تقول الحكمة إن فى كل محنة فرصة.. ويعتمد الأمر على من عنده القدرة على استخراج الفرص من المحن. نحن نواجه انتشار فيروس «كوفيد- ١٩» منذ شهور، ونعلم أن أحد نماذج المقاومة هو التباعد الاجتماعى الذى أدى إلى إغلاق المؤسسات التعليمية وبقاء أكثر من ٢٢ مليون تلميذ فى منازلهم، وشبه توقف للعملية التعليمية.. وفى إطار جدية الدولة أغلقت مراكز الدروس الخصوصية واتضح أن عناوينها موجودة لدى الدولة، وتمادى الحديث عن التعليم عن بعد بكل مدخلاته كحل مؤقت، وظهرت قيمة التقويم الإلكترونى للطلاب، وأعلنت الوزاره الارتكان إلى أوراق بحث يقدمها الطلاب بدلا من الامتحانات التقليدية.
المحنة قربت أولياء الأمور من أولادهم، وأجبرت عددا لا بأس به من المدرسين على استخدام التكنولوچيا للتواصل مع التلاميذ.
المحنة أوقفت النظام التعليمى فى مصر، وكأننا فى حالة ريبووت (إعادة تشغيل) لجهاز التعليم كله، ولكنه سيعود إلى العمل.. الجديد أن التوقف علمنا الكثير، ما كان من الممكن إدراكه إلا من تجربة التوقف وسط العام الدراسى والتى ما كان لأحد أن يقوم بها بدون ما حدث.
علينا أن نراجع أنفسنا ولا نعود لفعل نفس الشىء مرة أخرى بنفس الطريقة فى انتظار نتائج مختلفة وإلا كنا فى عداد الأغبياء.
المدرسون الناشطون سجلوا شرائط تعليمية فى إطار المنهج ويعرضونها فى اليوتيوب، وتعددت المنصات التعليمية التى يستخدمها الطلاب على الإنترنت، وبعض المدارس قامت بجهد مؤسسى للتواصل مع طلابها.
علينا إذن أن ننتهز الفرصة على مستوى المناطق التعليمية والمدارس، فى مبادرات جديدة للتدريب على طرق التعلم المستحدثة. علينا أن نستفيد من المدرسين الذين أظهروا قدرة وطاقة على التواصل مع طلابهم خارج أسوار الروتين والتقليدية.
.. علينا تشجيع الشباب الذين أظهروا إمكانات بناء نظم لتحويل المناهج إلى مادة ثلاثية الأبعاد بطرق مبهرة، والذين أنشأوا برامج للتقويم عن بعد بتكلفة بسيطة.
لابد لنا من النظر إلى إمكانية تحويل المدارس إلى مزج بين التعليم عن بعد والتعليم وجهًا لوجه، لتقليل كثافة الفصول، واستيعاب التلاميذ الجدد. طبعا ما أقوله هنا لابد له من احترام الأسس التربوية وأهمية التواجد فى مجتمع المدرسة ولكن بشكل جديد قد يعيد للتعليم المدرسى رونقه وقيمته فى بناء المعرفة وخلق الشخصية السوية.
إن الشعب المصرى يستحق إنجازًا حقيقيًا وملموسًا فى مجال التعليم والتنمية الإنسانية والبشرية. ومن منطلق إيماننا بأن قوة مصر تكمن فى قوة شعبها، وقوة شعبها لا تتحقق إلا بالعمل المستمر على وضع إطار عام للتنمية وزيادة الوعى ورفع مستوى المعارف والمهارات لهذا الشعب، وأن السبيل الوحيد لتحقيق ذلك لا يكون إلا من مدخل التعليم والثقافة والإعلام الهادف، فإننا ننظر إلى الوضع الحالى بنظرة متفائلة، وكأنه فتح أمامنا بابا جديدا للتطوير والتحديث. مع الأخذ فى الاعتبار أن أى رؤية جديدة لا قيمة لها إلا بقناعة المجتمع وبالتزام الحكومات المتعاقبة بتطبيقها والتعامل مع محاورها باعتبارها دستور التعليم فى مصر، وأن هذه الرؤية يجب أن تتوافق مع الواقع المتغير والمستقبل الذى نصنعه نحن بإرادتنا.
ودعونى أذكركم بأن الالتزام باستراتيچية معروفة وواضحة وشاملة فى غاية الأهمية. وأن البناء لا يمكن أن يحقق هدفا إذا بدأنا من جديد مع كل حكومة.
إن الرؤية التى نطرحها تنقسم إلى خمس ركائز:
الركيزة الأولى: تعليم متاح للجميع، عالى الجودة، دون تمييز.
الركيزة الثانية: وجود إطار مؤسسى كفء وعادل ومستدام لإدارة وحوكمة عمليه التعليم والبحث والتطوير على المستوى المركز، نزولا إلى المستوى اللامركزى فى المحافظات، وصولا إلى إدارة المدارس.
الركيزة الثالثة: التمكين التكنولوجى والرقمى للتلميذ والطالب والمعلم وهيئات التدريس فى المدرسة والجامعة وتطوير وسائل وطرق التدريس والبحث والتقويم. وهو ما أثبتته الأزمة الصحية وإغلاق مؤسسات التعليم.
الركيزة الرابعة: بناء الشخصية المتكاملة للتلميذ والطالب فى جميع جوانبها ليصبح مواطنًا سويًا، معتزًا بذاته، مستنيرًا، مبدعًا، فخورًا ببلاده وتاريخها، شغوفًا ببناء مستقبلها، قادرًا على الاختلاف وقابلًا للتعددية. علما بأن ذلك لا يتم بدون الثقافة والفن والموسيقى وممارسة الرياضة.
الركيزة الخامسة: أن يكون الخريج مبادرًا، لديه القدرة على التكيف مع المتغيرات من حوله، خالقًا لفرص عمل جديدة، قادرًا على التنافسية مع أقرانه على المستوى المحلى، والإقليمى، والعالمى.
ولعل الفلسفة من تقسيم الرؤية إلى خمسة محاور تأتى لعدة أسباب منطقية، أهمها أن تصبح الرؤية مفهومة وواضحة للمجتمع بشكل أكبر، كما أنه يسهل متابعتها ورصد التنفيذ باستخدام مؤشرات قياس متفق عليها.
إن كل محور ينقسم إلى عدة أهداف فرعية، وكل هدف فرعى يندرج وينبثق منه مجموعة من مؤشرات الأداء، ولعل هذا التعمق فى التفاصيل من قبل مجموعة الخبراء الذين قاموا معى بصياغة رؤيه مصر 2030 فى محور التعليم، لكى تصبح بمثابة خارطة طريق، واضحة المعالم ومحددة الأطر، إنما تحتاج فقط من الحكومات المتعاقبة مجرد صياغة خطة إجرائية تنفيذية لكل محور بأهدافه ومؤشراته، تشمل الإطار الزمنى للتنفيذ، ومحددة بها الميزانيات والتكلفة اللازمة لذلك، وأيضًا مسؤولية التنفيذ من جهاز الوزارة، بل والأهم من ذلك كله صياغة مؤشرات نجاح تكون بمثابة الدليل الواضح على مدى التقدم الذى يتم إحرازه لكل مؤشر وكل هدف للمحور الواحد حتى يستطيع المتابع والمهتم أن يصدر حكما شفافا على أداء الجهاز التنفيذى للحكومة فى تحقيق الرؤية، ونسهل عمل جميع الجهات التى تقوم بإجراءات الرصد والمتابعة، وذلك كما هو معمول به فى جميع المؤسسات الناجحة فى العالم، فى إطار من الشفافية والنزاهة.
هذا ويندرج تحت هذه المحاور أو المرتكزات السابق ذكرها أهداف فرعية ثم مؤشرات قياس كما قلت، ثم المدة الزمنية المتوقعة للتنفيذ حسب ما ورد فى الوثيقة، ثم نتائج الرصد، وجاء هذا التقسيم حتى يمكننا تبسيط المتابعة وجعلها مفهومة للمجتمع، ورصد التنفيذ باستخدام مؤشرات قياس متفق عليها. وبدون رصد وتحليل واستعدال المسار تصبح الرؤية والأهداف المعلنة لتطوير التعليم حبرا على ورق، ويجب:
رصد جهود أجهزة الدولة فى تنفيذ رؤية مصر 2030 فى محور التعليم والبحث والتطوير، وإصــدار تقرير نصف سنوى فى يونــيو، وتقرير سنوى فى ديسمبر من كل عام حتى عام 2030، يتم نشره للمهتمين.
استعراض ما تم تنفيذه فى محور التعليم كل ٥ سنوات، فى ضوء أهداف وغايات رؤية مصر 2030 لوضع نقاط وبداية جديدة إذا لزم الأمر.
رصد الفجوات بين خطط الوزارات المعنية والاستراتيجية المعلنة، وبين أهداف رؤية مصر 2030 فى التنمية.
رصد أسباب عدم تحقيق الأهداف فى إطارها الزمنى.
المشاركة فى مراجعة الرؤية والاستراتيجيات النابعة منها كل فترة زمنية حتى يمكن تطويرها إن كان لذلك لزوم فى ضوء ما يجد فى العالم من تطوير.
إن ذلك واضح وممكن التنفيذ!!!!
إن جهة المتابعة يجب أن تكون مستقلة عن الوزارة، لذلك أناشد المجتمع المدنى ووزارة التخطيط والجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء والدولة مساندتنا فى تفعيل مرصد متابعة خطة تنمية الدولة ومتابعة تنفيذها، خاصه بعد أزمه «كوفيد- ١٩» لنضع المبادرات الجديدة فى إطار استرتيجية الرؤية المحترمة للتعليم فى مصر.
وبما أن الرؤية يجب أن تستديم، فقد وضعنا إطارًا عامًا لمراجعتها كل فترة زمنية (خمس سنوات)، وذلك لضمان شمول استراتيجيات تنفيذها على ما يستجد فى العالم من معارف من ناحية، وما يواجه التطبيق من تحديات ومعوقات من ناحية أخرى. وعلى الرغم من كل هذا لم تلتزم بها الحكومات التى تعاقبت خلال السنوات الخمس الماضية التزاما كاملا، على الرغم من أنه تتم الإشارة إلى هذه الرؤية كعناوين فى تقارير تلك الحكومات وفى الموازنات المقدمة منها إلى البرلمان.
ونظرًا لإيماننا الثابت بأهمية دور المجتمع المدنى الذى تم تمثيله بالفعل فى صياغة الرؤية ومحاورها، فلقد طرحنا على وزارة التخطيط رغبتنا فى مساندة الدولة فى مراجعة مدى تحقيق رؤيتها، وذلك بإنشاء مرصد للتعليم لمتابعة التنفيذ، آخذين فى الاعتبار الأهداف الرئيسة والفرعية للرؤية، ومؤشرات قياس تطبيقها ومدى فاعليتها.