الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / من الحياة إلى الحياة ..

من الحياة إلى الحياة ..

من الحياة إلى الحياة ..
حسام بدراوي
الحياةُ فى عُرف الناس نقيض الموت، حيث تُعتبر الحياة حالة تُميّز جميع الكائنات الحيّة على اختلافها – حتى الكائنات الدقيقة – عن غير الأحياء. ويتميّز الكائن الحى بمقدرته على العيش والنمو عن طريق التكاثر والاستقلاب (الاستقلاب هو مجموع عمليات البناء والهدم فى الخلية) لضمان استمرارية نوعه الحيوى، وقدرته على التكيّف مع بيئته من خلال التغيرات الجسديّة وأحيانًا الچينية.
ويمكن بنظرة شاملة لسطح الكرة الأرضيّة رؤية تنوعاتٍ عظيمة وهائلة من أشكال الحياة وتراكيبها. وتؤكد بعض التعريفات للحياة وضع شرط إمكانيّة التكاثر والإنجاب مع إجراء عددٍ من التعديلات التكيفية. ومن هذا المنطلق تتحوّل الفيروسات مثلا إلى نوعٍ من المظاهر الحيويّة عند استضافة كائن حى لها، بحيث يسمح لها بالتكاثر على الرغم من كونها لا خلويّة ولا تقوم بأى نوع من الاستقلاب.
وبعض الفلاسفة يُعلون من شأن الدافع الجنسى لدى الإنسان والحيوان، ويجعلون منه الركيزة الأساسية التى تدور عليها حياة الفرد والجماعة، بل يجعلون منه الأساس الأوحد الذى تدور حوله الحياة عند كل الكائنات، وبخاصة الإنسان. ومن ثم فإن الجنس هو مفتاح السلوك الإنسانى، وعلى أساس منه يمكن تفسير كل سلوك إنسانى من الألف إلى الياء.
أما الحياة عندى أنا، فلها مفهوم آخر: جمعى وتراكمى. ورغم أنها تخص كل إنسان بذاته، إلا أن مجموع البشر يؤثر فى بعضه البعض، والإنجازات البشرية تتراكم وتُنقل من جيل إلى آخر مما يجعل لكل مخلوق أثرًا فيمن يأتى بعدة. فالحياة ليست تجربة شخصية بل تجربة جمعية لها أثر تراكمى.
أما الأبناء فهم يتوارثون خبراتنا، ويضيفون إليها. والذكى منا – من الأجيال الأكبر سنًا – يتعلم من أبنائه أيضًا، لأنهم يحصلون على معارف ومهارات كل من سبقهم من البشر، كما يعطيهم هو خبراته، والبشرية كمجموع تقوم بنفس الفعل.
إن للإنسان حيوات متعددة ما قبل خلقه وتكوينه، تنتهى بولادته ليخرج لحياة ثانية يتكون فيها وعيه وإدراكه، وهى الحياة التى نعيشها.. هذه الحياة تبدأ بتكوين جسده ومعها نفسه، ووجودهما مرتبط بروحه، وتنتهى بخروج الروح وعودتها إلى بارئها، فيسقط الجسد وتموت النفس.. أى أن مكون الحياة التى نعيشها: روحٌ وهى من أمر ربى؛ ونفسٌ تحيا وتموت «فكل نفس ذائقة الموت»؛ وجسدٌ وعقلٌ واع ما هو إلا الناقلة من حياة سابقة إلى حياة آتية..
بعد موت النفس ومغادرة الروح وتحلل الجسد، تعود مكوناته البيولوچية إلى الأرض، ولا يتبقى من هذا الإنسان إلا نتائج عمله وذكراه فى وعى من عاشوا معه أو تأثروا بوجوده. ومجموع البشر يصنع التاريخ، ويمهد لأجيال جديدة بنوعية حياة مختلفة جيلًا بعد جيل..
فى لحظة الانتقال إلى الحياة التالية وفراق الأحباء لا يتبقى موجود سوى الروح التى تعود إلى الله.. الروح هى من تعيش الحياة التالية، وما كانت النفس والجسد إلا وسيلة لتواجد هذه الروح فى هذا الكون المادى.
الولادة والموت أمران حتميان لابد منهما، حتى إنهما يتشابهان، فعندما نولد نبكى عند قدومنا كأول مظاهر الحياة المستقلة عن الأم، وعند رحيلنا يبكون علينا، ونحمل بيدنا شهادة ميلاد وعند الرحيل نحصل على شهادة الوفاة.
إذا فهمنا ذلك.. فلماذا يخاف الإنسان من الموت؟
لقد انكب علم النفس على هذه الظاهرة فحصرها فى أربعة مخاوف هى: الخوف من المجهول، والخوف من المعاناة، والخوف من الوحدة، والخوف من التلاشى الشخصى.
إن مفهومىّ الحياة والموت فى الفكر الإسلامى لا يقابلان مفهومى الوجود والعدم كما فى المعتقدات والفلسفات التى تنكر الجزاء فى الآخرة، فالحياة الدنيا تمثل المرحلة الأولى من مراحل الوجود الإنسانى، كما أن الموت يمثل نهاية هذه المرحلة وبداية مرحلة جديدة لذلك الوجود ألا وهى الآخرة، وعلى هذا الأساس لا يكون الموت أمرًا عدميًّا، بل هو أمر وجودىّ، كما فى قوله تعالى ((الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملا)).
أما الخلود فهو الحياة الأبدية التى لا حد لها ولا نهاية، وهو اصطلاح يُطلق عادة على مرحلة ما بعد الموت، أى أن الإنسان وُلد ليبقى لا ليفنى، لأن الموت ليس نهاية الطريق، بل هو انتقال من حالة إلى حالة أخرى، من هذه الحياة إلى حياة أخرى، وهذا البقاء يقع ضمن المفهومَين المعروفين.
الموت يلاحقنا من خلال صور متعددة، فحين يموت صديق أو حبيب أو قريب يعتصرنا الألم ويغلفنا الحزن. ليس مبعث هذا الحزن هو مجرد فقدان إنسان عزيز علينا فقط، وإنما يزيد عليه انزعاجنا وحزننا لفقدان جزء من حياتنا يغيب برحيل ذلك الشخص. لقد ارتبطنا سنوات طوال بذلك الصديق أو الحبيب، وتشكلت حياتنا وفقًا لاعتيادنا رؤية ذلك الشخص والالتقاء به يوميًا، وبغيابه يغيب ما اعتدنا أن نمارسه برفقة ذلك الذى مات.
بموت الأحبة يموت ذلك الجزء من حياتنا الذى كان مرتبطًا بهم. وبمرور الوقت تتشكل لدينا عادات يومية لا يحتل فيها ذلك الذى رحل مكانًا، وبالتالى يخف الحزن ويتلاشى شيئًا فشيئًا كلما تباعدت فترة فراق الحبيب!!. إن حزننا قد يكون فى حقيقة الأمر منصبًا بشكل ما على فقدان ما اعتدنا أن نمارسه فى حياتنا برفقة ذلك الذى مات، بدليل أنه قد يصل إلى مسامعنا نبأ وفاة شخص لا صلة لنا به من قريب أو بعيد، ونتلقى النبأ دون أن يعترينا نفس نوعية الحزن، ودون أن تدمع لنا عين رغم تأثرنا الإنسانى العام.
يقول الإمام على بن أبى طالب:
«أنا بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغدًا مفارقكم، غفر الله لى ولكم».
إن فهم جدلية الموت والحياة محير، فأصل الوجود يقوم على موت فى حياة، وحياة الموت. ويتجلى هذا التناقض المدهش والمحير بين سحق الطبيعة للفرد، وبين المحافظة على النوع الإنسانى بكل إصرار- على حد تعبير الفيلسوف شوبنهاور.
حقيقة الأمر أن الموت ليس معارضًا للحياة، بل هو انتقالٌ من حياة الدنيا إلى حياة أخرى.
يقول هيجل، وهو من أهم الفلاسفة الألمان، ويعد من مؤسسى حركة الفلسفة المثالية: «إن الموت هو تصالح الروح مع ذاتها. إن الموت هو الحب ذاته، ففى الموت يتكشف الحب المطلق، إنه وِحدة ما هو إلهى مع ما هو إنسانى، وإن الله متوحد مع ذاته فى الإنسان.
من الموت تتولد الحياة ومن الحياة يكون الموت. وقد اتخذ أفلاطون، أول وأشهر فلاسفة العالم، إيمانًا ودفاعًا عن عقيدة الخلود من توالى الأضداد دليلًا على خلود النفس، وأن ثمة حياة أخرى أبدية للنفس الصالحة.
وقد أدرك البشر عبر الرسالات السماوية أن أمر الروح بيد الله، وأنه هو واهب الحياة، وهو الذى يملك أسرار الموت والحياة، فأينما نكون يدركنا الموت ولو كنا فى بروج مشيدة، وأنه لا تدرى نفس بأى أرض تموت. ومع يقين الإيمان، يَرضى الإنسان بقضاء الله وقدره ويشكره على نعمة الحياة مع ألمه النبيل بفراق الأحبة، فلله ما أعطى ولله ما أخذ.
أعتقد أن هناك إرادة كلية فى الطبيعة، كما خلقها الله، تنصب عنايتها على الحفاظ على الحياة فى الأنواع، ولذلك تهتم بالإبقاء على الأنواع فى النبات والحشرات والحيوان والإنسان، وهى فى اهتمامها بالنوع لا تلقى بالًا إلى الأفراد كما نظن.
كل ذلك دار بذهنى وأنا أودع ابنا حبيبا إلى قلبى وأنا أرى هذه المحبة التى تحيط به. قلت فى نفسى: هذا إنسان ترك الحياة التى نعيشها وترك وراءه قدرًا هائلًا من الأثر.. محبة ومودة وابتسامة لذكرى وجوده. لا أجد تكريمًا لإنسان مثل هذا التكريم الذى يحظى به د. عمرو أبوالعز عميد كلية طب الفم والأسنان، الشاب الكريم الذى جسد الإنسانية فى أرقى صورها.
تقول الحكمة:
«الموت لا يقلقنى لأننى لا أعتبره نهاية، بل ما يقلقنى هو أن أموت من دون أن أخلف تراثًا».. وما أجمل ما تركته فينا ولنا أيها الابن والصديق والأستاذ. أعلم أنك فى مكان أفضل، تحيطك رحمة الله ومحبته.. فلا يأتى تقبلك لمحنتك برضا وابتسامة وسعة صدر، ولا يأتى صدق حب الناس الذى رأيته فى توديعك إلا لو كان حب الله يشملك ويتخللك ويحميك.

التعليقات

التعليقات