الخميس , 19 ديسمبر 2024

فلسفة وجود الجامعات

ما الأغراض التى تُرجى من التعليم العالى فى أى أمة؟.. وماذا نطلب منه وله؟.. قد يخيل لنا أن الأمور واضحة فى أذهان الجميع، وهى على غير ذلك، حتى فى أذهان بعض المتخصصين.
أيسر هذه الصور المُتَخَيلة هو ما يقع فى وجدان أولياء الأمور والتلاميذ، فهم يرون خريج التعليم العالى ذا مكانة اجتماعية أفضل، وأن شهادته تؤهل حاملها لهذه المكانة، ويرون التعليم العالى أرقى من أنواع التعليم الأخرى، بل إن هناك تقسيمًا نفسيًا داخله، فيرون خريج الجامعة أرقى من خريج المعهد، وأن خريج المعهد أرقى من خريج التعليم الفنى.. وهكذا.
كذلك ترى هذه الأسر أن الدولة عبر تاريخها الحديث تتطلب شهادة التعليم العالى للتعيين فى وظائفها المهمة، وأن هذا التعليم يؤهل طلابه لشغل الوظائف، خاصة إذا كانت شهادات تعليم عالٍ ممتاز، الذى تمثله كليات القمة كما سماها المجتمع.. أو أن الشهادة فى حد ذاتها جواز مرور اجتماعى بغض النظر عن المعرفة أو المهارات التى من الواجب اكتسابها من هذا التعليم. ولا أستطيع أن أنكر هذه الصور فى أذهان أصحابها، لأنها مستمدة من الواقع الذى يعيشون فيه، وتجاربهم المتكررة خلاله.
البعض يظن أن التعليم عليه أن يوفّى احتياجات السوق الوقتية، وهو تصور قاصر ضيق الأفق، لأن التعليم العالى له منافع أخرى متعددة، تتجمع فى كونه قاطرة التنمية فى أى مجتمع.. فهو تعليم لا يأتى كرد فعل لحالة سوق العمل، أو نسب البطالة، أو حال مهنة من المهن فى وقت بعينه.. ولكنه هذا النوع من التعليم الذى يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات.. كما يبنى الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها.
قليل من المثقفين يرون الدور التنويرى للجامعات ومؤسسات التعليم العالى، ويطرحون سؤالًا جوهريًا: هل الجامعات مجرد مقدمى خدمة تعليمية أم أنها بناة حداثة وصُناع حضارة؟!.
إننى أطرح عشر سياسات محددة نابعة من رؤية مصر ٢٠٣٠ لتطوير التعليم العالى، وأطرح فلسفة وجود الجامعات ووظائفها، لتتوافق السياسات مع فلسفة إنشاء الجامعات.
يفترض أنه فى كل مكان تحاول الجامعة تلبية أربعة أهداف، ألا وهى: الرفاهة؛ والنظام؛ والمعنى؛ والحقيقة.. ومن ثَمّ تمثل هذه الأهداف مجتمعة: فلسفة تأسيس ووجود هذه الجامعات.
فالجامعة تركز على رفاهة المجتمع بإعداد طلابها للتكامل البنّاء داخل المجتمع من خلال اكتساب المعرفة والمهارات التى تشكل أداة لإحراز التقدم وتحقيق التطور، أو بتنمية مجال البحث والابتكار لديها لتعزيز القوة الاقتصادية للأمة.
والهدف هو تلبية الاحتياجات الاجتماعية بشكل فعال واقتصادى. ولذلك فإن الهدف المنفعىّ للاستثمارات التى توجهها الحكومات والأطراف المعنية إلى جامعاتها يصبح مبررًا، فهناك عائد محسوس ويمكن قياسه على الأفراد وعلى المجتمع.
أما بخصوص النظام الاجتماعى، فإن الجامعة تساعد المجتمع كى يكون «مجتمعًا متناسقًا» تتبادل فيه المجموعات المختلفة المراجع وتجعل من العلم والمعرفة والمهارات الفنية أمرًا ملائمًا ومناسبًا. وهذا يتطلب وضع المهارات ومجالات المعرفة المتصلة بالتكامل المدنى واستخدامها فى التدريس وتكييفها مع الاحتياجات الاجتماعية الحالية. وكذلك يحدد التعليم العالى «مؤهلات» الأشخاص، وتصبح شهادات التعليم العالى والدراسات العليا بأنواعها المختلفة جواز مرور هؤلاء إلى المناصب المرموقة ذات الرواتب المناسبة الموجودة على درجات السلم الاجتماعى المختلفة، فالجامعات أهم مصدر لتنظيم المؤهلات العليا.
وتتناول الجامعة فى قضية المعنى مسلمات الحياة كما يعرفها المجتمع، وتبحث فى وجهات النظر المختلفة لكل القضايا، القديمة والجديدة، وتعيد النظر فى المراجع الفكرية المستقرة والمقبولة، وتعيد تنظيم البيانات وفقًا للمعايير الجديدة، سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو جمالية. ويكمن إثراء المعنى فى الإلمام الشامل والكامل بهذه المعارف ووجهات النظر المختلفة والتشكك فى المسلمات وإعادة تنظيم العالم كما نعرفه فى ضوء ذلك. ويترتب على هذا قدرة الجامعة على الإشارة إلى الإصلاحات الممكنة فى المجتمع، وهو ما يعتبر الأساس لأى نقلة حضارية تقوم بها الأمم.
وعند تناول الجامعة لمسألة البحث عن الحقيقة، فإنها تستكشف المجهول بوصفه النظام الطبيعى الذى تُشكل الإنسانية جزءًا منه. ولا يكمن الهدف من هذا محاولة هدم أسوار الجهل فحسب، بل التساؤل العميق فى مدى فهم الإنسان للكون المحيط به.
وتلتقى مراحل هذا الجهد مع أسلوب الاستدلال العلمى الواجب أن تنتهجه الجامعات فى دراسة العلوم المختلفة الذى يشمل التشكك؛ والتخيل؛ والاستيعاب.. وهى عملية تشوبها المخاطر أحيانا، حيث إنها قد تؤدى بنا إلى الخطأ والفشل، وهى أمور يقبلها العلم ما دامت تتم بمنهج الاستدلال العلمى والبرهان، ولكن يظل البحث عن الحقيقة مدخلًا أساسيًا لوظيفة الجامعة.
■ خصوصية الجامعة:
إن الجامعات تُبنى على محورين: أحدهما ينتقل من التركيز على الوجود المباشر (احتياجات الرفاهة) إلى الواقع الجديد (الدعوة للبحث عن الحقيقة).. والآخر ينتقل من المعارضة (الجانب الانتقادى) إلى الموافقة (جانب الالتزام ومساهمة المؤسسة فى الإنتاجية الاجتماعية). وتؤدى الجهود المبذولة لتحقيق الاتساق ما بين تلك الوظائف دائمًا إلى البحث عن وحدة الهدف كما يظهر فى كلمة uni-versitas نفسها.
وتعد عملية التحديث هى الوظيفة المنوطة بها الجامعات فى كل المجتمعات. وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعى والتطور العلمى، ينبغى على الجامعات- بوصفها من المؤسسات الضرورية للأمة ولبنة للتطور الثقافى- أن تقوم بمسح البيئة التى تنشأ فيها، وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة، وهذا يعنى الحرية الأكاديمية. ويجب على الجامعات أن تضع رؤيتها تجاه التزاماتها نحو هذا التحول، وأن تحدد كيفية استخدام أصولها بأفضل السبل الممكنة، وهذا يعنى الاستقلالية المؤسسية. وعمليًا، يعنى ما تقدم تحديد الاستراتيجيات التى تؤدى بها إلى وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها، ويفرض هذا توافر المساءلة.
■ أما السياسات العشرة للتطوير، فألخصها فى التالى:
أولا: إعادة صياغة مسؤوليات الدولة تجاه نظام التعليم العالى بجامعاته ومعاهده.
ثانيا: التوسع فى نظام التعليم العالى لتلبية احتياجات الطلاب الجدد وفقًا لرؤية محددة ومعلنة تشمل التعليم الفنى والتدريب المهنى.
ثالثا: إعادة تنظيم بشكل جذرى للمؤسسات التعليمية بهدف تحسين الجودة والوصول إلى المستويات العالمية التى نختارها.
رابعا: تطوير نظام متعدد ومرن يتفق واحتياجات التنمية، ويتصل وينفتح على الحركات الدولية المعنية بالتحسين وتحديث طرق التدريس والبحث العالمية والمحلية.
خامسا: إجراء تحرك ضخم ومتكامل كأساس لوضع البحث العلمى ونشاطاته كمكون حياتى فى مؤسسات التعليم العالى.
سادسا: تنمية العلاقة الديناميكية بين مؤسسات التعليم العالى وسوق العمل المصرية والعربية والأوروبية.
سابعا: الالتزام بالنزاهة الأكاديمية والمؤسسية، وترسيخ ذلك فى رسالة كل مؤسسة تعليمية، لتعكس قيم الصدق والمساءلة والمسؤولية كقيم أساسية، فضلًا عن احترام الأمانة العلمية والحرية، بالإضافة إلى احترام تكافؤ الفرص والتعددية.
ثامنا: دمج التكنولوجيا والثقافة الرقمية فى وجدان الطلاب وأعضاء هيئات التدريس بأولوية واضحة لا تسمح بالتراجع. والعمل على التوسع فى التعليم التفاعلى عن بعد والتعليم المدمج. ولابد من السماح بإنشاء مؤسسات متخصصة ومستقلة للتعليم عن بعد والتوسع فيها فى إطار ضمانات الجودة العالمية.
تاسعا: حوكمة إدارة مؤسسات التعليم العالى وكفاءة تنظيمها.
عاشرا: تنمية مناخ التعليم العالى بممارسة الرياضة والفنون والعمل الجماعى والتواصل بالمجتمع لبناء إنسانًا سويًا يملك مهارات القرن الواحد والعشرين، ومنافسًا عالميًا.
وأود أن أنهى مقالى بمقولة للدكتور طه حسين الذى ألهمتنى قراءة كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، حيث يقول الدكتور من أكثر من ثمانين عامًا:
«إن الجامعة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفًا، بل يعنيه أن يكون مَصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة، فإذا قصرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين، فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها!، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذى تقوم فيه، والإنسانية التى تعمل لها، وإنما هى مصنع من المصانع، يعد للإنسانية طائفة من رجال العمل، محدودة آمالهم، محدودة قدرتهم على الخير والإصلاح».

التعليقات

التعليقات