الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / فرصة للتعليم من داخل الأزمة؟حسام بدراوي

فرصة للتعليم من داخل الأزمة؟حسام بدراوي

اجتمع الشباب حولى، ظاهرا عليهم القلق، وقال أحدهم: لقد قرأنا أن المجلس الأعلى للجامعات قد أخذ قرارا بأن تكون نتائج التقويم هذا العام «ناجح أو راسب» فقط، وأن الجامعات لن تأخذ بالتقويم الإلكترونى عن بعد!!؟؟؟

قلت: ولماذا تعترضون؟

قال أحدهم: معنى ذلك تساوى المتفوق الذى يستخدم التكنولوچيا والذى قرأ واستوعب مع الآخرين الذين لم يفعلوا. هذا قرار يستخدم معيار الفشل ولا يحتكم إلى معيار التفوق.

قال زميله: هناك جامعات وأساتذة عملوا بجهد لتطبيق معايير التعلم عن بعد، ونجحوا فى ذلك، وسنعاقبهم لأن غيرهم فشل، ونريد مساواة المؤسسة الناجحة بالمؤسسة الفاشلة!!!!

قلت: وجهة نظر يجب أن توضع فى الاعتبار.

قالت طالبة متفوقة: وما رأيك يا دكتور فيما يحدث؟

قلت: إن التطور التكنولوجى ورقمية التعليم قد أتاحا ما لم يكن متاحا من قبل، فإن التعليم الافتراضى والتكنولوجى عن بعد فى أطر ابتكارية، وأصبح احتياجا أساسيا واجب الحدوث، وليس مجرد إضافة جانبية للتعليم التقليدى. ويبقى ان ذلك التوجه يحتاج ضوابط لا تمنع انتشاره، ولكن تضمن جودته واستدامته. لذلك فإننى أوافقكم من ناحية المبدأ الرقمى. وأضيف أن قرار المجلس الأعلى للجامعات قد يضرب استقلالية مؤسسات التعليم العالى فى مقتل، ويضع كل الجامعات فى سلة واحدة، وطابور يتلقى التعليمات بلا إبداع ولا ابتكار.

ولكن باتصال مباشر مع وزير التعليم العالى، أوضح لى أن ظاهر الأمر غير حقيقته لأن كل مجلس جامعة له الحق فى اتخاذ قراره، وهو احترام استقلالية الجامعة، بل إن لكل كلية الحق من مجلس إدارتها فى اتخاذ طريقة تدريسها وأسلوب تقييمها.

إننى مصًر، ويوافقنى الوزير المسؤول، على أن تكون للجامعات حقها فى اختيار نماذج تعليمها، فى إطار من مراجعة الجودة، وأن تختار بمسؤولية نظام تقويم طلابها، فى إطار قواعد معلنة، بلا تدخل من الجامعات الأخرى ولا من الدولة، وهو فحوى حقيقه القرار. وكلنا متفقون على ألا يكون الكل متماثلا وصورة مكررة من بعض لأنه سيعنى أننا قلبنا الجامعات إلى مدارس كبيرة تفتقر إلى معايير الماجناكارتا، التى تحكم إطار استقلالية المؤسسة التعليمية، وهو ما نحترمه.

قالت طالبة الدراسات العليا: أليس هذا قرار المجلس الأعلى للجامعات، وهو الجهة المسؤولة عن أداء الجامعات؟

قلت: لنا فى هذا عودة، فليس للمجلس الأعلى للجامعات أن يفرض على الجامعات قواعد إدارتها الأكاديمية، وصوت جامعة القاهرة فى المجلس مثله مثل صوت أى جامعة ناشئة، فلا المجلس أنشئ لهذا الغرض، ولا هى ديمقراطية سياسية فى تفضيل رأى على الآخر داخل المجلس.. وكما قلت، لنا عودة فى ذلك الأمر..

قال الشاب الأول: وماذا تقول تجربتك؟!!

قلت: تقول تجربتى والحكمة إنه فى كل محنة فرصة.. ويعتمد الأمر على من عنده القدرة على استخراج الفرص من المحن. نحن نواجه انتشار فيروس كوفيد- 19، منذ أسابيع، ونعلم أن أحد نماذج المقاومة هو التباعد الاجتماعى، الذى أدى إلى إغلاق المؤسسات التعليمية وبقاء أكثر من ٢٢ مليون تلميذ فى منازلهم، وشبه توقف للعملية التعليمية.. وفى إطار جدية الدولة، أغلقت مراكز الدروس الخصوصية، التى اتضح أن عناوينها موجودة لدى الدولة، وتمادى الحديث عن التعليم عن بعد بكل مدخلاته حلا مؤقتا، وظهرت قيمة التقويم الإلكترونى للطلاب، وأعلنت الدولة فى التعليم قبل الجامعى والعالى الارتكان إلى أوراق بحث يقدمها الطلاب بدلا من الامتحانات التقليدية.. المحنة قربت أولياء الأمور من أولادهم، وأجبرت عددا لا بأس به من الأساتذة والمدرسين على استخدام التكنولوچيا للتواصل مع الطلاب والتلاميذ، وفشل البعض فى ذلك. المحنة أوقفت النظام التعليمى فى مصر، وكأننا فى حالة ريبووت (إعادة تشغيل) لجهاز التعليم كله، ولكنه سيعود إلى العمل.. الجديد أن التوقف علمنا الكثير، الذى ما كان من الممكن إدراكه إلا من تجربة التوقف وسط العام الدراسى، والتى ما كان لأحد أن يقوم بها بدون ما حدث.. علينا أن نراجع أنفسنا، ولا نعود إلى فعل الشىء نفسه، مرة أخرى، بالطريقة نفسها، فى انتظار نتائج مختلفة، وإلا كنا فى عداد الأغبياء. الأساتذة والمدرسون الناشطون سجلوا شرائط تعليمية فى إطار المناهج، ويعرضونها فى «يوتيوب»، وتعددت المنصات التعليمية التى يستخدمها الطلاب على الإنترنت، وبعض الجامعات والمدارس قامت بجهد مؤسسى للتواصل مع طلابها، والكثير من الجامعات تستخدم منصات التعليم عن بعد بنجاح نسبى.. علينا إذن أن ننتهز الفرصة على مستوى الجامعات، والمناطق التعليمية، والمدارس، فى مبادرات جديدة للتدريب على طرق التعلم المستحدثة. علينا أن نستفيد من الأساتذة والمدرسين الذين أظهروا قدرة وطاقة على التواصل مع طلابهم خارج أسوار الروتين والتقليدية.. علينا تشجيع الشباب الذين أظهروا إمكانات بناء نظم لتحويل المناهج إلى مادة ثلاثية الأبعاد بطرق مبهرة، والذين أنشأوا برامج للتقويم عن بعد، بتكلفة بسيطة ومتاحة، وقد باشرت وراجعت عددا منهم، وأنا فخور بذلك.

قال الطالب الأول: هل يمكن للتعليم عن بعد أن يحل مشاكل التكدس فى الفصول الدراسية فى المدارس وفى بعض الكليات المكتظة بالطلبة ككليات التجارة؟

قلت: بالطبع، هناك حلول إبداعية، ولابد لنا من النظر إلى إمكانية تحويل مؤسسات التعليم إلى مزج بين التعليم عن بعد والتعليم وجها لوجه لتقليل كثافة الفصول، واستيعاب التلاميذ الجدد. طبعا ما أقوله هنا لابد له من احترام الأسس التربوية وأهمية التواجد فى مجتمع المدرسة والجامعة، ولكن بشكل جديد قد يعيد إلى التعليم رونقه وقيمته فى بناء المعرفة وخلق الشخصية السوية.

أما فى التعليم العالى بالذات، فالمسرح مفتوح، وهذا النوع من التعليم أصبح له معايير دولية ومنصات عبقرية ووسائل تقويم ناجحة. وأنا أوافقكم أننا يجب أن نعلو بمعاييرنا ونعمل للوصول إليها، ولا نركن إلى فشل البعض ونعممه. وأذكركم بأن الرؤية التى طرحناها تنقسم إلى خمس ركائز تنهض بالتعليم، وتتوافق مع ما يمكن أن يحدث بعد محنة «كورونا»:

الركيزة الأولى: تعليم متاح للجميع، عالى الجودة، دون تمييز.

الركيزة الثانية: وجود إطار مؤسسى كفء وعادل ومستدام لإدارة وحوكمة عملية التعليم والبحث والتطوير على المستوى المركزى، نزولا إلى المستوى اللامركزى فى المحافظات، وصولا إلى إدارة المدارس.

الركيزة الثالثة: التمكين التكنولوجى والرقمى للتلميذ والطالب والمعلم وهيئات التدريس فى المدرسة والجامعة، وتطوير وسائل وطرق التدريس والبحث والتقويم.

الركيزة الرابعة: بناء الشخصية المتكاملة للتلميذ والطالب فى جميع جوانبها ليصبح مواطنا سويا، معتزا بذاته، مستنيرا، مبدعا، فخورا ببلاده وتاريخها، شغوفا ببناء مستقبلها، قادرا على الاختلاف وقابلا للتعددية، علما بأن ذلك لا يتم بدون الثقافة والفن والموسيقى وممارسة الرياضة.

الركيزة الخامسة: أن يكون الخريج مبادرا، لديه القدرة على التكيف مع المتغيرات من حوله، خالقا لفرص عمل جديدة، قادرا على التنافسية مع أقرانه على المستوى المحلى والإقليمى والعالمى.

ولعل الركيزة الثالثة واضحة فى تطبيق أسس تتيح لنا طرح التعليم عن بعد شريكا مندمجا فى التعليم النظامى التقليدى. إن التعليم عن بعد، ونظم التقويم الجديدة والتكنولوچية لم تعد رفاهية نستخدمها عند الضرورة، بل لابد أن تكون أساسا وركيزة. ولعل تجربة محنة توقف نظام التعليم نتيجة أزمة وباء كورونا تتيح لنا فرصة غير مسبوقة، ومعرفة لم تكن متاحة لإمكانات نظام التعليم فى البلاد.

والركيزة الرابعة توضح بجلاء الاحتياج للنشاط المدرسى والجامعى، الذى يبنى الشخصية بالرياضة والفن والثقافة، والمعايشة داخل مناخ يمهد لاحترام الحريات وحقوق الأفراد، ويبنى القيادات، ويؤهل للعمل الجماعى، وقبول الاختلاف فى الرأى، والمنافسة الشريفة الأكاديمية والثقافية والرياضية محليا وعالميا.

قال الشاب المتحمس: وهل نستطيع ذلك؟

قلت: لقد شاهدت ودرست وحللت نماذج مختلفة أمامى فى المجتمع، وإجابتى هى نعم، نعم نستطيع.. شبابنا أفضل مما يتصور قادته، وأطفالنا أفضل مما يظن نظامنا التعليمى.. وإيمانى وقناعتى نابع من تجربتى وليس نظريا..

التعليقات

التعليقات