيلة الجسم لتوصيل الغذاء والتخلص من الفضلات لكل خلية من تريليونات خلايا جسدنا.. ولو نظرنا إلى اختناقات المرور وتأخر حركة النقل فى أى دولة، وقارنا ذلك بما يحدث فى أجسادنا، لعرفنا عدم كفاءة الإنسان فى حل مشكلة النقل والمواصلات فى مدنه.. فلنأخذ العِبرة فى حياتنا من خلق الله وفسيولوجية إدارته البيولوجية لكل إنسان ببساطة ويسر.. الحقيقة المؤلمة أننا لا ندير حياتنا بكفاءة على كل المستويات، ونحتاج لوقفة علمية، ونفكر فى حلول نسميها خارج الصندوق.. والحقيقة أنها أمامنا وداخلنا وممكنة ويسيرة.
تعالوا ننظر إلى جسم الإنسان وإلى حياتنا ونأخذ العبرة. يجب أن يكون للوطن مايسترو يعرف ما يدور وينسق ويتناغم مع مفردات احتياجاته بتوازن، ويحمى خلاياه من دمارٍ، داخليًا كان أو خارجيًا، مع استمرار البناء والتجديد. عقل الأمة وجهازها العصبى هو حكومتها التى يجب اختيارها بدقة، وأن يحكم على كفاءتها دائما.. وروح الأمة هى مجموعة القيم الإنسانية التى اتفق عليها البشر عبر خبرة السنين وتكامل حكمة الأديان وقيمها الروحية وتجارب البشر وخيالهم واحترام التقدم الذى يحرزه كل جيل عمن سبقه.
إننا كأفراد نمثل خلايا الجسم، وصحتنا تأتى من صحة كل البدن، وبلدنا هى بدننا، ونحن خلاياها. ليصح البدن يجب أن نكون أصحاء، ولكى نعيش وننمو ونتكاثر لابد أن يكون الوطن صحيحًا متكامل الأوصاف.
فلا نَستهِن بأى وظيفة من وظائف جسم الوطن مهما بدت تافهة أو صغيرة، ولنتجدد ونتكاثر وننمو ونتعدد، فلكل خلية دور، ولكل عضو فى الجسم وظيفة، ولو أراد الله أن يخلقنا متشابهين مكررين، لما كنا انتمينا إلى بنى الإنسان، وكنا أصبحنا خلقًا غريبًا.
الربط بين العلوم قد يهدينا إلى الطريق، فرفقًا بخلايا الوطن يا عقله ويا جهازه العصبى.
الربط بين العلوم قد يهدينا إلى الطريق، فرفقًا بخلايا الوطن يا عقله ويا جهازه العصبى

التعليقات

التعليقات