بعد انتهاء مائدة مستديرة لمناقشة المواطنة وحرية العقيدة فى مقر «الكنيسة الأسقفية» بحضور مبعوث رئيسة وزراء المملكة المتحدة اللورد «أحمد أوف ويمبلدون» الوزير المكلف بالموضوع، وسفير المملكة فى مصر، وممثل شيخ الأزهر، والعديد من الشخصيات العامة المصرية المحترمة وممثلى الكنائس والسفراء، اقترب منى المطران منير حنا مطران الكنيسةالأسقفية بمصر وشمال أفريقيا، وقال لى: لقد قرأت مقالك الأخير عن الثقافة والدين، وأريد أن أقول لك: سلم قلمك وفكرك الراجح وأسلوبك الدبلوماسى الرقيق.
كانت المقالة تتحدث عن ضرورة معالجة الخطاب الدينى بتنقية التراث مما شابه، عبر السنين من إضافات وتأويلات، وعدم إضفاء هالات تقديس على أى فعل إنسانى، فالله وحده هو المقدس، وكتابه كذلك.
ولأنى أعرف الدكتور منير حنا كمطران مستنير ومتفتح الفكر لم أتعجب، لكنى شعرت برغبة فى استدراكه لمناقشته فى المضمون فقلت له: وهل تتفق معى فى الرأى؟
قال: أتفق معك ومع بيان الاستراتيجية المعلنة من الدول الإسلامية فى داكار عام ١٩٩١، التى أشرت لها فى المقال فى أنه لا قداسة إلا لله
واستدرك قائلا: بل فى رأيى أن الخطاب الدينى هو منتج من منتجات الفكر، لذلك يجب تجديد وإصلاح الفكر أولا، لقد خضنا ككنيسة فى كل ذلك حتى جاء عصر الإصلاح الذى فيه تخلصنا من الأمور التراثية التى تناقض تعاليم المسيح، لقد كان لدينا عنف وحرق للمصلحين لكن فى النهاية الإصلاح انتصر، وحان أيضا الوقت لمراجعة أخرى فى ظل المتغيرات الإنسانية المتجددة.
كان كلامه كرجل دين يثلج صدرى ويشعرنى براحة لسماع المزيد، فقلت له: سمعت أنه كان هناك احتفال بذلك فى الكنيسة العام الماضى حول الإصلاحات الفكرية فى الكنيسة، فماذا كان الموضوع؟
قال: احتفلت كنائس عديدة بمرور خمسمائة عام على حركة الإصلاح، التى بدأها الراهب الكاثوليكى مارتن لوثر الذى كان يرجو أن تقوم الكنيسة بإصلاح بعض الأفكار والممارسات الخاطئة التى حدثت فى الكنيسة فى ذلك الوقت، إلا أن ثقافة النقد الذاتى لم تكن مقبولة حينئذ، وأيضاً كان تغيير الفكر السائد أمراً فى غاية الصعوبة، لذلك رفضت الكنيسة الكاثوليكية أفكار مارتن لوثر ولم تحاول أن تبدأ معه حواراً بناء لصالح وحدة الكنيسة، وهذا بدوره أدى إلى انقسام الكنيسة، بل أدى إلى الحروب الدينية فى أوروبا، والتى استمرت من 1524 وحتى 1648م.
قلت: أكثر من قرن من الزمان فى حروب دينية قبل الاتفاق!، وهل كان التوافق حقيقيا أم كان سطحيا تحته نار الفرقة؟! وما هو الموقف الآن؟
قال: الأمر الرائع والمدهش الذى يستحق الاحترام والتقدير هو أن البابا فرنسيس وهو بابا الكنيسة الكاثوليكية فى العالم، ذهب إلى السويد للاحتفال مع الكنيسة اللوثرية بمرور 500 عام على الإصلاح. وهذا موقف حضارى رائع من الكنيسة الكاثوليكية يبين التحول
الفكرى الذى حدث خلال القرون الخمسة الماضية، فلا شك أن هذا الإصلاح أدى إلى تغيير جذرى فى أوروبا من حيث الفكر والثقافة، وهذا أدى إلى نهضة أوروبا الحديثة.
قلت له وأنا فى ذهنى أقارن بينى وبين نفسى بين حال أوروبا وحالنا: وما هى الدروس التى تعلمتها أوروبا من هذا؟
قال: الدروس التى تعلمناها تتلخص فى أمرين، أولاً: أن نرحب بالنقد الذاتى ولا ننظر إليه كتهديد لإيماننا وعقائدنا، وأن نتحاور مع من ينقد بطريقة حضارية. ثانياً: أننا فى حاجة مستمرة إلى مراجعة الممارسات الموروثة التى تعودنا عليها (التراث) دون أن نتنازل عن ثوابت الإيمان والعقيدة، وتعنى «إعادة Reformation وكلمة إصلاح باللغة الإنجليزية هى التشكيل»، فنحن فى حاجة دائماً إلى تصحيح مسارنا إذا حدث انحراف فى أفكارنا وثقافتنا أو إذا حدثت تغيرات وتطورات فى عالمنا تتطلب منا التكيف والملاءمة، دون أن نتنازل عن ثوابت إيماننا، وعقيدتنا التى تحقق هدف الله من خلق الإنسان.
على مقهى «الحالمون بالغد» حوار مع المطران منير حنا (٢)
ونحن بحاجة أن نتواضع ونفحص أنفسنا سواء على المستوى الشخصى أو على مستوى المجتمع كله، أى أننا بحاجة إلى إصلاح مستمر
قلت له وأنا سعيد بما أسمعه منه، حزين على بعض أوضاعنا: ونحن بحاجة إلى قبول المصلحين والمجددين فى مجتمعنا، بل إننا بحاجة إلى الترحيب بهم ومنحهم المساحة التى من خلالها يعرضون آراءهم، فنسمع لهم ونتحاور معهم حتى نصل إلى ما يفيد المجتمع.
قال: يا صديقى تاريخ الإصلاح فى كنيسة إنجلترا أو كما تسمى اليوم الكنيسة الإنجليكانية الأسقفية يعلمنا أن مقاومة المصلحين تؤدى، حتماً، إلى زيادة أعداد المؤمنين بأفكارهم الإصلاحية.
فنحن نعرف أن الملكة مارى التى تربعت على عرش إنجلترا، وكانت معارضة للإصلاح الذى قام به رئيس أساقفة كانتربرى توماس كرانمر وأساقفة آخرون، لهذا قامت بحرقهم بالنار فى مدينة إكسفورد، إلا أن آلاف الذين شاهدوا هؤلاء الأساقفة وهم يحترقون من أجل فكر الإصلاح، ازدادوا ثقة ويقيناً أن فكر هؤلاء المصلحين لابد أن يكون صحيحاً، لأنهم كانوا مستعدين أن يضحوا بحياتهم فى سبيل هذا الفكر، لذلك تمسك الناس بهذا الفكر الجديد، وهكذا انتشر الإصلاح، فى إنجلترا بالرغم من حرق المصلحين، قلت له مؤكدا على كلامه: أتفق معك، والأمر نفسه ينطبق على كل الأديان، كثيرا ما تم استخدام الدين للسيطرة على العقول بعيدا عن جوهره، وكل الأديان جوهرها واحد، مودة ومحبة وتسامح بين البشر، أما التراث الدينى فهو مصطلح شامل يتسع لكل ما له علاقة بالدين من نصوص مقدسة، واجتهادات العلماء السابقين فى فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع، وقد يحصل خلاف حول ما إذا كان هذا التراث كله مقدسا يجب الالتزام به، أو نصوصا واجتهادات مرتبطة بأزمانها وأماكنها الغابرة، نتعامل على أنها تاريخ ينقل لنا تجربة بشرية قابلة للنقد والنقض والتعديل والتطوير بما يتناسب مع الزمان والمكان والظروف الخاصة بكل عصر، لذلك فإن تجديد الخطاب الدينى لا يشمل دينا بذاته ولكن كل الأديان. إننى لا أرى فرقا بين متطرفى المسيحية واليهودية والإسلام. أحيانا أظن أنهم يتكلمون نفس اللغة وقد يكونوا أقرب لبعض من قربهم من الدين المعتدل الذى يدعو إلى الخير والسلام واحترام النفس الإنسانية.
قال المطران منير: إننى أرى أننا نتعامل مع موضوع تجديد الخطاب الدينى على عمومه بطريقة غير منطقية، فالخطاب الدينى ما هو إلا نتاج أو ثمر الفكر السائد، فإذا كان الفكر السائد متطرفاً فإن الخطاب الدينى سيكون متطرفاً، وإذا كان الفكر السائد فكرا متحضرا فإن الخطاب الدينى سيكون سمحا ومتعقلا.
التاريخ يقول ذلك بوضوح، التاريخ يقول إن الحاجة إلى الإصلاح الفكرى سيؤدى حتماً إلى تجديد الخطاب الدينى، بما يناسب العصر الذى نعيش فيه، دون أن يؤدى ذلك إلى اختزال الثوابت وجوهر الإيمان أو التغاضى عن مبادئ وأخلاقيات مجتمعنا، قلت: أوافقك ويتسع تجديد الفكر إلى تجديد الخطاب الاجتماعى والسياسى، الذى يجب ألا يستخدم مفردات ما يريد تغييره فى الخطاب الدينى عندما تخدم أغراضه فى الحكم، قال مبتسما وكأنه يحذرنى: أنبهك يا صديقى أن التاريخ يقول إن المصلحين والمجددين لم يكن مرحبا بهم من الكنيسة فى العصور المظلمة لأوروبا، قلت: كذلك المصلحون والمجددون فى التاريخ الإسلامى، فابن رشد حرقت كتبه مع أن أفكاره كانت سببا فى نهضة أوروبا، وِفى العصر القريب أذكر ما واجهه الإمام محمد عبده والدكتور طه حسين وغيرهم ممن استخدموا العقل فى تنقية التراث الموروث ليكون سندا للحضارة وليس مانعا للتجديد.
قال: أكرر لك ما نحتاج إليه هو الترحيب بالمصلحين والمجددين وتشجيعهم، لأنه سيؤدى إلى إصلاح فكرى ومجتمعى دون أن تحدث تلك الانقسامات التى حدثت فى أوروبا منذ خمسمائة عام، وهذا ما نحتاجه اليوم.
قلت: المناقشة معك تفتح العقل وتسعد القلب وأشكرك على دعوتى لندوة فيها من الفكر والرقى والمعرفة الكثير.