الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / من الفوضى إلى الاستقرار

من الفوضى إلى الاستقرار

من الفوضى إلى الاستقرار
فى أعقاب نشوب ثورات «الخريف العربى»(!) فى 2011؛ وتوالى سقوط أوراق الحكم فى المنطقة؛ واقتلاع عواصف جماعة الإخوان المسلمين الهوجاء لجذور المدنية الحديثة – بترتيب وتمويل مخابراتى غربى- علاوة على قيامهم بصبغة المجتمعات بلونهم المتجهم، القاسى، البليد، غير القابل لأى تعددية.. وقفت مصر وحدها شامخة بشعبها وجيشها ومؤسساتها فى مواجهة تحدٍّ: إما البقاء فى خريف دائم فى ظل حكم دينى استبدادى غير كفء، أو الأمل فى الانتقال إلى «ربيع» حقيقى يشرق فيه نور المستقبل، وتزدهر خلاله الحريات، وتحترم فيه حقوق المواطنين، وتستقر البلاد وتنمو اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
هكذا بدأت حديثى مع شباب الحالمين بالغد والعاملين من أجله، بمناسبة الاحتفال بذكرى تحرك الشعب المصرى فى 30 يونيو، فيما يعد سابقة تاريخية محددة الزمان لرفع غمة حكم لا يتوافق مع طبيعة مصر وناسها وتاريخها.. إلا أننى وجدت نفسى فى مواجهة العديد من أسئلتهم التى أدخلتنا فى حوار جاد، وإن اتسم بالحدة أحيانا!!.
قال طبيب شاب: مع كامل الاحترام لما قلته د. حسام.. لكن هل نحن بالفعل انتقلنا إلى ذلك الربيع، أم ليس بعد؟!
قبل أن أجيبه، انبرت شابة أكبر منه سنًا قائلة: أنا معك يا دكتور فى أن مصر وقفت صامدة أمام رياح التعصب الدينى.. ولكن(!) نشعر أحيانا أنه لا توجد مساحة تسامح معنا ولنا؟!.
قلت: بداية وكما تعرفون.. لن تجدوا من هو أكثر منى طلبا للحريات، وموقفى معروف لكم فى السابق واللاحق!، ولكن.. فى الوقت ذاته، لن تجدوا أيضا من هو أكثر منى معرفة بمعنى الفوضى المجتمعية والسياسية التى تؤدى إلى انهيار الأمم والحضارات!!، فعقب إزاحة الإخوان ومرور ثلاث سنوات من التأرجح وتوقف التنمية وانهيار الخدمات؛ وأيضا بعد عودة التضخم فى عدد موظفى الحكومة نتيجة ضغوط الغوغاء والدهماء ومنافقة دوائر الحكم الهشة للجموع طلبا لرضاهم أو تجنبا لفوضاهم(!)، وكذلك عقب تقلص معدل التنمية إلى قرابة الصفر؛ والعودة لحدوث ارتفاع فى الزيادة السكانية لتقترب من 3% بعد أن كانت الجهود قد نجحت فى خفضها إلى نحو 2%؛ وأيضا بعد غلق العديد من المصانع والشركات، وهجمة اليسار المصرى على القطاع الخاص برفع لافتات عودة القطاع العام الذى سبق له أن دمر البلاد من قبل فى أعقاب حدوث جل هذه السلبيات.. خرجت مصر وحدها من هذا المأزق رافعة الرأس بفضل قيادة وطنية واعية واجهت إرهابًا داخليًا من جماعات التعصب ومدعى التدين فى سيناء وفى الصعيد؛ وآخر خارجيًا من عدو يتربص بها من الشرق، وجيوش يتم حشدها فى ليبيا غربا، وحكم إخوانى سودانى يعادى الشعب المصرى وحكوماته فى الجنوب، قبل أن تتم إزاحته هو الآخر، ليعود البلدان ويقتربا من بعضهما البعض مرة أخرى. يضاف إلى ذلك حركة حماس التى شاركت فى فوضى 2011، وهى تغذى الإرهاب فى شمال سيناء، وتتفق فى واقع الأمر مع خصم مصر الحضارى «إسرائيل» فى العداء لمصر!، كذلك هناك تربص من المجتمع الدولى.. سواء بمنع السياحة، أو فتح الأبواب والنوافذ لكل من يهاجم نظامًا أتت به جموع الشعب بإرادتها!، ثم جاء الخطر الأكبر من جنوب الجنوب.. فى تعنت إثيوبيا وتهديدها لشريان الحياة فى مصر!، كما أننا نواجه جائحة صحية لم يعرف لها العالم مثيلا من قبل!.
فهل تتصورون حكمًا فى مثل هذه الظروف يترك الحريات بلا ضابط أو رابط ويتيح الفرصة لمن يريد الوقيعة بين أفراد المجتمع، مسلمين ومسيحيين، وتقسيم هذا الشعب الواحد إلى شيع متناحرة تفضى بهم إلى الانقسام والكراهية والفوضى؟!.
إننى أتفهم جيدا قيمة اليد الحديدية لتنفيذ مشروعات البنية التحتية.. من طرق وأنفاق وكبارى وتبطين الترع، وتوسيع مجرى قناة السويس، وإنشاء مدن جديدة. كذلك أتفهم ما قد يأخذ مظهر الحدة فى أسلوب الدولة لمنع الفساد وفى تحصيل الضرائب. كما أننى لا أستطيع أن أنكر أن ثمة تنمية اقتصادية وصلت لقرابة الـ 5%، وأن البنية التحتية الآن أكثر استعدادًا لرفع كفاءة الاقتصاد المصرى.
حقًا.. إن حجم البناء والتشييد وتطوير البنية التحتية جدير بأن تُرفع له القبعة.
علينا أن ندرك تماما ونعى أن كل ذلك ما كان سيحدث لو كنا انشغلنا بخلافات وصراعات داخلية كانت حتما ولابد ستنشأ داخل فراغ سياسى لم تملأه أحزاب مدنية.. مع وجود شكوك فى منظمات المجتمع المدنى من جراء تجربة يناير 2011، التى ثبت منها أنه كان هناك تدريب وتمويل لقلب نظام الحكم بلا بديل سوى الإخوان المسلمين- للأسف- شاركت فيه بعض هذه المنظمات!.
نعم.. أتفهم، وعليكم أنتم أيضا أن تتفهموا: أننا مازلنا فى مرحلة انتقالية تحتاج إلى الحزم والحسم.. إلا أنه من المؤكد بعدها ستحدث انفراجة للربيع كما تحلمون. إن هناك الكثير من التعليم والتدريب تحتاجه البلاد، فضلًا عن الحاجة للقفز فوق هوة الفقر والجهل، للانتقال إلى الديمقراطية التى تحكمها عدالة ناجزة وتعليم بلا تمييز للجميع.
تساءل شاب آخر: لقد مرت سبع سنوات منذ التخلص من حكم الإخوان.. أليس هذا كافيا؟!.
قلت له: استرجع ما قلته لكم توا!! إن حجم وقوة الضغط على مصر كان ومازال كبيرا للغاية بهدف تفكيكها! وفترة السنوات السبع ليست أكثر من لحظة فى عمر التاريخ!. وعندما تعمل كثيرا تخطئ أيضا كثيرا!، ولابد لنا جميعا أن نستوعب الأخطاء ولا نبالغ فيها ونعظمها حتى لا نبث الغضب فى النفوس ونخلق طاقة سلبية فى البلاد. أنا كلى ثقة فى قيادة مصر وشجاعتها فى مواجهة الأخطار، وقدرتها على استيعاب النقد البناء.
أمامنا يا شباب عمل كبير من أجل تحقيق تنمية مستدامة.. وليس مجرد طفرات لحظية.
سألت زميلته: وماذا عن سد النهضة يا دكتور؟! ما تحليلك للموقف؟
قلت: بما أنه غير متاح لى الاطلاع على الوثائق أو المستندات التى تجعلنى قادرا على إبداء رأى مبنى على حقائق، إلا أننى كمواطن يدرس ويبحث دوما عن الحقيقة، أدرك تماما أن فكرة تحكّم دولة فى مصدر الحياة لدولة أخرى هو مبدأ مرفوض كليا، ولا يمكن السماح به.
وأعتقد يقينا أن هذه الأزمة هى الأكبر والأخطر فى تاريخ مصر!. أيضا واثق تماما بأن بناء ذلك السد لا يمثل قضية تنمية كما تدعى إثيوبيا.. وإنما هو بالنسبة لها قضية سياسية تريد بها أن تطرح وهمًا بأنها المالك الأوحد لمياه النهر التى ينبع كما كبيرا منها من أراضيها، كما تروج بالباطل أن النهر ليس نهرا دوليا تتشارك فيه جميع البلدان التى يمر بها، من المنبع إلى المصب!!!، ولعل لهذه القضية أبعادا أخرى تتعلق بتماسك المجتمع الإثيوبى متعدد الأعراق والتركيبات السكانية، حيث تحاول إثيوبيا دوما أن تخلق عدوا خارجيا، سواء حقيقيا أو مصطنعا، لحشد هذا المجتمع المتعدد حول النظام السياسى، أيا كانت تبايناته، كما عرفناها فى العقود الأخيرة!.
إن القيادة الإثيوبية تُصوّر الأمر لشعبها على أنه حرب مقدسة ومصيرية.. وهو ما يجعلنا ننظر إلى الخلاف كمعركة شاملة ومتعددة الأبعاد، وليس تفاوضا تقليديا يقوم على مبادئ العلاقات الودية الطبيعية بين الدول. وفى هذا النوع من التفاوض لا تهم مئات الحجج القانونية التى تطرح، وإنما لابد من الاعتماد بدرجة كبيرة على تكتيكات وأدوات ضغط فى التفاوض، والتى قد تنتهى بأعمال عسكرية محدودة أو حتى واسعة، تمهيدا لاستئناف التفاوض. وأعتقد أن مصر تقوم بذلك الآن على مستويات متعددة.
إن الداخل المصرى يجب أن يكون مصدر الدعم الرئيسى للمفاوض المصرى. كما أن الرأى العام المصرى يجب أن يراه العالم كقوة ضاغطة فى اتجاه مبادئ العدالة والحقيقة التى علينا أن نعيها.
إننى أرى أن الطرف الإثيوبى لن يعدل من سلوكه! لذلك يتكرر السؤال عن احتمالات الحرب، أو بمعنى آخر: الضغط الإجبارى الذى يبدو للجميع أن إثيوبيا تسعى إليه بشكل أو بآخر.. ربما مرة أخرى للتغطية على أخطاء هندسية ارتكبتها فى بناء السد، أو لتجميع الشعب متعدد الأعراق وراء سلطة الحكم!!.
ولا يسعنا هنا أيضا ألا نرى أن الموقف الدولى متخاذل تجاه قضية مصيرية كهذه!! ولا أستبعد أهدافا عدائية إسرائيلية، ولا الربط فى ما بين الأحداث منذ 2011 وحتى الآن.. وأن هناك محاولة لدفع مصر فى اتجاه الحل العسكرى.
ويذكّرنى هذا بموقف توريط مصر فى حرب اليمن فى الستينيات من القرن الماضى، ثم فى حرب 67.. رغم تباين دوافع مصر اليوم عن دوافعها آنذاك!!، لذلك فإننى من خارج دائرة صنع القرار فى غاية القلق!، إلا أننى أثق تماما فى أن إدارة الأزمة تتم ببعد نظر، وبالتالى على الشعب أن يثق فى قيادة البلاد ويدعمها ويساندها فى هذه اللحظة الفاصلة من الحاضر الذى سيصنع تاريخًا جديدًا لمصر وللمنطقة على السواء.

التعليقات

التعليقات