الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الإسكندرية.. كمان وكمان حسام بدراوي

الإسكندرية.. كمان وكمان حسام بدراوي

الإسكندرية.. كمان وكمان
حسام بدراوي

فى زيارتى للإسكندرية لحضور احتفالية مكتبة الإسكندرية بعيدها العشرين، مررت بست تجارب فى يوم واحد..

الإسكندرية ما زالت فى مخيلتى هى مدينة الجمال والعراقة، هى تاريخ قريب كمدينة كوزموبوليتان متعددة الثقافات، وتاريخ بعيد يحمل عبقًا خاصًا ونكهة كنا ننتظر تذوقها فى كل صيف ما بين سان استيفانو إلى سيدى بشر، ومن ميدان الرمل إلى المعمورة والمنتزه.. بين التاكسى الأصفر والترومواى، وبين سينمات صيفية وشتوية.. إسكندرية أجمل ناس.

خلال الثلاثين عامًا الماضية، كانت زياراتى للإسكندرية محددة الأماكن، أذهب لحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة، أو أحضر مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية.. فى الغالب أقيم فى فندق فلسطين أو الفورسيزون، وأقيم ما بين ليلة واثنتين.

هذه المرة، قررت تذوق نكهة إسكندرية بشكل مختلف.

التجربة الأولى كانت فى مكتبة الإسكندرية العظيمة الرائعة، التى حماها العاملون بها من سقطات كان من الممكن أن تدمرها، عندما وقفوا مع أهالى الإسكندرية صفًا متراصًا يدًا بيد لحماية المكتبة من التدمير والحريق الذى كان يمارسه المتعصبون أثناء ثورة ٢٥ يناير وحرقوا فيه مبنى محافظة الإسكندرية العريق وهدموا مبانى لها تاريخ، ولكن حتى بدفع القطيع لم يستطيعوا فعل نفس الشىء بالمكتبة، بل كان تصرُّف العاملين بها ومن انضم لهم من مواطنى الإسكندرية وحتى بعض المتظاهرين هو من حماها من الدمار.

المكتبة العظيمة ومجلس أمنائها من الملوك والرؤساء السابقين وكبار الشخصيات العالمية، مع مصريين ذوى همة مثل فاروق الباز وعمرو موسى وفاروق العقدة وأحمد كمال أبوالمجد وعبدالعزيز حجازى وأنا، تضامنوا ليحموا المكتبة، مديرها الذى كاد طوفان الظلم والفوضى بعد 25 يناير ينال منه ومن تاريخه المشرّف، وهو الذى لولاه، ما كانت للمكتبة هذه المكانة الدولية وهذا التواجد الثقافى الدولى غير المسبوق.

أذكر هنا أننى ود. عبد العزيز حجازى والدكتور أحمد كمال أبوالمجد استُدعينا للنيابة للتحقيق فى أبريل 2011 ونحن وسط اجتماع مجلس الأمناء، بهدف الإيقاع بإسماعيل سراج الدين مدير المكتبة وتلطيخ تاريخه بغرض اتهامه بالتفريط فى أموال المكتبة، وهو ما لم يحدث، وثبت كذب الادعاء، حيث كانت جميع أموال المكتبة فى الحفظ والصون فى البنك المركزى لم ينقص منها مليم واحد.

تجربتى الأولى اليوم كانت فى الصرح الذى لم يسقط، بل مازال ينمو ويتفاعل ويعلوا..

ألقى سراج الدين محاضرة شيقة، بصفته مؤسس المكتبة وأول مدير لها، وطار بنا فى تاريخ عشرين عامًا من الفعاليات، وتذكرت وأنا أشاهد الصور هذا الكم والكيف من الإنجازات الذى تمت صياغته فى هذا الصرح غير المسبوق.

فى إجراء فيه الكثير من الاعتراف بالفضل، كرّم مدير المكتبة الجديد د. أحمد زايد، العاملين الذين أمضوا عشرين عامًا فى الحفاظ عليها اسمًا اسما، ومدير المكتبة الذى حافظ على وجودها بعد د. سراج الدين، د. مصطفى الفقى، إلى أن سلم قيادتها للدكتور أحمد زايد.. تساندهم واحدًا وراء الآخر د. هدى الميقاتى المحترمة المحترفة الحافظة تاريخ المكتبة.

التجربة هنا هى ما شاهدته من أوركسترا المكتبة الرائع وكورال المكتبة من الكبار والأطفال، وفخر العاملين فى كل قسم منها، وفخرهم بالانتماء لها.

الكل يعزف سيمفونية بتناغم بين الحاضر والماضى، بموسيقى الفنان الجميل راجح داوود، وطار بنا د. اسماعيل لآفاق المستقبل فى العلم فى نفس الوقت.

المكتبة كنز مصر الحضارى والثقافى والعلمى.

التجربة الثانية كانت زيارتى لجامعة الإسكندرية العريقة ولرئيسها الناجح المبادر الفاهم دور الجامعة فى صُنع الحضارة وليس فقط تقديم خدمة تعليمية.. ولعل خبرته كمحافظ سابق للإسكندرية وتواصله الدولى صنعا منه رئيسًا استثنائيًا لجامعة استثنائية.

جامعة الإسكندرية ببرامجها المختلفة، واتفاقياتها مع جامعات عالمية، وفروعها خارج البلاد، واستقبالها طلابًا من خارج مصر، تمثل نموذجًا لرؤية مصر 2030 فى التعليم العالى فى استقلاليتها الإدارية وحريتها الأكاديمية، نفخر به ونسعد بوجوده.

التجربة الثالثة كانت جولتى سيرًا مساءً وحدى فى ميدان الرمل وشارع صفية زغلول، وملاحظتى على المواطنين والمواطنات ونوعية المحال على الجانبين..

الناس كأغلب المصريين لطفاء جدًا، واستوقفنى مواطنون جالسون أمام المحال للترحيب بى بودٍ لم أتوقعه وابتسامة جميلة محببة.

لفتت نظرى أعداد محال الأحذية التى تطغى على كافة أنواع المحال الأخرى.. ولا أعرف السر.

ودهشتى كانت فى طرق عرض البضائع بكثافة فى الفاترينات، مما يدل على الاهتمام بالكم وليس استخدام طرق العرض الحديثة، وفى نفس الوقت عدم نظافة الشارع رغم وجود عدد لا بأس به من عمال النظافة.

ألمى كان على «قهوة إيليت» الشهير بلا زبائن، وظلام إضاءته.. ويا ليت ذلك يكون مصادفة ساعة مرورى به وليس حاله على الدوام.

أغلب البنات يغطين رؤوسهن بغطاء رأس بنسب مختلفة، من غطاء كامل شاملًا الرقبة، إلى غطاء دون تغطية الرقبة، إلى غطاء جزئى بظهور جزء من الشعر، إلى نصف الشعر، والبنات أغلبهن متأنقات رغم الحجاب.

ملابس الرجال والشباب أغلبها تى شيرت وبنطلونات چينز مقطعة كما الموضة الغربية، ولكن «تون التخاطب» يحتاج بحثًا اجتماعيًا حول ما حدث للعامية المصرية فى آخر ٣٠ سنة.

أعتقد أن ما يجعل الإحساس فى ميدان الرمل أن الشارع عشوائى هو ميكروباصات النقل الجماعى والناضورجية الذين ينادون على الزبائن ويعلنون أماكن تحرك المركبات بصوت عالٍ يتداخل مع أصوات موتورات السيارات والموتوسيكلات والموسيقى المصرية المماثلة لموسيقى الراب العالية التى تتوافق مع العامية الجديدة.

أعتقد أنه لو توافرت وسائل نقل محترمة ومنظمة قد يعود الشارع إلى ما يليق بالمدينة العريقة.

لفت نظرى أعمدة الإعلانات المضاءة بعنف بصرى على جانبى الشارع بخليط لا أراه إلا فى بلدى من إعلانات على بضائع، إلى إعلانات عن أطباء وكتابة تخصصاتهم، وكأن المهنة العظيمة على قدم المساواة مع إعلانات الأحذية.. وللعلم، هذا ممنوع بالعرف والقانون وآداب المهنة.

التجربة الرابعة كانت مرورى بتريانون وشرب فنجان قهوة فى ديليس، واللذين مازالا يتمتعان بعبق جميل وذوق مختلف.. ولم أر فيهما نفس غلبة ما رأيته فى الشارع بل كان هناك تنوع أكثر.

تمتعت بالجلوس فى الشارع وداخل ديليس وتحية من يحيونى من المارة، وضغطت لأسدد حساب قهوتى التى أراد مدير المكان أن يجاملنى ويعتبرها ترحابا بى فى الإسكندرية.

التجربة الخامسة كانت فى فندق سيسيل الذى أقمت فيه للمرة الثانية فى شهر واحد.

جمال وعراقة وأناقة وإدارة كفء وموظفون لديهم شغف وعزة بفندقهم.. جعلوا إقامتى ممتعة بيسر وسلاسة، من أول الشرطى أمام الفندق، إلى بورتر الباب، إلى ياسر النوبى الجميل الذى رافقنى لغرفتى، إلى رُقية وهشام وأحمد فى الاستقبال، إلى العاملين فى المطعم من أحمد ومحمود وعيد وعبدالستار والشيف من المطبخ، إلى إيمان عاملة نظافة الغرفة، بقيادة المدير العام الكفء المحترم إسلام صبرى وإدارة شتاينبرجر العالمية.. الكل يرحب بالزوار بمنتهى الشياكة التى تتوافق مع جمال وعراقة الفندق، ومنظر البحر من شرفة الغرفة خيالى فى الجمال والروعة.

التجربة السادسة كانت زيارتى بعد المكتبة إلى مركز عيون متخصص اسمه «آى كير I Care»، بقيادة واحد من أمهر شباب الأطباء د. أحمد سوكة. وكنت قد سمعت بهم وعنهم من صديقى د. أسامة حمدى مدير مركز چوزلين للسكر بجامعة هارفارد ببوسطن بالولايات المتحدة، لوجود أطر تعاون وبحث علمى مشترك بخصوص مضاعفات مرض السكر فى العيون.

سعدت بالاحتراف والكفاءة والدقة، ومررت بالعيادات المجهزة بأحدث الأجهزة، والمرتبطة رقميًا ببعضها وبسجلات المرضى، ودخلت غرف العمليات وراقبت حركة المرضى والأطباء وهيئة التمريض بسلاسة ويسر وكفاءة وهم يُجرون الجراحات بأحدث ما رأيت فى العالم من أجهزة.

شىء رائع وفخر لإسكندربة وجود هذا المركز فى هذه المدينة العظيمة.

ما أجملك يا بلادى وما أجمل ناسك!.

ست تجارب فى يوم واحد، رأيت أن أكتب عنها لتوثيق اللحظة ومشاركة القراء فى ملاحظاتى عن يوم جميل فى مدينة جميلة لا مثيل لها.

التعليقات

التعليقات