الأحد , 22 ديسمبر 2024

في السياسة.. اتكلم

قمتُ فى الشهور الأخيرة، وقبل أزمة جائحة كوفيد، بإجراء تجربة حية جديدة فى الشارع المصرى قبل إعلان الدولة الدعوة لانتخابات الغرفة الثانية للبرلمان المصرى منذ أسابيع، باسم مختلف، مجلس الشيوخ.. وحيث إننى أحظى- والحمد لله- بجانب كبير من الاحترام السياسى، فقد توافد لمقابلتى العديد من القيادات النقابية العمالية والفلاحين والعديد من القيادات السياسية على مستوى المراكز والقرى من كل الطوائف وعدد من نواب البرلمان المستقلين وحتى من بعض الأحزاب الممثلة فى البرلمان، وذلك لاستكشاف الجديد. ولقد خرجت بعد التجربة بالنتائج التالية، التى أوجزها لأنها قد تعطينا تصورًا للخطوات السياسية القادمة التى قد تحمى البلاد وتديم الاستقرار السياسى إن شاء الله.

أولًا: مازالت ثقافة أغلب المجتمع السياسى الحزبى هى السعى للاقتراب والتظلل بالسلطة التنفيذية. ولقد لاحظت وبوضوح أن رغبة هذا المجتمع السياسى تدور فى فلكين، أولهما، الخوف من الأجهزة الأمنية أن تعتبرهم معادين للدولة، مما يؤثر سلبا عليهم ويعوق تنمية أعمالهم. والفلك الآخر أن هذه الأغلبية تحتاج إلى الإعلان عن أنها مع تيار الدولة وأجهزتها (كما يسمونها) حتى يمكنهم خدمة دوائرهم واكتساب الوجاهة السياسية فى مجتمعاتهم المحلية.

ثانيا: القوة السياسية المؤثرة التالية هى قوة المال والتمويل. ولقد لاحظت أن تأثير ذلك كبير، ولكنه لا يغنى عن الأولى، ولا مانع ويا حبذا لو كان التمويل متواكبًا مع القوة الأولى ومؤيدًا برضا أجهزة الدولة. ولقد أصبح للترشيح ثمن، وللفوز ثمن، مما قد يجعلنا قد نرى من لا يستحق أصبح عضوًا بالبرلمان، ارتباطا بملاءته المالية وليس بعطائه السياسى والبرلمانى.. إن تأثير التمويل المالى المباشر على المستوى الشعبى يزداد أثناء الانتخابات، سواء تأثيرًا على جهات اختيار المرشحين أو على شراء الأصوات فى مجتمع تصل فيه نسبة الفقر إلى قرب الـ٤٠٪.

.. وأنا هنا أرسم واقعًا يعرفه الجميع، وهو واقع ناتج من مناخ كان موجودًا من قبل.. ومازال.

ثالثا: القوة الثالثة هى الأيديولوجية الثورية والمعارضة على كل شىء بشكل عام، والتى تقدم هدمًا لأى واقع بلا بدائل إيجابية. قليل ممن قابلتهم هم من هذه النوعية، وصوتهم عالٍ، وصراخهم شديد، وتأثيرهم سيكون فقط فى التظاهر أو المقاطعة، وإيجاد وترسيخ صورة ذهنية إعلامية فى الداخل والخارج توحى بأن مصر غير مستقرة، وتستخدم كل الوسائل لتعظيم الأخطاء وتعميمها، وأحيانا تعطيهم الدولة الوسيلة لذلك.

– أنا لا أرى لهم قيمة انتخابية، ولكنى أرى تأثيرهم فى خلق واستدامة طاقة سلبية فى المجتمع، مما يزيد حنق مجموعات من الشعب فى المنطقة السياسية الرمادية، تستنزف هذه الفئة من المجتمع وتجذبه إلى السخط وعدم الاستقرار النفسى.

رابعا: القوة الرابعة هى التيار السياسى اليسارى ذو الصوت العالى إعلاميا، ولكنه عبر التاريخ الحديث لم يحصل مرة واحدة على أغلبية برلمانية، ويميل إلى أن يستغل القوتين الثانية والثالثة عندما تتاح له الفرصة. هذا التيار قد يكون وراء تحريك الاعتصامات والإضرابات بين الموظفين والنقابات، ولكن فى أغلبه سينضم إلى القوة الأولى فى حال ظهورها.

خامسا: القوى الإخوانية، التى أخشى، لعدم شعبيتها الواضحة الآن، أن تتغلغل بين أوساط القوى الأخرى لركوب موجات الغضب وقت اللزوم، والعمل المستمر على توسيع الشقة بين الطموحات والواقع، والتركيز على أى أخطاء للإدارة الحكومية فى التعامل مع المجتمع، وعدم اعتبار أى إنجاز مهما كان.

فى هذا الوقت، هى قوى لا تستطيع الفوز فى الانتخابات إلا متوارية وراء مجموعة ما، أو حزب ما. ولا ننسى أن الإخوان قد تحالفوا مع حزب الوفد مرتين، وهو الحزب الليبرالى التاريخى، مرة عام ٨٤ ومرة أخرى عام ٢٠١٢.

إننى أرى أن كتلة الإخوان الانتخابية التى قد تصل إلى أكثر من مليون ناخب ستظل تمثل جذبا للانتهازية السياسية فى الحصول على الأصوات بأى شكل، وستظل تجربة «الوفد» مرتين أمامى تعلمنى أن كل شىء ممكن فى السياسة، للأسف.

ويجب ألا نغفل هنا أن هناك حزبا سياسيا رسميا معترفا به للسلفيين هو حزب النور، وأهدافه معلنة. ورغم أن ذلك يخالف مواد الدستور إلا أنه مازال قائما، وقد يستخدم كوبرى الديمقراطية للوصول إلى التأثير فى الحكم. ولا نغفل أن التيار الثقافى السلفى يزداد تأثيره فى مصر مجتمعيا، خصوصا بعد إغلاق الأبواب أمامه فى المملكة السعودية.. وكما قال لى الأستاذ محمود السعدنى الكاتب الساخر يوما عن الشيوعية: «المصنع قفل يا دكتور فى روسيا، والوكيل شغال فى مصر»، فالآن باب الرجعية والسلفية السياسية يغلق فى المملكة، والوكيل تزداد قوته فى مصر.

إن إيجاد طريق جديد يتيح الاستقرار السياسى دون تكرار نموذج الحزب الواحد التابع للسلطة التنفيذية ليس سهلًا بتفشى الفقر، حسب آخر تقرير للدولة، إلى أكثر من ٣٢ مليون مواطن، وارتفاع مستوى الأمية.

ومع احترامى للجميع، فإن نموذج حزب مستقبل وطن يراه المجتمع السياسى كله تابعًا للسلطة التنفيذية، كما أن تنسيقية الشباب مشابهة لتجربة منظمة الشباب فى الستينيات دون أيديولوجية ولا قائد، وهو ما أراه غيابًا للخيال السياسى ومحاولات إعادة صياغة الماضى بنفس الطريقة فى انتظار نتائج مختلفة.

أما أجهزة الأمن، فمن الواجب عدم التوسع فى دورها السياسى كفاعل، وأتفهم تدخلها لملء الفراغ السياسى خوفًا من الفوضى بعد تخلص الشعب من الإخوان، ولكنه حل قصير المدى لم ينجح تاريخيًا فى إحداث الاستقرار على المدى الطويل فى أى بلد، وسيجعل أجهزة الأمن إذا استمرت خارج نطاق عملها المحايد بين القوى السياسية حفاظا على القانون وحقوق الجميع، مهما حَسُنت النيات، طرفًا فى منافسة سياسية من وراء الستار.

تلخيصًا لدراستى للواقع السياسى، فإن تكوين ظهير حزبى سياسى قوى يحظى بالأغلبية لن تقوم له قائمة دون الرئيس، أى رئيس، واستخدام شعبيته، وستظل البدائل السياسية بين القوى الأخرى كلها غير مستحبة، ولذلك يجب التفكير فى النماذج السياسية الأخرى المتاحة عالميا أو ابتكار النموذج الذى يتيح استمرار واستقرار البلاد، ليس فقط فى فترة حكم الرئيس السيسى ولكن بعد ذلك أيضا.

إن الديمقراطية بشكلها الغربى تتغير، وللأسف فإنها فشلت فى الدول النامية والفقيرة التى تتفشى فيها الأمية، فكيف نوجد التوازن بين الحق فى الحرية مع عدم السماح بالفوضى؟!. إنه «جهاز العدالة وأجهزة إنفاذ القانون والتعليم».. ثلاثة أعمدة لتحقيق المعادلة الصعبة مع زيادة الثروة والضمانات الاجتماعية للحقوق، وأولها الصحة والسكن والمواصلات. وكلها ممكنة فى مصر فى عقد واحد من الزمن، لأننى مؤمن بأن مصر بلد غنى ويملك ركائز النهضة.

فى رأيى أن الرئيس يملك مصداقية الفرصة التاريخية ليكون الأب الروحى للجميع، وقد تكون تجربة انتخابات مجلس الشيوخ، وفرصة تعيين ثلث الأعضاء، وتحكم الدولة المطلق فى الائتلافات المرشحة فرصة لانتقاء الأفضل وجمع الخبرة والمعرفة السياسية للشيوخ مع الطاقة الظاهرة والكامنة للشباب بأفضل القواعد، خروجا من ضيق مساحة زوايا الاختيار الحالية وتوازن القوى التى وصفتها فى بداية المقال.

أمامنا فرصة فى مجلس الشيوخ ليكون عونًا فى مرحلة سياسية جديدة، يكون الاستقرار فيها مؤسسيا ومستداما.. أرجو ألا نضيع فرصة جديدة، وننظر لمجلس الشيوخ نظرة إيجابية من جانب الشعب ومن جانب الدولة. الشعب عليه أن يثق فى المستقبل، والدولة عليها أن تحسن الاختيار.

التعليقات

التعليقات