الأحد , 22 سبتمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / الفرصة للإنقاذ (٥)‏ التعليم الفنى والتدريب المهنى

الفرصة للإنقاذ (٥)‏ التعليم الفنى والتدريب المهنى

الفرصة للإنقاذ (٥)‏
التعليم الفنى والتدريب المهنى
بقلم حسام بدراوي
يستوعب التعليم الفنى والتدريب المهنى أكثر من نصف عدد الطلاب الذين يلتحقون بالمرحلة الثانوية ‏بعد المرحلة الإعدادية، ما يمثل أغلبية من الشباب. وبالنظر إلى أن الاقتصاد المصرى يجب أن ‏تصل معدلات النمو فيه إلى أكثر من٨٪ سنويا بشكل مستدام لعشر سنوات على الأقل، فإن فرص ‏العمل التى تتوافر وستتوافر فى المستقبل كبيرة. ولا يمكن استدامة هذه التنمية دون عمالة فنية ‏عالية المستوى وتنظيم فعال للمهن التى تتطلبها هذه التنمية، بل إن سوق العمل إقليميًا وعالميًا، ‏خصوصا فى شمال البحر المتوسط، ستحتاج إلى عمالة من خارج نطاقها الجغرافى، ما يفتح فرصا ‏أكبر أمام الشباب المصرى إذا كان مُعدًا بشكل جيد لشغل الوظائف التى تحتاجها هذه السوق، ما يزيد ‏من مواردهم وموارد الدولة ويخفف من البطالة ويحقق مكسبًا اقتصاديًا وإنسانيًا للمواطنين.‏
والتعليم الفنى، كأى نظام تعليمى قديم، يتعرض إلى تحديات كثيرة، كما يحتوى أيضا على نقاط قوة ‏وفرص للتطوير والتنمية.‏
إن أهم تحديات هذا النوع من التعليم هو غياب رؤية مستدامة ومتكامله له، وانخفاض الميزانيات ‏المخصصة عن احتياجات وطموحات التطوير، ويعانى مثله مثل غيره من قطاعات التعليم من فلسفة ‏توزيع وتوجيه الطلاب على أساس مجموع الدرجات فى شهادة إتمام التعليم الأساسى، بينما يتم ‏التنسيق الداخلى للمدارس الفنية حسب سعة القسم وعدد المدرسين فى التخصصات وحسب ‏الدرجات أيضًا، دون مراعاة لاحتياجات سوق العمل أو ميول واستعداد الطلاب في ظل ضعف القطاع ‏الخاص الذي يمثل مجال التدريب ومكان العمل المستقبلي.‏
إن الواقع يؤكد مثلًا ارتفاع نسبة البطالة لخريجى المدارس الفنية، خصوصًا التجارية، التى ترتفع ‏نسبة الالتحاق بها إلى حوالى ٣٤% من مجموع عدد الملتحقين بالتعليم الفنى، أغلبهم من الفتيات، ‏وكأنه جاراچ خلقه نظام التعليم ليس بهدف اكتساب المهارات وزيادة المعرفة، بل لقضاء الوقت فى ‏هذه المرحلة العمرية الحيوية بلا عائد على الشباب والمجتمع.‏
ومن العجيب عدم الإقبال على التعليم الزراعى فى مصر ذات التاريخ الزراعى المؤثر فى العالم، ‏فالإقبال على التعليم المهنى فى هذا القطاع يواكب نظرة اجتماعية متدنية لهذا النوع من التعليم، ‏واعتباره وخريجيه فى درجة اجتماعية أقل.‏
إن السياسات المقترحة للارتقاء وتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ ‏من استراتيجية التنمية الإنسانية التى يجب أن ننتهجها، علماً بأن جهودًا متميزة مبعثرة قد تم ‏تطبيقها فى هذا المجال على مدى الأعوام الماضية. ‏
وتنقسم السياسات المقترحة الخاصة بتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى إلى ستة حزم من ‏السياسات، نعرض لها على النحو التالى:‏
أولًا: سياسات خاصة بالتعليم العام المتصل بالتعليم الفنى:‏
إن الطالب فى هذا النظام مازال عليه الحصول على معارف عامة ومهارات فى اللغة واستخدام ‏الحاسب الآلى ومواد دراسية تُعمّق انتماءه الوطنى وتشكل هويته وارتباطه بالمجتمع. أما التعليم ‏العالى فله دور مهم موازٍ وهو تخريج المدرسين والمدربين لهذه المؤسسات، وكذلك التوسع فى ‏معاهد التعليم الفنى والتكنولوجى كجزء من نظام التعليم العالى، ما سيؤدى إلى نتيجتين مؤثرتين، ‏أولاهما: توافق التعليم العالى الفنى مع متطلبات بعض المهن، والنتيجة الأخرى: تظهر فى الأثر ‏المجتمعى لدمج التعليم الفنى والتعليم العالى فى رفع قدر هذا النوع من التعليم فى عُرف المجتمع مع ‏الاحتياج الحقيقى له على أن يكون ذلك فى وجود إطار قومى للمؤهلات فى مصر (نسعى لإقراره من ‏عشرين سنة !!) وتم التشريع له أخيراً..‏
‏ لذا فإن هذا النوع من التعليم يجب أن يتمتع بالمرونة فى المنهج الذى يجب أن يتواكب مع نوع ‏المهن المرتبطة بعدد سنوات الدراسة التى لا يجب تحديدها بسنتين أو ثلاث أو أربع، بل بحزم ‏تعليمية ودرجات جدارة وكفاءة مهارية تدرس بنظام الساعات المعتمدة.‏
ثانيًا: سياسات خاصة بتطوير المظلة المسؤولة عن هذا النوع من التعليم:‏
المظلة الآن هى وزارة التربية والتعليم بشكل أساسى، ووزارة التعليم العالى والوزارات النوعية ‏كالصناعة والزراعة والسياحة والقوى العاملة والإسكان.. وغيرها، والتى قد تشرف على بعض ‏مراكز التدريب وبرامجها، ولكن بشكل غير مترابط، ودون رؤية شاملة متناسقة، ما قد يبعثر ‏الجهود ويشتتها. وشاهدنا إنشاء وحذف وزارة مسؤولة عن التعليم الفنى بلا تحليل.. لماذا نشأت ‏ولماذا أُلغيت؟!‏
ثالثًا: سياسات خاصة بتطبيق نظم توكيد الجودة والاعتماد:‏
لكل البرامج الخاصة بالتعليم الفنى والتدريب المهنى ومؤسساته.. إن أى خدمة يجب أن تكون لها ‏معايير، وأى خدمة لابد من تقييمها بناءً على مؤشرات هذه المعايير. ولا شك أن معايير التعليم العام ‏الواجب اعتمادها من هيئة ضمان الجودة والاعتماد فى التعليم تختلف عن المهارات الفنية ‏‏«الصناعية أو الزراعية أو فى غيرهما من المهن»، التى يجب اعتمادها وتقييم التدريس والتدريب ‏عليها من جهات تقييم محايدة.. وهى الفلسفة التى أراها واجبة فى التعليم الفنى.‏
وعلينا أن نفرق بين اعتماد البرنامج التعليمى أو التدريبى الذى تقترحه المجالس النوعية لكل ‏مجموعة مهن، وبين اعتماد المؤسسة التعليمية أو التدريبية التى تقوم بتعليم أو تدريب هذا ‏المنهج.. وكلاهما مطلوب، وهى علاقات جديدة على مجتمع التعليم الفنى. ‏
في إطار رؤية مصر ‏‎2030 ‎، وبناءاً علي توصيتها صدر قانون إنشاء هيئة مستقلة جديدة لضمان ‏الجودة والاعتماد فى التعليم التقنى والفنى والتدريب المهنى (ETQAAN) بدعم من قبل جميع ‏شركاء التنمية الرئيسيين (‏USAID, GIZ EU‏) عام 2022 ، وهو ما نثني عليه و نؤيدة ونوصي ‏بأن يكون لها موازنة مستقلة
‏ رابعًا: سياسات خاصة بتطوير وتنمية أداء الكوادر البشرية العاملة:‏
سواء كانت فى المدارس أو المؤسسات والمراكز التدريبية، وذلك من خلال وضع نظام للحوافز ‏المادية والعينية لجميع أعضاء مجتمع التعليم الفنى والمهنى، وعقد برامج دراسية مع معاهد دولية ‏لتقديم مناهج دراسية مشتركة يشترك فيها طلاب التعليم الفنى من داخل مصر وخارجها، وإرسال ‏البعثات وخلق شراكات مع القطاع الخاص وجدير بالذكر أن وزارة التربية و التعليم والتعليم الفنى ‏إدرجت أكاديمية معلمى التعليم الفنى (‏TVETA‏) ضمن الهيكل التنظيمى الجديد للوزارة، وأيضاً ‏استحداث مفهوم قطاعى جديد يتمثل فى مراكز التميز القطاعية (‏Centers of Competence‏) ‏حيث بدأ تطبيق هذا المفهوم مع ‏kfw‏ والإتحاد الأوروبى فى قطاع الطاقة الجديدة والمتجددة ومع ‏GIZ فى قطاعي الصناعات الهندسية والسيارات، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة مشكورة قدمت ‏نموذجاً جديداً للتعليم وهى مدارس التكنولوجيا التطبيقية بالشراكة مع شركات القطاع الخاص ‏الرائدة والمؤسسات الدولية لضملن الجودة، وكانت البداية بثلاثة مدارس والآن لدينا أكثر من 41 ‏مدرسة بما فى ذلك 6 مدارس جديدة بمفهوم متطور تحت مسمى المدارس الدولية للتكنولوجيا ‏التطبيقية ولكن لا توجد عندي إحصاءات حديثة للعدد في ٢٠٢٤.‏
خامسًا: سياسات خاصة بتغيير نظرة المجتمع للتعليم الفنى:‏
يأتى ذلك من خلال الاهتمام الإعلامى بالتعليم الفنى، مع إبراز قدرات ومجالات وفرص العمل ‏المرموقة لخريجيه، وتقدير الأوائل والمتميزين منهم، كذلك فإن إضافة التعليم التكنولوجى إلى ‏مسمى التعليم الفنى ومحتواه (التعليم الفنى والتكنولوجى والتدريب المهنى) قد يكون عاملا لتغيير ‏انطباعات المجتمع حول هذا التعليم بشكل أكثر إيجابية.‏
سادسًا: سياسات خاصة بمزاولة المهن المختلفة:‏
وذلك من خلال تحديد مستويات الجدارة الفنية لكل مهنة، والترخيص وإعادة الترخيص لها، وشراكة ‏القطاع الخاص فى ذلك، بحيث يتم توحيد مسميات المهن على المستوى القومى، وتوصيفها وتحديد ‏مهاراتها، ووضع برامج مناسبة وموحدة للحصول على تلك المهارات، ووضع اختباراتها ومنح ‏شهاداتها وهو ما أظن الدولة قد إنتبهت اليه أخيراً‎.‎
إن درجات الجدارة المهنية لكل مهنة يجب أن تكون مرئية بين الدول وبعضها ومتفقًا عليها. ولعل ‏الاتحاد الأوروبى وما قام به من جهود محترمة فى هذا المجال قد وحّد بين الدول الأوروبية، بما ‏يسهل حركة المهنيين والمعلمين عبر الحدود بين بلد وآخر، ولقد كانت دعوتى- ومازالت- أن نأخذ ‏بهذه المعايير وهذا الأسلوب، فإن شبابنا المهنى ستتوفر له سوق عمل أوسع من مصر فى البلدان ‏العربية وشمال البحر المتوسط، فإذا كانت أنظمة التعليم الفنى والتدريب المهنى متوافقة المعايير مع ‏النظم الأوروبية فسيكون ذلك عاملا إيجابيا لإيجاد فرص عمل جيدة هناك بلا احتياج للوجود غير ‏الشرعى أو قبول الرواتب المتدنية لانخفاض المستوى المهنى وغياب الترخيص المرتبط بدرجات ‏الجدارة المهنية المتعارف عليها إن الفرصة متاحة، بل أراها تنادينا وتسعى إلينا، وقد آن الأوان ‏لنبادر بالأخذ بها، الأمر لا يحتاج إلى عبقرية جديدة، بل يحتاج إلى إرادة سياسية وتطبيق مستدام.‏

التعليقات

التعليقات