المصري اليوم 13 – 07 – 2010
إن إيمانى بأولوية التعليم، لا يأتى لأن التعليم واحد من أهم الخدمات التى تتعهد أى حكومة فى أى مجتمع بتقديمها للمواطنين، ولكن كحق من حقوق كل طفل وشاب، كل أسرة ومجتمع صغير وكل مواطن مصرى رجلاً كان أم امرأة، فى كل الأعمار وفى كل الأوقات. إن التعليم يجب أن ينظر إليه من خلال مفهوم تنموى يربط مستقبل هذه الأمة ارتباطا جوهريا بتنمية الإنسان المصرى ليكون بانيا للحضارة ومنميا للثقافة، إن هذه الأولوية هى نتاج الدراسات والبحوث العلمية والتاريخية التى تؤكد أن مصر هبة المصريين، وأن تنمية الإنسان وقدراته لها بوابة رئيسية هى التعليم. وقد طرحت فى أماكن متفرقة رؤية متكاملة لتطوير التعليم فى مصر، وسياسات متعددة تحدد كيفية الوصول إلى تحقيق هذه الرؤية المبنية على خبرات مصرية تراكمت عبر السنين، وإنجازات تحققت عبر عقود متعددة، ودروس مستفادة من نتائج سياسات مختلفة ناجحة أحيانا ومخفقة أحيانا أخرى، وأخذا فى الاعتبار كل ما يحدث فى العالم حولنا، غرباً وشرقاً، وخبرات البلاد المختلفة التى نجحت فى تحقيق قفزات واسعة فى التنمية الإنسانية لشعوبها، والتى انعكست على قدرات هذه البلاد التنافسية، ونموها الاقتصادى، ورفاهة أفرادها. إلا أننى يجب أن أعترف بأن الانتقال من الرؤية والسياسة إلى التطبيق يواجه دائماً تحديات جديدة، وأننا يجب أن نقف أمام هذه التحديات اليوم، نواجهها، ونناقشها بالعقل والموضوعية، ساعين إلى تخطيها وصولاً إلى النتائج المرجوة منها، وعلينا أن نتشارك مع المجتمع فى فهم هذه التحديات، والثبات على هذه السياسات حتى يمكن الانتقال من المكان الذى نقف فيه إلى المكان الذى نقصده بتطوير التعليم. لقد أصدرت مصر عام 2007 إستراتيجية قومية لتطوير التعليم قبل الجامعى، واضعة فى الاعتبار كل السياسات التى أصدرتها لجنة التعليم بالحزب الوطنى عبر السنوات الخمس السابقة لهذا التاريخ والتى جاهدت وزملائى فى توثيقها أمام المجتمع، وهى خطوة رئيسية على الطريق الصحيح. إلا أن هذه الإستراتيجية فى حاجة إلى خطوات مكملة وسريعة، لعل أهمها وضع خطة لتنفيذها، وبرنامج عمل يتم من خلاله الربط بين هذه الإستراتيجية بمكوناتها المختلفة، وبرامج ومبادرات التطوير الحالية التى تقوم بها الوزارة، أو المستويات المحلية أو المانحين الدوليين أو القطاع الخاص وكذلك المنظمات غير الحكومية. إن خطط التنفيذ وبرامج العمل لابد أن تكون لها أطر زمنية محددة، وخطط واضحة للتمويل، ونظم صارمة للمتابعة والتقييم وتحديد المسؤوليات والمحاسبة. إن الحديث عن خطة إستراتيجية لقطاع مثل قطاع التعليم، يجب أن يتم فى إطار مؤسسى، مالى وإدارى يضمن لها النجاح، ويضمن لها التعايش والبناء على المبادرات والبرامج التى تم تنفيذها حديثا، وتلك التى فى إطار التنفيذ حالياً ومستقبلاً. وخلال السنوات من 2002 إلى 2009 سعيت مع زملائى فى لجنة التعليم فى أمانة السياسات بكل الطرق، إلى تطوير منظومة التعليم من خلال مداخل متعددة، منها ما يتعامل مع الرؤية الشاملة للتعليم، والتحول نحو مجتمع المعرفة، وتلك التى تأخذ برامج معينة كنموذج للتطوير مثل توظيف التكنولوجيا للارتقاء بالتعليم (2003)، ومنها الذى تعامل مع مراحل تعليمية باعتبارها وحدة للإصلاح فى حد ذاتها، مثل سياسات التعليم فى مراحل الطفولة المبكرة (2004)، والثلاث سنوات الأولى من التعليم الأساسى ثم التعليم الثانوى، وكذلك التأكيد على أن المدرسة هى وحدة التطوير وجوهره. ولقد وضعنا سياسات الاعتماد وضمان الجودة، والأساس التشريعى لإنشاء هيئة ضمان الجودة والاعتماد فى التعليم (2002 – 2003) وإنشاء كادر للمعلمين (2003)، ووضعنا بذرة أكاديمية المعلم كإطار مؤسسى لتطوير أداء المعلمين واحتراماً للمهنة، كجزء من فلسفة عامة للدولة فى الترخيص لمزاولة المهن المختلفة عموماً (2004). وفى مجال إيمانى بالمشاركة المجتمعية، كانت رؤيتنا واضحة فى الدفع نحو تطبيق اللامركزية فى إدارة التعليم، ونقل الموازنات إلى المدارس، وإنشاء مجالس التعليم بالمحافظات، ومجالس الأمناء بالمدارس (2002 – 2003). وأرسينا أُسساً لتطوير التعليم الفنى على مراحل منذ عام 2002، وإلى عام 2007، مع الاهتمام بالنشاط الطلابى، والمواطنة وتنمية روح الانتماء، ودمج الطلاب ذوى الاحتياجات الخاصة فى منظومة التعليم، وأسس تكامل النظم التعليمية المختلفة فى مصر. وبطبيعة الحال فقد أدت هذه الرؤى الإصلاحية، خلال السنوات الماضية، إلى تحسن نسبى فى عدد من مؤشرات التعليم الرئيسية، مثل معدلات القيد فى المدارس، وكثافة الفصل، وعدد التلاميذ لكل مدرس، ومؤشر تعليم الفتيات، ومحتوى بعض المناهج الدراسية، وهو ما سجلته التقارير الدولية التى تم إعدادها لتقييم سياسات ومخرجات العملية التعليمية فى مصر. إلا أن الواقع لا يزال يؤكد أن التحديات، التى مازالت تواجه الدولة فى مصر بشأن قضايا التعليم قبل الجامعى- كبيرة جدا وأن الحكومات المتعاقبة لم تنجح فى تخطيها بشكل فعال حتى الآن. إن تطوير التعليم والواقع السكانى فرض علينا مجموعة من التحديات الواجب مواجهتها، يأتى فى مقدمتها: أولا: ضعف ثقة المجتمع بمؤسسات التعليم الرسمية وظهور نسق لا نظامية موازية للنظام التعليمى (التعليم خارج المدرسة والانتشار المرضى للدروس الخصوصية). ثانيا: ضعف الثقة فى الركن الأساسى للعملية التعليمية وهو المعلم وانخفاض قدره الاجتماعى وتقليص صلاحياته فى تقويم التلميذ. وتجدر الإشارة إلى أن انحسار ريادة المعلم، وتراجع دور المدرسة التنويرى، ومحاولة وضع قوالب جامدة للتفكير يأتى فى مقدمة التحديات التى يجب مواجهتها. ومن ثم ينبغى صياغة رؤية واضحة تحدد أهداف التعليم وشكل ومحتوى المنهج والتطوير المستمر لها وأسلوب إدارة العملية التعليمية، وقبل كل شىء قدرة المدرس على التنوير. ثالثا: انخفاض درجة إتقان اللغات بما فيها اللغة العربية وضعف المستوى فى الرياضيات والعلوم، وابتعاد الشباب عن التخصص فيها. رابعا: انخفاض حجم الأنشطة الطلابية أو انعدامه فى كثير من الأحوال، بكل ما يحمل من معان سلبية فى بناء الشخصية. خامسا: تسارع الزيادة فى المعارف والاحتياج لمزيد من الربط بين مناهج التعليم واحتياجات المجتمع وسوق العمل. سادسا: الانتشار الجغرافى غير المسبوق للمدارس فى كل مصر، بما فيه من إيجابية، وبما يحمله من تحد كبير فى إداراتها مركزيا، وصعوبة فى الارتفاع بمستواها وتقييم أدائها. سابعا: وجود أكثر من فترة يومية فى حوالى 20% من المدارس وبالتالى انخفاض ساعات الوجود بالمدرسة وغياب التلاميذ بشكل ملحوظ عن المدارس خصوصا فى المرحلة الثانوية مما يهمش دور المدرسة فى بناء شخصية التلاميذ ويهدر القيمة التربوية لوجودها. ثامنا: ضغط الامتحانات العامة بشكلها الراهن وأثرها على الطلاب وعلى الأسرة المصرية وكونها ترسخ قدرات الطلاب على الحفظ والاستظهار ولا تقيس قدرات التفكير العليا والإبداع وتخلق مناخا اجتماعيا وسياسيا من الغضب والإحساس بالظلم ينعكس على ازدياد فقدان الثقة فى المؤسسة التعليمية بل وفى النظام السياسى كله. تاسعا: تراكم القوة المقاومة للتغيير والتطوير مما يعيق محاولات التقدم فى العملية التعليمية ويحمل الوزارة وحدها مسؤولية إحداث التغيير وإدارته. كذلك فإننى أرى أن معظم هذه التحديات يرجع إلى خمسة أسباب: أولا: عدم ملائمة التمويل المتاح رغم تعاظم حجمه عبر السنين لاحتياجات التطوير. ثانيا: التخوف من الالتزامات التى سيفرضها التغيير، وهى التزامات تشارك فيها الحكومة والمنظمات الأهلية، والأسرة والأفراد. والخوف أيضا من عدم القدرة على إحداث التغيير أو تحمل ما ينشأ عنه من تبعات. ثالثا: مقاومة أصحاب المصالح المستقرة فى ظل الأوضاع كما هى عليه الآن. رابعا: عدم إشراك المجتمع وأصحاب المصلحة فى شراكة فعالة وفهم إيجابى لتطوير التعليم. خامسا: عدم التحيز فى تطبيقات الحكومة لسياسات التعليم المتفق عليها.. بالرغم من الاعتراف بأولويته حيث تنافس ملف التعليم الذى يمس المستقبل ملفات أخرى قد يكون لها آثار سياسية قصيرة المدى أو تمس احتياجات المعيشة اليومية.. والتى أراها تفوز فى الأغلب على ملف التعليم عند تطبيق الأولويات. كما أن عدم مواجهة هذه التحديات بالإصرار اللازم والأولوية الواجبة أدى إلى: أولا: تهميش أكبر للفقراء، وعدم قدرة التعليم -بوضعه الحالى- على دعم الحراك الاجتماعى الإيجابى كناتج مباشر أو غير مباشر له. ثانيا: انتقال الفئات الأكثر قدرة إلى التعليم الخاص والأجنبى، داخل وخارج مصر، وأثر ذلك على الثقافة العامة واستخدام اللغة العربية، والانفصال الاجتماعى بين الطبقات. ثالثا: تحميل الفئات الأكثر فقرا تكاليف تزيد عن طاقتها-نسبيا- فى الدروس الخصوصية، وعدم استفادة مؤسسات التعليم الرسمية من هذا الإنفاق الخاص، وهو ما يعنى الكثير من الفرص الضائعة، والمجانية غير الحقيقية، والأثر الاجتماعى السلبى على الشعور العام. وسأصحب القارئ فى سلسلة من المقالات حول بعض الأمثلة من التحديات التطبيقية التى تواجه الحكومة والمجتمع فى تطبيق سياسات تطوير التعليم، وأساليب التغلب عليها، اخترت منها: أولا: تحدى عدم ملائمة الموازنات المخصصة للتعليم لاحتياجات التطوير الشامل. ثانيا: تحدى تنمية مهنة التدريس ورفع كفاءة المعلمين والقوة البشرية فى التعليم، ثالثا: تحدى اعتبار المدرسة وحدة التطوير الأساسية. رابعا: تحدى تطبيق اللامركزية فى إدارة المؤسسات التعليمية. ونبدأ فى المقال القادم بتحدى عدم ملائمة الموازنات المخصصة للتعليم لاحتياجات التطوير الشامل، فإلى لقاء