مفهوم الطاعة
وصلتنى الرسالة التالية وأود مشاركة القراء فيها ومغزاها:
(دكتور حسام:
أحب وأحترم ما تفعله وتوثقه فى مقالاتك.. أحب متابعة حواراتك حول القيم الإنسانية التى تجتهد من أجل أن تتحقق على أرض الواقع.. وفعلًا، لا سبيل للوصول إلى مبتغاك سوى بالتعليم.. ومن خلاله.
إن حواراتك عن الشباب تدفعنا فى ألا نفكر فقط، بل أن نتعامل بإيجابية.. ونجد الحلول ونمهد لها الطريق.. ولكننى بحكم تجربتى أعلم أن أمامك الكثير من العمل لإدماج كل هذه القيم فى واقع ووجدان المجتمع.
وتعليقًا على واحدة من القيم التى أتصور أنك وضعتها لتثير النقاش حولها وتعرف كيف ينظر الشباب إليها، وهى الطاعة، فقد أثر فىَّ الحوار جدًا.
إن أبى قد ربانا جميعًا على أهمية «طاعة الزوج»، أرسى فينا هذه القيمة، وكأننا ننتقل من طاعة الأب إلى طاعة ولى أمر جديد.. وأنه مسموح لنا أن نتناقش إذا وافق هو على النقاش، لكن فى النهاية فإن الرأى الأخير له والكلمة كلمته.
لقد أدركت أننى أمضيت حياتى أفعل الكثير مما لا يوافقنى، فقط لإرضاء زوجى طاعةً له كما ربانى أبى.. فى النهاية لم أستطع الاستمرار وانفصلنا.
سؤالى هو: لماذا تجب الطاعة للزوج.. هل لأننا مجتمع ذكورى فى وجدانه يعتبر المرأة أقل من الرجل فى القيمة والتأثير؟!.
فكرت فى تداخل الأحداث فى حياتنا، والذى أدى إلى ما نحن فيه.. جعلنى تفكيرى أدرك أن الكثير مما كنت أعتقده قيمة مكتسبة من ضغط أبى غير الحقيقى أساسًا.
زوجى لم يكن يقبل النقاش.. كان يغضب.. تعبنى وأرهقنى.. كلما قلت له رأيى يغضب.. كلما حدثته بما أفكر فيه أو أريد أن أفعله يغضب، أو يصر على فعل عكسه.. مما جعلنى أصمت سنين وسنين.. وصلت إلى أنى لم أكن أتحدث مطلقًا.. حتى فى شؤونى الخاصة بى، كان يحب أن يتدخل ويتحكم.. وبمرور الوقت أدركت أن هذا ضعف منه وليس قوة.. كان يحاول السيطرة حتى على تعاملى مع من حولى.. أهلى وأصحابى… ما فعله بى على مر السنين لا أستطيع نسيانه.. وإلى الآن يؤثر بى.. أثور جدًا إن وجدت بعضًا منه فى أولادى.. منذ يومين، ابنى تعامل معى بأسلوب قريب من أسلوب أبيه.. ثُرت عليه وأوقفته عند الحد الذى يجب أن يلتزم به معى.. رأيت ما فعله الإجبار وفرض الطاعة على نفسيتى وإحساسى بذاتى.. لا أستطيع احتمال أن يحاول أحد آخر أن يفكر، ولو من بعيد، فى أن يتعامل معى بنفس أسلوب «الأمر والطاعة» مرة أخرى.. أو أن يُشعرنى بما كنت أشعر به من إذلال.. أو أن يتلاعب بمشاعرى ويعزز إحساسى بالذنب إن لم أفعل له ما يريده.. يجب ألا نسمح لأحد بأن يؤثر سلبًا على مشاعرنا.. بأن يُشعرنا بالذنب على مجرد تمضية بعض الوقت لأنفسنا بعيدًا عنه.. أنانية مطلقة أن يطلب هو طاعتى المطلقة كما قال لى أبى وكما قال غالبا أبوه لأخته.
أعلم أننى بطبعى أدلل كثيرًا مَن أحبهم.. بإرادتى الحرة وليس جبرًا، لا أقبل أن يملى علىَّ أحد ما يرى أنه يجب أن أفعله.. إذا كان زوجى يريد اهتمامى ورعايتى فهذا مفهوم وهذا حقه.. وحقى أيضا الحصول على اهتمامه واحترامه.
لم أصمت فى النهاية، وبابتسامة قلت له كل ما بداخلى.. لم أعد أستطيع أن أقبل هذا الإذلال والقمع لإنسانيتى، أنا لست عبدة لزوج أو ابن وكأن والدى باعنى فى سوق الرقيق تحت تأثير قيمة ذكورية مجتمعية لا يقبلها
الإنسان السوىّ وهى الطاعة للزوج فى كل الأحوال.
أعلم أننى دخلت فى مواضيع أخرى غير مقالتك.. لكنها ربما متعلقة بالقيم التى يجب غرسها فى الأجيال القادمة، والتفرقة بين الاحترام المتبادل وقيمة تُغرس فى وجدان الرجال عبر عادات وممارسات علينا إعادة النظر فيها.
للعلم، أنا طُلقت بعد ٢٥ سنة زواجًا رغم أنى كنت أحب زوجى فى البداية، بحكم تربيتنا أيضا أن نحب من نرتبط بهم، ولكنى لم أتحمل، وبمجرد أن أصبح أولادى فى عمر يسمح لهم بالفهم والاستيعاب، خلعته وانتهيت من فرض الطاعة.
أنا ما زلت على علاقة جيدة بوالدته التى ترتاح إلىَّ وأزورها فى مرضها، وعمرى ما أسأت إليه أمام أولادنا، ولكنى لن أسمح لهم بفكرة أن يكونوا أسيادًا على زوجاتهم.
وعلى فكرة يا د. حسام.. أكثر الناس استعدادًا ليكونوا عبيدًا للحاكم أو ولى الأمر هم أكثرهم استعبادًا للمرأة والضعفاء. وكأن قيمة الطاعة تخلق الديكتاتور والعبد فى نفس الوقت. لقد أحسن الشباب التعبير.. وأحييك مرة أخرى على تنويرك للعقول).
قلت لها:
فى نقاش مع الحالمين بالغد من الشباب الذين يلتقون معى أسبوعيا وكنا نتكلم عن القيم الإنسانية الواجب العمل على تعميقها، جاء ذِكر الطاعة كقيمة تمثل الاحترام، إلا أن الشباب ثاروا مثلكِ وقالوا: إن ربط قيمة الاحترام بالطاعة مرفوض تمامًا. أساسًا الطاعة للعبيد وليست للأحرار. نفهم الالتزام بالقواعد، نفهم الحوار باحترام، نفهم الالتزام بالتعاقد أو الاتفاق.. أما الطاعة فمعناها التخلى عن العقل واستعباد للبشر.
فقلت لهم: أُذكركم تأييدًا لكلامكم أن مدخل تنوير البشرية فى عصور الظلام كان الخروج عن طاعة رجال الدين بمعتقداتهم ورجال السلطة الذين يودون التحكم فى الشعوب.
ولقد كان الفيلسوف إيمانويل كانط ملهمًا لعصره فى مقالته «تجرأ على المعرفة»، مؤكدًا أهمية خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلى وبلوغه سن النضج أو سن الرشد. وقد عرّف القصور العقلى على أنه التبعية للآخرين، وعدم القدرة على التفكير الشخصى أو السلوك فى الحياة، أو اتخاذ أى قرار دون استشارة الأوصياء عليه.. ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول: استخدموا عقولكم أيها البشر، ولتكن عندكم الجرأة، فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب، تحركوا وانشطوا وانخرطوا فى الحياة بشكل إيجابى متبصر.
والحقيقة أن هناك مستويات ترتاح لها مجتمعات الجهل الذكورية التى تأمر المرأة بالطاعة لزوجها، إيمانًا بأنها قاصر وليست على قدم المساواة مع الزوج.
إن حماية الإنسان تكمن فى تعليمه ليصبح ناضجا وقادرا على الاعتماد على نفسه، مستخدما عقله للتحرر من المعتقدات والحقائق الملقنة له عبر تاريخ فيه الكثير من الجهل.
وأزيد قائلًا إن القرآن الكريم عندما أعطى الرجل قوامة على النساء ربطها بالإنفاق على الأسرة وبما فضل الله به بعضهم على بعض، أى العلم والمعرفة والقدرة.
فى عالمنا اليوم، انتفت فكرة أن المرأة أقل من الرجل بل قد تزيد عنه بعلمها وحكمتها ومشاركتها له فى الحياة.
ونلاحظ هنا أننى لا أتكلم عن طاعة الله، لأنها بين الإنسان ونفسه وربه، لأنه الخالق ولا مساواة معه.
وأذكركم أيضا أن الطاعة فعل نفسى، وقد تكون شكلًا من أشكال «التأثير الاجتماعى الذى يخضع فيه الشخص لتعليمات أو أوامر صريحة من شخصية ذات سلطة».
وتتميّز «الطاعة» بشكل عام عن «الامتثال»، فهو سلوك يتأثر بالأقران، وعن «المطابقة»، فهى سلوك يقصد به مطابقة سلوك الأغلبية. واعتمادًا على السياق، يمكن اعتبار «الطاعة» سلوكًا أخلاقيًا فى إطار تنظيم الجيوش مثلا أو غير أخلاقى أو لا أخلاقى إذا ارتبط بسلطة إنسان على آخر لمجرد التحكم فيه أو الحصول مميزات.
ولا يسعنى هنا إلا أن أختتم هذا المقال بأن الحضارة لا يصنعها إلا الأحرار، وأن الاستعباد بكل صوره السياسية والاجتماعية مرفوض.. مرفوض يا أولادى.. وهو يختلف عن الامتثال للقانون الذى يرتضيه المجتمع والذى يطبق على الجميع بلا انتقائية، وهو الذى يضبط قيمة الحرية والمساواة.
الحكمة والتجربة تقول:
أصعب شىء نواجهه لتحرير إنسان من العبودية هو أن تقنعه بأنه ليس عبدًا.