الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / «فلسفة النصف» بين الشاعر والكاتب والسياسى.. بقلم د بدراوي

«فلسفة النصف» بين الشاعر والكاتب والسياسى.. بقلم د بدراوي

«فلسفة النصف» بين الشاعر والكاتب والسياسى
حسام بدراوي
قال جبران: لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف فى منتصف الحقيقة. لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل. إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريبا. النصف هو أن تصل وألا تصل، أن تعمل وألا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. نصف طريق لن يوصلك إلى أى مكان، ونصف فكرة لن تعطى لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان وجدت كى تعيش الحياة، وليس كى تعيش نصف حياة.
وقلت: هل نحن مستعدون للاختيار؟!، وهل نحن مستعدون للحسم الثقافى والاجتماعى والسياسى الذى لا يخدم فقط تنوير العقول ويغير شكل مستقبل البلاد ويلائم تطور البشرية، بل يكون صانعها؟.
أم نريد نصف انفتاح ونصف انغلاق..!.
هل نريد قطاعا خاصا قويا خالقا لفرص العمل، أم نريد قطاعا عاما تتحكم فيه الدولة وأجهزتها أم النصف من ذلك والنصف من هذا انتقائيا حسب الظروف.
هل نريد التخلص من الفقر، وأن نكون أغنياء أم نريد المساواة فى الفقر لأننا فى النصف.
هل نريد مجتمعا مدنيا قويا وجمعيات أهلية مستدامة، يساند وينمى أم نتفزلك فى قوانين تقتله فى مهده وتمنعه بحجة البيروقراطية أحيانا والأمن أحيانا أخرى.
نحن فى النصف نريد ولا نريد.. وللأسف يتغير ما نريده حسب الأحداث كردود فعل وليس كمبادرات.
هل نحن دولة مدنية حديثة أم دولة دينية رجعية؟، كل ما يحدث أمامى يقول إننا فى النصف فلا نحن دولة دينية بمعناها الكامل ولا نحن دولة مدنية بمعناها الكامل، فنحن لا نمنع تدخل الدين ورجاله فى السياسة بوضوح، بل نسمح بقوانين تمنع مناقشة ما هو إنسانى بحجة أنه إلهى، مع الدفاع والإيمان بأحاديث يرتكز على فلسفتها الدواعش وطالبان وأمثالهم فى بعض كتبنا التعليمية، وفى الكثير من برامجنا التليفزيونية.
نحن فى النصف نحصل على تحكم الدين فى السياسة بدون إعلان ذلك، ويصدر لنا أكثر من مليون فتوى رسمية سنويا تتدخل فى تفاصيل حياة كل مواطن، ومثلها فى برامج تليفزيونية تستضيف كل من هب ودب من شيوخ الجيل الجديد ليُحَرموا ويُحَللوا كل فعل ورأى.
ننادى بالمواطنة وأفعالنا فيها تمييز سخيف بين المواطنين المختلفين فى الدين ولا نقبل من يتجرأ أن يقول غير ذلك، نحن فى النصف.
نعمل الأيام والليالى، ونُكّون اللجان، عبر الأزمنة لنخرج للعالم باستراتيجيات تحفظ حقوق الإنسان، ونُكلم العالم بشكل ونتعامل مع بعضنا بشكلٍ آخر، فلا نحمى المرأة من انتهاك حقوقها فى الميراث، ولا تُقبل شهادتها كاملة فى بعض الأحيان، ومازلنا نبرر ضربها من الزوج طالما بالهوادة رغم أننا فى زمن غير الزمن، وحياة غير التى كانت.
ندّعى الحفاظ على حقوق الإنسان ونتمسك بالمواطنة فى الدستور، ولا نتجرأ إلى رفع خانة الديانة من بطاقة الهوية تأكيدا لأن هوية المواطن مرتبطة بالدين وليس الوطن فقط.
ندّعى حماية الحريات، ونسمح بالحبس الاحتياطى بالسنين وبدون إجراء تحقيقات تستحق التحفظ على المتهم، وكلنا يعلم أن الحبس الاحتياطى أصبح عقوبة فى حد ذاته تتحكم فيه السلطة التنفيذية بقيود شكلية.
كلها أمثلة لواقع يمكن تعديله بجرة قلم، وبسرعة، والمثل أمامنا فى المملكة السعودية التى قررت إغلاق مصنع التطرف والوهابية وجماعات الأمر بالمعروف التى رسمت شخصية المملكة الرجعية عبر السنين، ونحن، فى بلد الثقافة والفنون نسمح بوكلائهم بالعمل فى مصر والجهر بأفكار التعصب والرجعية..
وكنت قد قرأت فى حديث لولى عهد المملكة فى الواشنطن بوست من شهور، وهو يعترف بأن كل هذا التطرف ونشره كان باتفاقات مخابراتية فى أوائل السبعينيات مع الغرب وأنه كان خطأ من الحكام.
مصر يجب أن تكون أكبر وأقدر على الخروج من هذا المأزق، وأمامها فرصة.
يا سادة، من يقف فى النصف لا يصل إلى أى خط نهاية ولا يحقق حياة. دعونا نحدد أهدافنا ونسير إليها ولا نتوقف فى النصف.
هل نحن دوله أمنية أم دولة مدنية حديثة كما يقول الدستور! نحن فى النصف. كلامنا يقول مدنية وحقيقة أفعالنا دولة أمنية بلا مواربة. وأقول وأنا مسؤول عن كلامى إن هناك انطباعا لدى المجتمع أننا كلنا مراقبون.. فى أى حوار، أجد الناس تُبعد التليفونات وتُغلقها خوفا من الحديث بحرية تخوفا من الرقابة. أنا أكاد أجزم أن ذلك ليس حقيقيا، لكن فى السياسة يصبح الانطباع حقيقة حتى لو لم يكن لها برهان.. وكم من انهيارات حدثت فى الدول، جراء تقليل حجم انطباعات المجتمع السلبية على أمور غير حقيقية، لكنها ثبتت فى الوجدان وكأنها الحقيقة (فلسفة حروب الجيل الرابع).
هل حقا نحترم حرية التعبير أم فقط نحترم حرية التعبير إذا أيدت النظام ولا نحترمها إذا عارضت بل نمنعها؟.. نحن فى النصف.
لكن ومن مدخل مخالف آخر فإن هناك فلسفة فى الدفاع على النصف تهدم كل ما بدأت به حديثى، مستوحاة من قصيدة للعقاد فى الدفاع عن الشيطان. يقول الأستاذ: إن النصف الحقيقى هو نقطة التوازن فى الكون وفى الإنسان. إن النصف هو ملتقى جزءين متطابقين/ أو متكاملين أو متقابلين. إن النصف هو التقاء الأفكار المتعارضة فيحدث اتفاق.
إن النصف قد يكون رمانة الميزان التى يتحقق بها العدل مثلا.
وأقول:
إن الجهد الحقيقى الآن ليس فقط فى قرار التوقف عن التأرجح على جانبى نقطة المنتصف، بل هو فى ابتداع نظام صالح للتشغيل فى مصر، أساسه التنوير واستخدام العقل.
قد يكون هناك نصف مفيد، غير متأرجح وهو الذى نحصل فيه على فوائد الحكم المطلق فى اختصار الكثير من الزمن فى تخطى عراقيل التطوير ونستبعد منه أضرار الديكتاتورية فى استمرار الحكم بدون تداول للسلطة. نظام نتجنب فيه أضرار الديمقراطية فى السير وراء القطيع من الغوغاء والدهماء لأنهم أغلبية عددية قد تسىء الاختيار ونحصل على التنمية والسعادة المرجوة من مشاركة الجميع. التحدى هو الانتقاء من هذا المنتصف بحرفية ثقافية سياسية واقتصادية مستنيرة. لقد ثبت معاناة الشعوب فى ظل الأنظمة الشيوعية بالكامل والرأسمالية بالكامل والديكتاتورية بالكامل والقبائلية بالكامل والملكية بالكامل، وكذلك نظم النصف العشوائى.
وأكرر مرة أخرى أنه بدون تطبيق ناجز للعدالة وثورة علمية فى جهاز تطبيق القانون وأقصد جهاز الشرطة (الذى كان سببا أساسيا فى انهيار النظام الأسبق رغم قوته وعنفوانه)، وبدون تنمية إنسانية من باب التعليم والإعلام والثقافة، يصعب تحقيق توازن النصف، ونعود لأضراره كما يقول جبران فلا نصل لأى هدف.
الحرية بدون قانون تصبح فوضى، وحجة الخوف من الفوضى تؤدى لتأييد استمرار الحكم الأمنى وهو خطر أكبر مهما بدا فعّالا فى لقطة من التاريخ.
أما الشفافية والمساءلة فهما طريق لا خلاف حوله فعلا وليس كلاما، ولكن التحدى هو: من يمثل الشعب فى المساءلة فى ظل الفقر والجهل وتفشى الفكر الرجعى المتشدد الذى لا يقبل المساءلة أساسا؟.
لابد من إيجاد صيغة جديدة تحترم توازن القوى، لكن لا تهدر قواعد الدولة المدنية الحديثة، وهذا ما يجب أن يسعى إليه المجتمع، والكتابة حوله بإيجابية بلا حساسية ولا خوف.
(مستوحاة أساسا من قصيدة لجبران خليل جبران عن النصف).
لقراءة المقالة من المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2492976

التعليقات

التعليقات