الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / مأساة أفغانستان.. وأولوية بناء الإنسان

مأساة أفغانستان.. وأولوية بناء الإنسان

مأساة أفغانستان.. وأولوية بناء الإنسان
حسام بدراوي
كنت قد كتبت تعليقًا على تولى طالبان السلطة فى أفغانستان بعد دمار البلاد ماديًا بواسطة الولايات المتحدة، وتوقع دمارها إنسانيًا بواسطة التعصب والقسوة بعودة حركة طالبان، قلت فيه:
«لقد ساندت الولايات المتحدة وموّلت الجهاديين فى أفغانستان الذين أصبحوا قلب طالبان، كما مولت ويسرت وساندت الإخوان فى الوطن العربى استكمالًا لعمل المخابرات البريطانية صاحبة الفضل الأول فى تأسيس هذه الجماعة وتأسيس فروعها: داعش وأخواتها وبوكو حرام وأشقائها. الولايات المتحدة تحت اسم الدعوة للحرية والديمقراطية خربوا كل مكان ذهبوا إليه، ونشروا التعصب والعنف تحت أعلام الحرية وحقوق الإنسان..
وربما هناك فائدة من محاولة الإجابة علي سؤال: لماذا نجحت التجربة الأمريكية البنيوية في كوريا الجنوبية وتايوان واليابان وألمانيا الغربية حيث أسست الدساتير والنظم السياسية ما بعد الحرب و
وفشلت قاصدة او غير قاصدة في كل ما هو غير ذلك؟؟
النظرة التاريخية لما يحدث فى أفغانستان الآن ستوصم حكومات أمريكا بالعار لسنوات قادمة.. لقد وضعونا بين مطرقة التعصب الدينى والإرهاب الفكرى، وسندان الديكتاتورية. ربنا يحمى مصر فى كل ما يمر ويحدث حولها من الدمار الذى يتخلل بلادًا كان عندها كل إمكانات التقدم لولا التدخل الأمريكى لتأييد الحكام المتسلطين فى زمن، ثم الانقلاب عليهم وخلق جماعات الإرهاب الدينى القمىء فى زمن آخر.. لقد جعلونى أترحم على الاستعمار البريطانى التقليدى الذى كان يمتص دماء الشعوب دون تدميرها على الأقل». وكانت الجملة الأخيرة فى تعليقى هى التى فتحت الحوار الذى دار مع الشباب..
قال الشاب القارئ فى التاريخ: هل تترحم يا دكتور على الاستعمار البريطانى؟!، وهل يختلف عن الفرنسى الذى كان يقضى تماما على لغة وهوية وثقافة البلاد المحتلة، أم الاستعمار البلجيكى بقسوته واستعباده للكونغو وتقطيعه أيدى وأرجل كل من يعارضه، أم تقارنه بالاستعمار الإنجليزى الفرنسى البرتغالى الإسبانى للأمريكتين، الذى محا وجود شعوب سكنت هذه الأرض آلاف السنين.. لقد كانوا ومازالوا يدمرون الشعوب ولكن بأشكال مختلفة؟!.
.. قلت معتذرًا: والله معك حق يا ابنى، وأعتذر عن تفضيلى عدوانًا على عدوان، واستعمارًا على آخر.. المضمون واحد، سواء كان امتصاصًا لدماء وخيرات بلاد، أو استعباد أهلها، أو محو ثقافتها وتاريخها، أو الشكل الجديد الذى ابتدعته المخابرات الأمريكية والبريطانية وأسميه «فرانكشتاين الأمم». الاستعمار الجديد يمتص الدماء ويحوّل المُعتدَى عليه إلى مصاص دماء جديد، من الإخوان إلى القاعدة، ومن داعش إلى بوكو حرام، ومن طالبان إلى كل تنظيم متطرف يقتل مواطنيه ويفرض عليهم نظامه متلحفًا برداء الدين ليقضى على هوية بلاده ويعود بهم ألف سنة إلى الوراء.
أكرر اعتذارى.. فلا فرق بين حرب الأفيون التى خاضتها الصين ضد المحتل البريطانى عن حروب اليوم.. كلها تصب فى مصالح الغرب الاقتصادية تحت مظلة ادعاء حقوق الإنسان والحريات ونشر الديمقراطية.
قالت الشابة المثقفة: سمعناك تقول: «لا يوجد ما يسمى الحقيقة المطلقة، لأن الحقيقة لا تكون حقيقة إلا بقدر ما يتوافر لك من معلومات وما تدركه حواسك من حقائق.. وعليه فإنك لو أعملت عقلك بالنظر والاستدلال والمقارنة ثم استبعدت انتماءاتك الفكرية وقناعاتك الشخصية، فإن ما يتبقى يكون هو الحقيقة المجردة مهما بدت غرابتها!».. وسؤالى هو: لماذا يكره من يتولون أمر الدين المنهج العلمى والنقد عبر التاريخ؟
قلت: أولًا، الإسلام ليس فيه وسيط بين الإنسان وربه، وقصة رجال الدين الإسلامى هى تكرار لكهنوت الكنيسة الذى لم يقره الإسلام، وتخلص منه الغرب بفصل الدين عن الدولة. ولقد قرأت لصديقى سامح عسكر أن كل مفكر مستقل هو مشروع ضد كبرياء وغرور الكهنة. كيف يجرؤ على فهم دينه بنفسه؟ كيف يجرؤ على نقدهم والحط من صورتهم أمام الناس؟ كيف يهدد مصالحهم وأموالهم؟
رجل الدين يحب أن يلعب دائما (دور النبى وحارس المعتقدات)، وهو دور يحمله على الكراهية لكل مختلف، والشك فى كل ناقد، والرافض لأى استقلال عن دوائر نفوذه، ولن يتحرر الكاهن من هذا الشعور إلا بالتخلى رسميًا عن صفة رجل الدين أمام العامة، ليصبح صورة أخرى أقرب للزاهد العابد لا الفقيه المتداخل فى حياة الناس أو الحاكم لهم.
فكرة الخلافة التى يدعو إليها رجال الدين تتأسس على أن الحاكم هو خليفة الله فى الأرض، وهو قلب الحكم الدينى الذى لا يقبل النقد فى الموروثات والمعتقدات، ولا فى التصرفات، ولا فى تداول السلطة.
الإنسان الطبيعى العاقل يعمل ضد الظلم والجهل والفوضى، ويناضل من أجل كرامة وحقوق الناس، بينما الإنسان الذى يأخذ من الدين مهنة، لا يجعل لهذه الأمور أولوية، بل للمعتقدات التى يحرسها، وبفضلها يحصل على نفوذه ومكانته.. ثم يبدأ فى خداعهم وإيهامهم أن معتقداته تضمن لهم العدالة والنظام ليبقوا تحت طاعته.. وأحيانًا، يفعل ذلك وهو لا يدرى أنه يضللهم، لأنه بمرور الوقت يصدّق نفسه، حتى الحكام الذين ادعوا الألوهية فى التاريخ كانوا مصدّقين لأنفسهم!.
قال شاب آخر: ما قراءتك لأحداث أفغانستان وتولى طالبان السلطة؟
قلت: عشرون عاما كاملة (2001-2021) قضتها أمريكا فى أفغانستان وأنفقت فيها ما يقرب من تريليون دولار (1000 مليار دولار) بحجة محاربة تنظيم القاعدة وباقى التنظيمات المتطرفة التى تدور فى فلكها.. ثم تركت هذا البلد المنكوب يسقط كثمرة ناضجة يسهل قطافها بواسطة ضباع الأيديولوجيات المتطرفة، دون أن تعبأ حتى بسمعتها وهيبتها بإعلان هزيمة أكبر دولة وأقوى جيش فى العالم على المستوى الرسمى.
قال شاب آخر: مصر بعيدة عن أفغانستان.. فلماذا الاهتمام أساسًا؟
قلت: يا بنى، أُذكّرك بأن أفغانستان كانت خزان الإرهاب الاستراتيجى الذى انطلقت منه موجات إرهاب الثمانينيات والتسعينيات التى طالت دولًا عديدة فى المنطقة ومنها مصر. وأذكّرك بما عُرف فى الثمانينيات والتسعينيات بتنظيم «العائدون من أفغانستان».
ولا ننسى أن الكثير ممن كانوا شباب جماعة الإخوان وأصبحوا قادتها لهم صور عديدة تجمعهم بأسامة بن لادن وباقى أمراء الحرب من قادة الميليشيات الأفغانية وقتها.
وأذكركم بأن الكثير من قادة ميليشيات الإرهاب فى ليبيا الذين يتحكمون فى المشهد الآن كانوا فى شبابهم من أعضاء «الجماعة الليبية المقاتلة»، وهى مجموعة الشباب الليبيين الذين ذهبوا فى الثمانينيات للجهاد فى أفغانستان وبايعوا تنظيم القاعدة وقاتلوا فى صفوفها.. وهناك أيضا قادة جبهة الإنقاذ الإسلامية بالجزائر من أباطرة الإرهاب وكلهم عائدون من أفغانستان.
إننا لسنا بعيدين يا شباب، وربما سنكون على موعد مع موجة جديدة من الإرهاب، بعدما واجهنا تنظيمات الإخوان وداعش فى سيناء وفى شرق ليبيا.. كما أن مجرد موافقة طالبان على تسلم تركيا لزمام الأمور كالمطارات والمنشآت أعتبره مؤشرًا على وجود نوايا سيئة.. تركيا قد تكون هى مقاول الأنفار لنقل الإرهاب إلينا.
قالت شابة أخرى: ألا يجب أن لا نتسرع فى الحكم على طالبان وننتظر إذا صدقوا فيما يقولونه عن اعتدالهم؟
قلت: لا يوجد اعتدال فى التطرف. الصراع الدينى هو الطريق لسفك الدماء، كل المذابح طوال التاريخ شهدت إما رفع الصليب فى وجه فريق يرفع الصليب، أو المصحف فى مواجهة المصحف.
قال شاب آخر: يا دكتور، العالم الحر لن يتركهم.. إن مجرد القبض على معارض مصرى يجعل الدول ومنظمات حقوق الإنسان تتحرك ضد البلد!.
قلت: صحيح، ولكن انظر لكل الصورة وليس جزءًا منها. العالم كله يتفرج على طالبان وهى تستولى على السلاح الأمريكى وتسيطر على أفغانستان، وتقتحم العاصمة، ويتساقط الهاربون من الطائرات دون تحرك دولى!.
قال شاب حكيم: ما الذى تخشاه مما يحدث فى أفغانستان؟
قلت: أنا أعلم أن قيادة مصر على علم بالأخطار، ولكن ما أخشاه هو أن تكون مواجهة ذلك استخبارية أمنية فقط. المواجهة يجب أن تكون بمواجهة النفس بالحقيقة وببناء الإنسان الحر القادر على الإدراك، ويفرق بين الحق والباطل، ويحترم الاختلاف.
للأسف، بيننا من يرى فى طالبان النموذج الذى يحلم به. صحيح أنهم أقلية، ولكنهم أقلية نشطة ومُبادرة وتتفاعل مع السوشيال ميديا.. والأغلبية تدريجيًا تخاف من إبداء رأى مخالف لهم وإلا يتم الهجوم عليهم وسبهم والتشهير بهم.
تيار التنوير لمواجهة هذا الشر المبين يحتاج إلى الاستقواء ببعضه وبالدولة، إن كانت حقيقةً دولة مدنية حديثة كما يقول دستورها.. يحتاج للاستقواء بشعبه الذى أزاح حكم الإخوان فى سنة واحدة، فى سابقة تاريخية، وأبطل مخططًا مرعبًا لكل المنطقة.. فلتظهروا وتتكلموا وتكتبوا بلا خوف من إرهاب الفكر وكبت حرية الرأى.. ونتفهم أن بناء الإنسان الحر السوىّ هو الأولوية.

التعليقات

التعليقات