الخميس , 21 نوفمبر 2024

نحن وابن رشد

نحن وابن رشد
هناك مقولة: «سَقطت الأندلس يوم أُحرِقت كتب ابن رشد، (مواليد 14 إبريل 1126م، قرطبة – توفى 10 ديسمبر 1198م، مراكش) (٥٢٥- ٥٩٥ هجرية) وبدأت نهضة أوروبا يوم وصلتهم أفكاره!».
من أوائل ما حوّل الإسبان والأوروبيين صوبَ النّور كان مقولة ابن رشد التى حَسَمت العلاقة مع الدين: (الله لا يُمكن أن يُعطينا عقولا، ثم يُعطينا شرائع مُخالفه لها).
وأضاف ابن رشد مقولته الثانية التى حَسَمت التّجارة بالأديان:
(التجارة بالأديان هى التجارة الرائجة فى المُجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ التحكم فى جاهل، لا عليك إلا أن تُغلّف كلّ باطل بغلافٍ دينى)..
وفى ضوء ذلك أصدرَ رجالُ السلطة والدّين فتاواهم بحرق جميع كتبه، خوفا من تدريسها لما تحتويه من مفاسد وكُفر وفجور وهرطقة (على حدّ قولهم)، وبالفعل زحف الناس إلى بيته بعد تضليل وجدانهم، وحرقوا كتبهُ حتى أصبحت رمادا.
حينها بكى أحد تلامذته بحرقة شديدة.. فقالَ ابن رشد جملته الشهيرة:
(يا بُنى، لو كنتَ تبكى على الكُتب المُحترقة فاعلم أنّ للأفكار أجنحة، وهى تطير بها إلى أصحابها، لكن لو كنتَ تبكى على حال العرب والمُسلمين، فاعلم أنّك لو حوّلت بحار العالم لدموع لن تكفيك).
ومعنى هذا أن أحوال المسلمين كانت (فى القرن الثانى عشر الميلادى «الرابع هجريا» الذى عاش فيه ابن رشد) تستدعى البكاء عليها. ومن مآسى الدهر، أننا نستطيع أن نكرر كلمات ابن رشد وكأنها قيلت الْيَوْمَ رغم أن صاحبها مات من مئات السنين! ويهذى البعض فى واقعنا ويقولون إن أحوالنا سيئة بسبب الآخرين، المجرمين، المتآمرين. وها هو ابن رشد يتكلم عن أحوال سيئة تستحق أن نبكى عليها قبل أى استعمار وتآمر.
بل أنظر لحالنا كتجمع إسلامى فى دول متعددة، فأجد أننا الذين نقتل بعضا، ونُكذب بعضا، ونُكفر بعضا، وليس أحدا من خارجنا. وحتى عندما أصدرنا قانونا يحمى جزءا من المجتمع يدين بديانة المسيحية،عندما اشتد الأمر عليهم من المتطرفين، وسميناه قانون ازدراء الأديان، وجدنا أنه لم يستخدم مرة واحدة لتجريم مسلم ضد مسيحى، أو بالعكس، بل إن كل من حوكموا وأدينوا ودخلوا السجون كانوا بشكاوى مسلمين متطرفين ضد كل من يقول رأيا مخالفا أو يبدى رغبة فى التفكير من المسلمين ضد المسلمين!!!!!!!!!!.
ولو عاش ابن رشد وعلم بظهور القاعدة وداعش وبوكو حرام ومذهب الوهابية والسلفية والعلاج ببول الإبل وإرضاع الكبير والفتوى بعدم علاج الزوجة، وقتل من يفكر فى تغيير دينه وغيره وغيرها من طقوس وتعاملات ليس فيها من الإسلام ولا العقل شىء، لحمد ربه لمجرد حرق كتبه. لقد تطور الأمر بعده إلى أكثر من ذلك للأسف.
وكان قد دارت فى ذهنى هذه الأفكار وأنا أستمتع بمشاهدة أفلام من الأوليمبياد بمناسبة قرب أوليمبياد طوكيو خلال أيام، وأراقب مباريات كرة القدم فى المسابقة الأوروبية الكبرى بين الدول، ونهائى ويمبلدون للتنس والتنافس الرياضى الجميل، وأقارن بين اللاعبين وأدائهم الرائع، فوجدت أننا عندما ننظر إلى أجسام لاعبى الرياضات المختلفة نتعجب من اختلاف تكوينهم الجسمانى تبعا لنوع الرياضة التى يمارسونها.
فأبطال الماراثون يتميزون بالنحافة الشديدة وصغر الحجم والوزن، وأبطال الجرى مائة متر، وهم الأسرع، عندهم بناء جسمانى مملوء بالعضلات بتشكيلاتها التشريحية الواضحة، أما أبطال رمى القرص فيختلفون عن أبطال السباحة الذين لهم شكل مغاير عن لاعبى كرة القدم، وهكذا. فكل ممارسة تنعكس على شكل لاعبيها. وكذلك فكل ثقافة تنعكس على مضمون وطريقة حياة شعوبها. ولكن الثقافة قد تكون نتيجة لقدرات وتكوينات إنسانية تتغير من جيل أو اكثر وتؤثر على أجيال تالية فى القيم والتصرفات والعادات وخلافة.
وجدت أيضا أن تأثير الدين كشكل من أشكال الثقافة الطاغية على المجتمعات بحكم أنها ليست من صنع البشر، أمرها محير. فإذا اختلفت الشعوب الممارسة لنفس الديانة، وبالرغم من ذلك اشتركت فى خصائص وقيم وعادات بعينها، فلابد أن يكون هذا الدين أو ذاك هو المحرك لهذا التوافق، كما أن لكل ثقافة بشرية وكل رياضة جسمانية تأثيرا على شكل ومضمون كل من ينتمى إليها.
فإذا اشتركت شعوبنا الإسلامية عبر الزمن واختلاف البلاد على التطرف فى الفكر، والحدة والعنف فى فرض إيماناتها، وقتل قادتها العادلين، وكذلك فى تخلفها الاقتصادى والسياسى، فلابد أن يكون هناك عامل مشترك يجمعها. وقد لا أكون صائبا ولكن يطل على الإسلام الذى يمزج الدين بالسياسة، فى هذه اللحظة بشكل كبير. وتطل على المسيحية قبل فصل الدين عن الدولة بكل مآسيها ضد العلم والعلماء فى العصور المظلمة لأوروبا.
ولأنى أرى فى الناس أفضل ما فيهم، ولأنى أرى الصواب فيما أقرأة لأنى أبحث عنه، فإننى أرى فى الإسلام عقلا وتسامحا وحبا وعلما وتعاطفا، ولكن يظهر أننى أقلية فى المجموع لأن الشعوب الإسلامية كجمع تراكمى وتاريخى لا يتصرفون وفقا لهذه القيم بل بعكسها، ويعكسون جانبا فى الدين يختارونه أحيانا من بين السطور، يمثل اتجاهات سلبية كما وصَفت من حدة وعنف وتسلط فى الرأى واستخدام لمفردات الدين للوصول للسلطة والاستمرار فيها. أما أنا فأختار جوانب أخرى أراها فوق السطور من المحبة والارتكان للعقل والعلم والتسامح والشغف بجمال الحياة والإنسان وتقديرهم.
ولكن إذا توافقت كل هذه الأمم الإسلامية على عكس ذلك وتأخرت وازداد فقرها وجهلها وعنفها، فإننى أحيانا أشك فى أننى أنا هو المخطئ فى الفهم والتقدير ويزداد إيمانى بأهمية فصل الدين عن الدولة والسياسة، فإن التاريخ يقول لنا بوضوح إن متطرفى اليهودية والمسيحية والإسلام لا يختلفون عن بعض، والشعوب التى نجت هى من فصلت الدين، وهو علاقة بين الإنسان والله، وبين السياسة والحكم.
إننى أعتقد أحيانا أن متطرفى الديانات السماوية ينتمون إلى دين واحد، وهم أقرب لبعض مما هم لأصحاب دياناتهم الآخرين المعتدلين. لا يرون إلا طريقا واحدا، ويؤمنون أنهم على الحق المطلق دائما، وأعود لابن رشد ومقولته التى لخصت كل ذلك: «التجارة بالأديان هى التجارة الرائجة فى المُجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، فإن أردتَ التحكم فى جاهل لا عليك سوى أن تغلف له كل باطل بغلاف دينى».
ولكن يبقى السؤال الأهم: ما هى القيود التى تعوق انتقالنا للعلم والعقل والمنطق والتنوير؟
القيود كثيرة، وأهمها راحة الإنسان لبقاء الأمر كما هو عليه. التغيير يستلزم جهدا، وتنازلات مشتركه وانتقال من زمن إلى زمن جديد تتغير فيه المسؤوليات، وتتعدد فيه التوجهات، وطبيعة البشر أنهم أعداء ما جهلوا. يضاف إلى ذلك أنه إذا استتب الحكم لطائفة سياسية أو دينية، فلماذا يعّرضون أنفسهم إلى هزات قد تسلبهم ملكا أو تحكما فى الشعوب.
ولكن هذه مسؤوليتنا، نحن المتعلمين، أمام المجتمع الذى نعيش فيه، مهمة تربوية للتحرر من الجهل والظلامية، ومن طغيان النظم الديكتاتورية المطلقة، إلى حريه ينظمها القانون، وعقل يتسع لقبول الاختلاف على تنوع مسمياته بل واحترامه.
إن الطبيعة قد وهبت كل إنسان قدرة غريزية على الفهم، مما يجعله مساويا للجميع ومع الآخرين، بشرط أن يتعلم ويتم تحريره من فساد الخرافات والجهل. والإنسان المتحرر من كلاليب السلطة وظلام الجهل، يستخدم عقله بشكل صحيح وتلقائى، حيث القوانين يجب أن تكون غير مستبدة وتستند إلى الحقوق الطبيعية للإنسان كما يفهمها العقل وتدعو إليها كل الأديان.

التعليقات

التعليقات