الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / نقصان العقل وجريمة التفكير

نقصان العقل وجريمة التفكير

حسام بدراوى
استكمالًا لحواراتى مع الشباب حول التفكير، وكان حلم العدالة أحد أهدافه، والذى كان قد أثاره في ذهنى كتاب لكاتب اسمه هنرى تود بعنوان «مت فارغًا»، أي لا تأخذ أفكارك إلى القبر بل أخرجها إلى عالم النور فقد تفيد البشرية.. وجدتنى أعود إلى الأستاذين عباس العقاد وتوفيق الحكيم، وقبلهما الإمام على بن أبى طالب، وكذلك أقوال سيدى أفضل خلق الله محمد، عليه الصلاة والسلام، وفوقهم كلمات القرآن الكريم حول العقل والتفكير.
الأستاذ العقاد في كتابه العظيم «التفكير فريضة إسلامية» يقول: إن فريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنسانى بكل ما احتواه، ويرتفع بفضيلة التفكر إلى أعلى مستوى.
فالدين الإسلامى دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قُربانًا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولى متسلط أو صاحب قداسة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل، ويقضى بالنجاة أو الحرمان، ولن يتجه خطاب هذا الدين العظيم- بداهة- إلا إلى الإنسان العاقل الحر الطليق من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم.
ويقول الأستاذ: إن أكبر الموانع التي تُعطّل العقل هي عبادة السلف التي تسمى أحيانا بالعُرف والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية.
ويكاد الذين كتبوا في تاريخ العقائد يتفقون على تهوين خطر الحكم المستبد على الضمير الإنسانى بالقياس إلى خطر العرف أو خطر الخديعة ممن يدّعون الكهنوت في الأديان، لأن الحكم المستبد يتسلط على الضمير من خارجه، ولا يستهويه من باطنه كما يستهويه حب السلف أو الاسترسال مع القدوة الخادعة ممن يدّعون المعرفة الدينية المكشوفة لهم وحدهم، فهو مشكلة مكان لا مشكلة عقل أو ضمير، من الممكن أن ينفضه الإنسان من مكانه أو يلوذ منه بمكان أمين.
ويقول الله عز وجل: «وإِذَا ِقيَل َلُهُم اتبُعوا َما أَنَزَل اللهُ َقالُوا بَْل نَتبُع َما أَْلَفيْنَا َعَليِْه آبَاءَنَا أََوَ لْو َكاَن آبَاُؤُهْمَ لا يَْعِقلُوَنَ شيْئًاَ وَلا يَْهتَُدوَن» (سورة البقرة:١٧٠).
الإمام على بن أبى طالب، مدينة العلم وراية العدل، اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا، وهو القائل: «رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلًا وللدنيا عمادًا».
ويقول أيضا: «يُنبّئ عن عقل كل امرئ لسانه، ويدلّ على فضله بيانه».
ومن حِكَم الإمام: «لا تقاس العقول بالأعمار… فكم من صغير عقله بارع.. وكم من كبير عقله فارغ».
ويقول الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه «الأحاديث الأربعة»، في الحديث الثانى محدثًا الله في وجدانه: لقد جاء في القرآن الكريم ذٍكر لأديانك الثلاثة وكُتبها السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن… واسمح لى يا ربى أن أسأل: أكان من الضرورى أن تنزل هذه الأديان والكتب الثلاثة؟
لابد أن لذلك حكمة !!… ولماذا أسأل؟
لقد خَلَقْت لى العقل، وهو أعجب مخلوقاتك، خلقته لنتفكر به في حكمتك، ولقد رأيت أن الإنسان يتطور من جنين في رحم الأم إلى وليد يحبو، ثم يقف على قدميه ويسير، ويبدأ في النطق والأسئلة، ويدخل في الطفولة وتنمو فيه مداركه الأولى، فيزداد إدراكه ووعيه بمن حوله، ثم بالعالم كله ثم بالكون. يبدأ في مجتمعه الصغير إلى أن يخرج إلى مرحلة الشباب، فتنمو فيه العاطفة والمشاعر، ما ينتج لونًا من الحياة فيه جماله ومثالياته، ثم مرحلة النضوج التي يتم فيها العقل ويستقر على شخصيته ويتخذ قراراته..
وعلى هذا الترتيب قد تكون الحكمة في التدرج بين الديانات السماوية لتلائم معارف البشر وقدرة عقولهم على الاستيعاب. أرسل موسى وأنزل التوراة في المجتمع الصغير بنظامه الطائفى وعقيدة الوحدانية التي تمت في مرحلة الصبا الباكر للبشرية مع قوته المادية، ورغبته في أن يكون الدين له وحده وعشيرته دونًا عن باقى البشر.. ثم جاءت مرحلة شباب الإنسانية بعواطف المحبة والمثل العليا ممثلة في شخص المسيح الجميل، إلى أن رأت حكمة الله أنه آن أوان نضوج البشرية ودخولها للوعى الكامل، وبالرغبة في معرفة الحقيقة بالعقل والتفكير، فجاء برسوله محمد عليه الصلاة والسلام مكتملا بتجارب الحياة، ممثلا لنضوج البشرية في كل عناصرها، وقال له في قرآنه (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ).
هذه في حياة البشر مرحلة اكتمال قدرة العقل على التفكير، وهو أعجب ما خلق الله.
العقل يحلل ماهية الأشياء والمخلوقات، ويكتشف ما حوله، ويرقى إلى إدراك وجود الرب بالعقل وليس بالمعجزات.
أتصور أن الإدراك الذاتى بالعقل هو قدرة الإنسان التي أرادها له الله، ويميزه بها عن باقى خلقه.
العقل والتفكير هو معجزة الخلق فينا، فكيف يحاول البعض أن يلغيها ولا يسمح باستخدامها خوفًا على الدين وعلى معتقدات السلف، وكأن الإسلام يحتاج للحماية ممن يتفكرون.. لذلك فقد كرر الله كلمة العقل والتفكير والعلم والعلماء في قرآنه، ولم يجعل لرسوله محمد معجزات مادية كما كان الحال مع الأنبياء الذين سبقوه، وكما طلب منه الناس عند بدء الرسالة. طلبوا منه المعجزات أو أن يصعد إلى الله أو أن ينزل الكتاب لهم من عنده، فرد قائلا (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ)
«وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (٩٣)». «سورة الإسراء ٩٠-٩٣».
عندما كانت البشرية في مرحلة الطفولة والصبا والشباب، ولم يكن قد حان الحين لإقناع البشر بوجود الله بالإدراك الفكرى وحده عن طريق العقل كانت المعجزات المادية.
ويقول الحكيم: وأردد.. إننا نولد في غيبوبة تامة من عقولنا، فكل شىء يتحرك فينا بالغرائز، ولا يكتمل العقل حتى بخصائص تكوينه التشريحى إلا في نهاية عامه الأول، ولا يكتمل وعيه إلا بنضجه وتراكم معارفه تدريجيًا.. تُرى ماذا كان يحدث لو أننا واجهنا الحياة بعقول مدركة من اللحظة الأولى؟!.
أعجوبة الحياة ومعجزتها ليست في انكشافها المفاجئ أمام القادم من عالم الظلام والعدم، ولكن الحياة تتكشف لنا على مراحل.
وأعتقد أن هذا هو المعنى والسبب في وصف الله لرسوله محمد بأنه خاتم الأنبياء، وأن الإسلام خاتم الأديان السماوية، لأن البشرية بعد مرورها بمراحل التطور وصلت إلى مرحلة المعرفة الفكرية للخالق والمخلوق بعقلها المفكر، ولقد تركها الله لهذا العقل المفكر بلا احتياج لأنبياء ولا معجزات.
في رأيى، إن آخر الأديان قد أوجد التوازن بين الفكر والقلب والمادة، وترك لنا مهمة التفكير بعقولنا، وأصبحنا نطلب البرهان، نتشكك ثم نؤمن، ونناقش ثم نقتنع، ونراجع الأقوال لنصدق، ونسعى لتفسير الآيات بما لدينا من تراكم معرفة لم يكن لدى أجدادنا.. من يمنعنا من التفكير هو جاحد لنعمة الله علينا بالعقل.
يقول رسول الله وأُصدقه «وهل ينفع القرآن إلا بالعلم؟».
هناك من فهم عكس حكمة الله أنه صالح لكل زمان ومكان، فقد فهموا أن معنى ذلك وقوف الإسلام عند مرحلته الأولى، وفسروا العلم بأنه العلم في عصر النبوة فقط، وكأنهم يثبتون أنه صالح لزمان واحد وعلينا أن نتوقف عنده.. وفهمت أنا أن الإسلام دين البشر كافة، صالح للتحرك في كل زمان ومكان، مع تحرك البشرية نفسها من درجة الجهل إلى درجة العلم «قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون».
لماذا أكتب ذلك؟، لأن هناك حدثين أثارا الجدل في الآونة الأخيرة: واحدا مصرى الهوية، وآخر دولى الصفة.. ولكنهما مرتبطان بخيط عجيب هو النفاق وسوء النية والفتنة المصنوعة، كلٌ في مجاله.
محليًا، كادت الدنيا تنهد فوق رأس مفكر لأنه فكر وناقش، وقال إن ما يقال لنا ليس كل الحقيقة، وعلينا أن نبحث وندقق.
ونفاق آخر أممى وسياسى ثنائى المعايير بين ما يحدث في أوكرانيا وأوروبا، وبين وما حدث في فلسطين ثم في العالم العربى كله.
للأسف، أرى هذه الأيام من يدافع عن الحقوق هو هادمها، ومن ينادى بالحرية هو من يكبلها.. والكل على الجانبين شرير ويفتخر.
أَمَا آن لنا أن نفهم، وللبشرية أن يكتمل نضوجها!.
أما آن لنا أن نفهم، وللبشرية أن يكتمل نضوجها!.

التعليقات

التعليقات