مصر التى نحلم جميعًا بها
حسام بدراوي
د. أسامة حمدى، الأستاذ بجامعة هارفارد، هو العالِم المشهود له عالميًا فى بحوث وعلاج مرض السكر، ويدير واحدًا من أفضل مراكز البحث والتطوير فى علاج هذا المرض العضال فى العالم بالولايات المتحدة، ونشترك معًا بالميلاد فى المنصورة، والذوبان حبًا فى بلادنا، حالمين بالغد وعاملين له. دارت بيننا مناقشة حول مصر التى نحلم بها، وتاريخها المرتبط بقادتها، ولأننا نرى فى الناس أفضل ما فيهم، ونقدر بإيجابية ما نراه حسنًا وننقد ما نراه خطأ، فقد كانت المناقشة حول زعماء مصر فى العصر الحديث، بدأها د. أسامة قائلا:
مر على مصر سبعة حكام فى الثمانين عامًا الماضية، كل منهم حاول قدر الإمكان خدمة هذا البلد من موقع القيادة، فأجاد وأخطأ، وقد تتحمس لواحد منهم فترى فقط إنجازاته، و«تقرقش الظلط» لإخفاقاته فتراه ملاكًا، ولكنك ربما تنسى أن الحاكم ما هو إلا خادم للشعب وليس سيده، ونجاحه وإخفاقه يكونان بمقياس رضاء الناس عنه وقت حكمه وكلمة التاريخ بعد رحيله. وللأسف فقد انتهى عصر معظمهم بغير ما تمنوه.
قلت: لو كان تداول السلطة يحدث مدنيًا دون وفاة أو انقلاب أو اغتيال لكنا نرى بناء فوق بناء، وتراكمًا لإيجابية كل عهد، وإصلاحًا لأخطائه، وما كنّا نرى كل رئيس يهدم فعل من قبله أو أحيانًا يزيل اسمه من التاريخ ويتهم زمنه بالفساد والفشل. قال: معك حق، بنظرة حيادية على هذه العصور لزعمائنا فإن لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فهم بشر يصيبون ويخطئون، وكل منهم عاش فى عصره بمناخه الذى يختلف عما نعيش فيه الآن.
قلت: تعالَ نأخذهم واحدًا بعد الآخر، ونرى وجهات النظر فيما أنجزوا وأخفقوا فيه.
قال: سأبدأ بالملك فاروق، عصر الباشاوات والحفاة، كان وطنيًا يحب بلاده، ويحترم النظام الدستورى الديمقراطى والانتخابات الحرة، ويكره الاستعمار.
قلت: وماذا عليه؟
قال: الاستهتار الشخصى وهوس القمار والعبث فى السياسة بتغيير الوزارات، وإهمال الريف وتركه فريسة للجهل والفقر والمرض، ودخوله حرب ٤٨ دون استعداد أدى لهزيمة لكل العرب.
قلت: ونهاية عصره كانت الخلع من السلطة بثورة الجيش. وأضفت: وماذا عن محمد نجيب الذى تم محو وجوده من التاريخ طوال حياة عبدالناصر وانتهى زمنه بالخلع والإقامة الجبرية؟
قال: انتهت فى عهده الملكية والاستعمار وإعلان الجمهورية، ولكنه ارتمى فى أحضان الإخوان المسلمين والأحزاب المنحلة ولم يكن القائد الحقيقى للثورة.
قلت: عهد عبدالناصر سيشهد خلافًا بينى وبينك بحكم معرفتى بك.
قال د. أسامة: عبدالناصر كان عصره هو عصر النهضة الصناعية والعدالة الاجتماعية، آمال الوحدة والانفتاح على إفريقيا، تأميم القناة، بناء السد العالى، النهضة الثقافية والأدبية والفنية، تنامى البُعد الاشتراكى، ومحاولة تحقيق مجتمع الكفاية، قوانين اجتماعية لحماية الطبقة المتوسطة والعمال والفلاحين، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، ثم حرب الاستنزاف بعد الهزيمة.
وأكمل: أما ما عليه فكان الاعتماد على أهل الثقة، إخفاق مشروع الوحدة، التورط فى حرب اليمن، نكسة ٦٧ التى مازلنا نعانى من آثارها، النظام الشمولى وغياب الديمقراطية، السيطرة على الإعلام، والقمع الأمنى.
قلت: لقد كنت محايدًا فى وصفك، ولكن ما آخذه على عهد ناصر هو ضياع الفرصة، فقد كان بما له من شعبية فى العالم العربى قادرًا على أن ينقل البلاد إلى عهد ديمقراطى مستدام، ولكنه ارتضى الديكتاتورية واستسهل الاستفتاءات، وضيع فرصة قد لا تعود فى تاريخ العالم العربى.
قال: وماذا عن أنور السادات؟
قلت: عصر الانتصار وبداية السلام، واستعادة سيناء، والتحول الديمقراطى، وبناء المدن الصناعية، والخروج من فلك المعسكر الشيوعى الروسى برؤية مسبقة لاحتمالات سقوطه.
قال: وما عليه كان كثيرًا أيضًا، الانفتاح الاقتصادى المتهور واتساع الفوارق بين الطبقات، المقاطعة العربية، إعادة الإسلام السياسى إلى الساحة، والارتماء فى فلك المعسكر الغربى الأمريكى، وهدم كل ما كان يمثله عهد ناصر من عدالة اجتماعية. وانتهى عصره نهاية مأساوية بالاغتيال (الاستشهاد) وسط جنوده بيد من أخرجهم وعفا عنهم.
قلت: عصر حسنى مبارك تميز بالاستقرار، واستكمال تحرير الأرض، وعودة العلاقات العربية، وعدم التورط فى صراعات فى المنطقة، واتساع الاستثمار الخارجى، وارتفاع الدخل العام للبلاد.
قال: نعم.. ولكن ذلك لم ينعكس على المواطن من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، مع تجريف اجتماعى وركود سياسى، وإخفاق فى التعليم والصحة، واتساع الفوارق بين الطبقات، والانفجار السكانى الرهيب، وظهور العشوائيات، والإفراط الأمنى، والانهيار الأخلاقى للمجتمع.
قلت: الحقيقة أنه أيضا كانت لديه الفرصة لتأكيد الديمقراطية وتداول السلطة كما كان يقول فى بداية حكمه، ولكنه لم يفعل، وانتهى حكمه بالتنحى مجبرًا عن السلطة بشكل غير دستورى وتسليم السلطة للقوات المسلحة بدلا من إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وفق الدستور. قال: أما محمد مرسى، فكان عصر صعود الإسلام السياسى والسقوط السريع والمريع نتيجة الغرور والغباء السياسى والاستحواذ على كل السلطات وتلوين المجتمع بلون الإخوان.. ولكن علينا أن نذكر محاولته الاهتمام بالبعد الاجتماعى، وحقيقة حرية الإعلام الذى كان أحد أسباب سقوط حكمه.
قلت: كذلك تمكين الإخوان من كل مفاصل الدولة، وتدمير مؤسسات الدولة وإنشاء مؤسسات موازية كالميليشيات المسلحة، وفتح الباب للمتطرفين وحمايتهم، وفتح الباب للتدخل الخارجى التركى والقطرى والأمريكى فى شؤون البلاد ومستقبلها والانهيار الاقتصادى، وانهار عصره بالعزل من السلطة بثورة شعبية وتأييد ومعاونة من الجيش.
قال د. أسامة: لو كانت مصر أخذت بأفضل ما فى حكامها، وبَنَتْ على إنجازاتهم، وأصلحت أخطاء كل عصر بدلا من هدم كل شىء والبداية من جديد، لكنا فى مكانة أخرى.
قلت، وأنا وهو نستكمل جمل بعض: لو جمعنا معًا مزايا كل منهم لتحققت الدولة المصرية المدنية العصرية الحديثة التى نحلم جميعًا بها «نظام دستورى ديمقراطى مستقر، وانتخابات حرة، وتداول سلمى للسلطة، وفصل تام بين الدين والسياسة، ونهضة صناعية كبرى، وتعليم عالى المستوى، ورعاية صحية بمعايير عالمية، ومواصلات عامة تحترم آدمية المواطنين، وعدالة اجتماعية مبنية على فلسفة واضحة، وتكافؤ للفرص، ونهضة ثقافية وأدبية وفنية، وتنامى وحماية الطبقة المتوسطة، واتساع الاستثمار الخارجى داخل البلاد، مع حرية الإعلام، واستكمال المشاريع الكبرى والبنية التحتية واستدامة الإصلاح الاقتصادى، مع تحسن ورفع كفاءة الأداء الأمنى، وعلاقات عربية ودولية متوازنة، والقضاء على العشوائيات، وإعادة التخطيط العمرانى، وجذب الاستثمار وتنمية السياحة».
أليست هذه مصر التى نحلم جميعًا بها؟!.
قلت: التنمية الإنسانية يا صديقى والتداول السلمى للسلطة هما أساس البناء التراكمى والتعلم من أخطائنا، وألا نعيد فعل نفس الشىء فى انتظار نتائج مختلفة.
قال: بعيدًا عن معسول الكلام، وبمنتهى الصدق والإخلاص، أقولها لزعماء مصر الحاليين والقادمين: هذا هو كل ما نتمناه منكم لمصرنا الحبيبة، ليتذكركم التاريخ بالخير.