مستقبل البشرية
بقلم
حسام بدراوي
في عام 2022، أطلقت شركة OpenAI نموذجها الشهير ChatGPT، وهو نظام ذكاء اصطناعي يمكنه التفاعل مع البشر بطريقة طبيعية وغير مسبوقة. خلال أشهر قليلة فقط، وصل استخدام النظام إلى ملايين المستخدمين حول العالم، مما جعله أسرع تطبيق انتشاراً في التاريخ.
ولكن المفاجأة الكبرى جاءت بعد ذلك ، ففي أقل من عام، أُدخلت تحسينات جعلت الذكاء الاصطناعي ليس فقط قادراً على الإجابة على الأسئلة، بل أيضاً كتابة المقالات، إنشاء الأعمال الفنية، برمجة التطبيقات، وحتى تقديم حلول طبية أولية. ستسبب هذه القفزة تغيير صناعات بأكملها، من التعليم إلى التسويق، لتوفير الوقت والتكاليف وابداع حلول جديدة.
الحدث الأبرز في نفس الفترة، كان أطلاق شركة Neuralin (المتخصصة في ربط الدماغ البشري بالتكنولوجيا) تجارب ناجحة على البشر و أصبح الحديث عن دمج الذكاء الاصطناعي مع العقل البشري ليس خيالاً علمياً، بل واقعاً وشيكاً ، و ما كان يُعتقد أنه سيحدث خلال عقود أصبح واقعاً في غضون شهور.
إن التسارع التكنولوجي سيترك كثيراً من الناس في حالة قلق فكيف يمكننا التكيف مع عالم يتغير أسرع مما نتعلم؟ “التكنولوجيا لا تنتظر أحداً، وهي تتطور بسرعة لا تعطي عموم البشر فرصة للاستيعاب الكامل”.
في ظل هذا تعالوا نستكشف إنسانيتناأساساً. الإنسانية هي مفهوم متعدد الأبعاد يشير إلى السمات الأساسية التي تُميز البشر عن غيرهم من الكائنات، وهي تعكس القيم والمبادئ الأخلاقية التي تحكم تعامل الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع الطبيعة.
من منظور فلسفي تعني الإنسانية الإيمان بقيمة هذا المخلوق وكرامته الفطرية، بغض النظر عن العرق، أو الدين، أو الجنس، أو أي اختلاف آخر ، وتتجلى في الاعتراف بقدرة الإنسان على التفكير، والاختيار، و الإبداع، وإيجاد معنى لحياته.
من منظور أخلاقي فالإنسانية تُشير إلى مجموعة قيم اتفق عليها البشر عبر السنين وسابقة للأديان السماوية. فالعدل والصدق وعدم ايذاء الغير و تقدير عمل الخير و الوقوف مع الحق والتسامح قيم تصف حقيقة الإنسانية و وصل اليها البشر منذ منذ آلاف السنين .
من منظور اجتماعي فالإنسانية تعني الانتماء إلى جماعة بشرية واحدة، تعترف بالمصير المشترك لها وبعد نضجها للبشرية جمعاء.
من منظور ديني وروحي فالإنسانية هي الإيمان بأن الإنسان خُلق بتكريم خاص من الله، وأنه مسؤول عن إعمار الأرض وفقًا لقيم الخير والمحبة.
أما من المنظور العلمي والتاريخي فالإنسانية تشير إلى تطور البشر ككائنات عاقلة تمتلك قدرات فريدة مثل التفكير المجرد، وإعمال العقل .
تاريخيًا، الإنسانية تُبرز إنجازات هذا المخلوق القابل للتطور في بناء الحضارات، و التعرف والإبداع في الفنون واستكشاف العلوم والكون .
الإنسان كفرد ، فريد ومتميز، و له حق في التعبير عن رأيه واختيار مسار حياته وهو ما يمثل حريته.
وهو مسؤل تجاه نفسه و الآخرين والمجتمع والطبيعة بإختياره وهذا من دلائل تميزه عن باقي المخلوقات.
السؤال المحوري الذي يجب أن يدور في الذهن هو: “ما هو مستقبل الإنسان في عالم يتغير أسرع مما يمكننا استيعابه؟
ما هو مستقبل الذكاء الإنساني في ظل نمو الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يمكن أن يتحول هذا الذكاء إلى شريك للإنسان بدلاً من مجرد أداة.؟
هل سيصبح البشر أقل أهمية إذا تجاوزتهم الآلات في التفكير؟
ما هي إمكانية ظهور “الإنسان الهجين” الذي يدمج بين العقل البشري والتكنولوجيا، عندما تزرع رقاقات ذكية في الدماغ.؟
لابد ستظهر تحديات غير مألوفة، كأزمة الثقة بين الإنسان والآلة ، و إمكانية صراعات اجتماعية جديدة بين من يملكون التكنولوجيا ومن لا يملكونها.
هل ستحدث تحولات تواجه قيمنا وهوياتنا؟
هل سيبقى مفهوم “العائلة” أو “العمل” كما هو؟
كيف يمكن للفن والثقافة أن يكونا أدوات للحفاظ على إنسانيتنا في عالم مفرط التكنولوجيا؟
ما هو مصير المشاعر الإنسانية الراقية والإحساس ؟
إن التحدي الآن ليس فقط في مواكبة هذا التغيير، بل في فهمه وتوجيهه نحو مصلحة الإنسانية.”
إن التحولات التي ستواجه القيم والهوية البشرية في المستقبل نتيجة التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي تثير تساؤلات عميقة حول ما يعنيه أن نكون بشرًا.
هل ستبقى هويتنا مرتبطة بعقولنا فقط، أم ستتوسع لتشمل أجهزتنا الذكية؟
إذا كان الإنسان يعتمد على رقاقات تُحسن ذاكرته أو تُعزز قدراته، فهل سيُعتبر ما يتذكره “ذكرياته” أم “بيانات مُبرمجة”؟
مع تطور الحياة الافتراضية وتقنيات الواقع المعزز، قد يختار الناس عيش حياة مزدوجة بين العالم الحقيقي والافتراضي، فهل سنفقد الصلة بين هويتنا الحقيقية وهويتنا الرقمية؟
السؤال المخيف هو هل يجب أن يُعامل الذكاء الاصطناعي المتقدم ككائن له حقوق؟ إذا كان روبوت معين يمكنه التفكير والتعلم واتخاذ قرارات، فهل هو “مجرد أداة” أم كيان يستحق حقوقاً هو الآخر؟
هناك تزايد في استخدام الروبوتات الاجتماعية لرعاية كبار السن، مما يثير تساؤلات حول دور العائلة التقليدي.
مع منصات التواصل الافتراضية المتقدمة، قد تصبح العلاقات الإنسانية أكثر سطحية ، فهل يمكن أن يستبدل الذكاء الاصطناعي الأصدقاء الحقيقيين، خاصة إذا كان يفهمنا ويستجيب لاحتياجاتنا بشكل أفضل وأقل تعقيداً ؟
إن التكنولوجيا تميل إلى توحيد العالم من خلال منصات عالمية ، مما قد يؤدي إلى تآكل الثقافات التقليدية ، والسؤال الذي سيفرض نفسه هو كيف سنحافظ على الهوية الثقافية و تنوع الثقافات؟
لا يمكن لأحد إيقاف ظهور أشكال جديدة من الفنون الرقمية فهل ستظل القيم التقليدية مثل “الأصالة” و”الإبداع” مهمة في الفن؟ وأصل اليً موضوع حساس هو الروحانية والدين
فمع قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم إجابات “شبه مطلقة” وتحليل القضايا الأخلاقية، هل ستضعف الحاجة إلى الدين كمصدر للتوجيه؟ أم أن التكنولوجيا ستفتح أفاقاً جديدة للتأمل في الكون وتعزيز الروحانية؟
قرأت عن بعض المشروعات المستقبلية تهدف إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متخصصة في تقديم النصائح الروحية أو تفسير النصوص الدينية ، فهل ستُعتبر هذه الأدوات امتداداً للدين أم تهديداً له؟
إن التحديات القادمة ليست فقط تكنولوجية، بل أخلاقية وثقافية .. السؤال المحوري هنا: كيف يمكننا استخدام هذه التحولات لتعزيز “الإنسانية” بدلاً من فقدانها؟
وفقًا لأحدث الدراسات والإحصاءات فإن التوزيع الديني للسكان على مستوى العالم يقارب الأرقام التالية:
1. المسيحية بطوائفها : حوالي 31% من سكان العالم حوالي 2.4 مليار شخص
2. الإسلام بطوائفه : حوالي 24% من سكان العالم حوالي 1.9 مليار شخص.
3. غير المتدينين: حوالي 16% من سكان العالم يشملون الملحدين وغير الملتزمين بأي دين .
4. الهندوسية: حوالي 15% من سكان العالم حوالي 1.2 مليار شخص.
5. البوذية: حوالي 7% من سكان العالم حوالي 500 مليون شخص و تتمركز في شرق آسيا .
6. أديان أخرى: حوالي 7% مثل السيخية، اليهودية، الطاوية، الديانات التقليدية للأفارقة والأمريكيين الأصليين.
وبالعقل فإن التحولات الإنسانية الحالية والمستقبلية و تصاعد أهمية التكنولوجيا وتمكين الأفراد من البحث عن المعرفة بأنفسهم، ستزداد النزعة الفردية في الإيمان.
و قد يتبنى المزيد من الأشخاص “إيمانًا شخصيًا” بعيدًا عن المؤسسات الدينية التقليدية، مما يؤدي إلى انتشار الأنماط الروحانية الفردية.
أما دورالذكاء الاصطناعي في تفسير النصوص الدينية فسيتوسع لا محاله مع تقديم تفسيرات أكثر شمولية ودقة.فهل ستُعتبر هذه التفسيرات مصدراً معترفاً به دينياً؟ أم ستثير خلافات بين الطوائف والجماعات الدينية؟
مع التقدم العلمي الذي يجيب عن أسئلة وجودية كبرى، قد يتحول الدين ليصبح أكثر تركيزًا على القيم الأخلاقية والروحانية ويوحد بذلك بين الأديان .
في كل الأحوال سيواجه القادة الدينيين التقليديين تحديات في مواكبة التطور .بعضهم قد يستخدم التكنولوجيا لتوسيع نفوذهم، بينما قد يجد آخرون صعوبة في الحفاظ على تأثيرهم.
إن الرؤية المستقبلية للأديان في ظل التحولات الإنسانية قد تؤدي الي اندماج القيم الروحية بالتكنولوجيا ، و قد تظهر أشكال جديدة من “الدين التكنولوجي” أو الروحانيات التي تجمع بين القيم الدينية التقليدية والتكنولوجيا ،مثل ظهور تطبيقات ومنصات تقدم تجربة دينية رقمية بالكامل، مثل الصلاة الجماعية الافتراضية أو الحج الافتراضي.
إن الأديان ليست مجرد عقائد، بل أنظمة اجتماعية ونفسية تلبي احتياجات الإنسان للمعنى والروحانية والمحبة ورغم ذلك فأن الصراع بين الأديان تاريخياً كان سبباً للحروب والكراهية حتي بين طوائف الدين الواحد ، و قد تؤدي التحولات الإنسانية المستقبلية الي تغيير شكل الأديان وطريقتها، لكنها بالقطع لن تلغيها.
السؤال الأهم: كيف يمكن للإنسان ان يتوافق ويوجه التطور السريع ليتخطي عقبات الماضي ويتجنب أضراره في المستقبل مما يعني اعادة التعريفات وتحديد القيم التي نريد البناء عليها.