الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / بين الربيع العربى والربيع الأمريكى

بين الربيع العربى والربيع الأمريكى

قال لى الشاب السياسى: ما الذى يحدث فى الولايات المتحدة الأمريكية يا دكتور؟

إن المظاهرات التى اندلعت فى أغلب الولايات نتيجة قتل مواطن على الهواء من البوليس فى مينيابوليس كانت كالشرارة التى أشعلت نارا، وزادها اشتعالا الرئيس الأمريكى بتويتاته وتعليقاته، التى تدل على جوانب عنصرية فى شخصيته. ألا تدل هذه المظاهرات على غضب داخلى فى النفوس وإحساس شعبى بعدم العدالة؟

قلت: إن سبب تأجج «المظاهرات» ليس مقتل المواطن الأسود (جورج فلويد)، فهذا الحادث هو مجرد الشرارة التى أشعلت الأحداث، السبب الحقيقى هو الإرث التاريخى من الممارسات العنصرية للرجل الأبيض ضد المواطنين الأفارقة والممتد لأكثر من أربعة قرون وحتى يومنا هذا، وهو تاريخ دموى حقير، وهو جوهر الأزمة.

قالت زميلته: أنا عملت مقارنة ساخرة بين الربيع العربى وما عشناه فى مصر وما يحدث فى أمريكا، فهل تحب أن تسمعها؟

قلت: هاتى ما عندك.

قالت: اشتعلت ثورتنا فى يناير بعد وفاة شاب فى إسكندرية نتيجة عنف تعامل من الشرطة، مما أثار غضبا داخليا داخل النفوس من تكرار سوء المعاملة فى أقسام الشرطة للمواطنين، وهو ما حدث فى مينيابوليس. بدأ المواطنون فى التظاهر بلا قائد، ومطالبة بالعدل والحرية. لم تكن مظاهرتنا من العاطلين ولا الفقراء ولا الأحزاب السياسية، بل بمواطنين من كل الطبقات وكل الأحزاب شاملة شبابا من الحزب الوطنى الحاكم وقتها. أنا وإخوتى كنا فى التظاهرات فى ميدان التحرير، وأنا كنت عضوا فى الحزب الوطنى.. كنا نرنوا إلى حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وننظر إلى قادة

مثلك داخل الحزب يطالبون بذلك أيضا. لذلك عندما تم استدعاؤك سياسيا لموقع المسؤولية الحزبية ابتهجنا وأحسسنا بأن هناك أملا فى الإصلاح.

فى أمريكا، التظاهرات كذلك تطالب بالمساواة والتعامل العادل لكل الموطنين. فى الحالتين، الشرطة تتعامل بغباء، ينتهى بعنف متبادل، وبدء سقوط قتلى. فى حالتنا اتهمنا الإخوان بأخذ الثورة لتوجه سياسى لصالحهم، معتمدين على خداع المتظاهرين بأن الكل فى جانب واحد ضد السلطة الغاشمة.. والحقيقة أنهم كانوا هم السلطة الغاشمة التى كبست على أنفاسنا بعد ذلك بظلم أكبر وأحادية فكر ضد المواطنة وحرية العقيدة.

هناك الرئيس يتهم اليسار المتطرف، وليس بعيدا أن يتهم الصين أو روسيا بالتدخل فى شؤون أمريكا والعمل على إثارة التناقضات العرقية وتعميق العنصرية.

فى حالتنا ثبت أن أمريكا وبريطانيا تقفان وراء حلف الإخوان، وتريدان إسقاط النظام المصرى الذى كان سيتغير بعد ثمانية أشهر فى كل الأحوال، بعدما أعلن مبارك أنه لن يرشح نفسه لفترة رئاسية تالية.. كانوا يريدون هز النظام الجمهورى فى كل البلاد العربية ويساندون كل النظم الملكية، وللعجب، بادعاء الدعوة للديمقراطية.

الآن، نحن نرى فشل الديمقراطية الغربية التى أفرزت مثل الرئيس ترامب، وإذا تم انتخابه لفترة ثانية فسيسعد الديكتاتوريون ويمرح الملوك بالحماية الأمريكية. وإذا انتخب ممثل الحزب الديمقراطى، المؤيد للإخوان المسلمين، والذى أسس البنية التحتية لحكمهم مساندة وتمويلا، ولأجنحتهم العسكرية الداعشية الإرهابية، إذا تم انتخابهم، فسنشقى مرة أخرى بتدخل أمريكى، كما نتصور فى دعم التحالف الدينى السياسى..

أمريكا تنادى بالديمقراطية وتساند الدولة الدينية اليهودية الصهيونية والدولة الدينية فى مصر، فى تناقض فلسفى وقيمى متكرر، مما يعنى أننا بين المطرقة والسندان..

قلت: لقد طفتى بنا بذكاء بين الأحداث، لكن هناك فرقا بين التظاهر السلمى الذى يهدف إلى تسجيل موقف وإحداث تغيير وبين ممارسة أعمال الشغب والنهب والتخريب، ولو قارنا ما حدث فى مصر عام ٢٠١١ وبين ما يحدث حاليا فى أمريكا فسوف نكتشف مدى تحضر وسلمية واحترام الشعب المصرى، بالطبع كانت هناك بعض التجاوزات- خصوصا فى ظل الانفلات الأمنى وقتها- إلا أنها لم تصل أبدا لما نراه من بعض جموع الشعب الأمريكى من عمليات نهب منظم للمحال التجارية والاعتداء على أصحابها وتدمير ممنهج للمنشآت العامة والخاصة، وهذه دلالة شديدة الأهمية على أن

تحضر الشعوب لا يقاس بالحالة المادية والاجتماعية فقط، وإنما يجب وضع البعد التاريخى وعوامل تكوين شخصية الشعب وكيفية تعاملها وقت الأزمات فى الحسبان.

قال الشاب السياسى: هل ممكن أن تقع أمريكا نتيجة ما يحدث كما حدث معنا؟

قلت: الولايات المتحدة إمبراطورية اقتصادية ومدنية وعسكرية جبارة، ولا يدور بذهنكم لحظة، وقوعها ببساطة. إننى واثق أنه سيتم استعدال الخلل فى نظامها وأن البناء الديمقراطى سيصحح نفسه من خلال طبقات الرقابة الذاتية للنظام التى تحافظ على الدستور الأمريكى ولا تغيره حسب الطلب.

قالت زميلته: وماذا عن الاتحاد الأوروبى، هل سيسقط ويتحلل بعد انسحاب بريطانيا وأزمة كوفيد- ١٩؟

قلت: الاتحاد الأوروبى نما عبر سنوات من تحقيق مصالح مشتركة، اقتصادية وتعليمية واجتماعية، وهو يواجه كبوه فعلا، أرى وراءها أيضا تدخلا أمريكيا لا يريد أى قوى اقتصادية منافسة له. ولأن النظام تم بناؤه من القاعدة للرأس، فمرة أخرى أراه يصحح خطأه، ويتخلص من البيروقراطية التى تلازم التوسع فى النظم الإدارية.. أتصور أن أوروبا ستظل مندمجة فى إطار نظامها مع تعديلات ستمليها ألمانيا وفرنسا خلال السنوات القادمة حفاظا على القارة..

قال الشاب: من دراستى يا دكتور، فإن الخلل سيحدث فى أوروبا اجتماعيا بعد ٢٠٥٠، عندما يصل عدد المسلمين والمهاجرين إلى قرب نصف عدد السكان، وتدريجيا سيتم تغيير البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع الأوروبى.

قلت: ممكن أن يحدث ذلك، ولكن أنا أعلم أن هناك العديد من مراكز الأبحاث التى تعمل على هذا الموضوع لضمان الحفاظ على الثقافة والهوية الأوروبية فى إطار يستوعب التغيرات السكانية المحتملة..

قال الشاب السياسى: عودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لماذا والشعب الأمريكى يحظى كما يقول رئيسه بأفضل مستوى اقتصادى، وحتى بدء أزمة كوفيد- ١٩ بأقل نسب بطالة، وهى الدولة التى تنادى بالحرية وواحدة من أصول الديمقراطية ورائدة النظام الاقتصادى الحر، لماذا يثور الناس فيها؟… أفهم حدوث ذلك عندنا، ولكن عند أقوى وأغنى دولة فى العالم… أمر غير مفهوم؟

قلت: كل مستوى اقتصادى ترتفع إليه البلاد، وكل رفاهية يتمتع بها المواطنون أمامها رغبات جديدة وطموحات أعلى.

وعندما يرتفع سقف الطموحات يزداد الإحساس بالنقص. ستجد دائما فى أى استطلاع للرأى أن أكثر الغاضبين والمستائين هم الأكثر تعلما وانفتاحا على العالم، لأنهم يريدون أكثر، وسقف طموحاتهم يرتفع فى كل يوم. وأكثر الراضيين بحالهم هم الجهلة والفقراء، الذين يرضيهم أى إضافة لأحوالهم البائسة.. هذه هى الحياة، وهذا هو الإنسان، لا يختلف كان فى أمريكا أو مصر.. أما أخطرهم على نظم الحكم فهم الفقراء المتعلمون، الذى ترتفع طموحاتهم وتنقص قدراتهم.. لذلك فإن نظم الحكم المستبدة عبر التاريخ لا تهتم بالتعليم ولا تريد وضع نفسها أمام طموحات المتعلمين المشروعة.. ولا تنسوا أن دور الدولة هو بناء القدرات وخلق الفرص.

تذكروا أيضا أن علاقة القادة بشعوبهم عامل مهم فى رضاء الناس بأحوالهم. ويدور فى ذهنى موقف ترامب من أغلب قيم المجتمع الأمريكى، حيث بدأ منذ حكمه فى التصرف عكس هذه القيم، فى الاقتصاد الحر، وفى مواجهة الاختلاف فى الرأى، وفى الكذب على شعبه، وفى الانغلاق والخروج من العولمة والانسحاب من المنظمات الدولية والتصرف بعنصرية ضد المهاجرين، بل وبناء الأسوار حول بلد كان الملجأ والحلم لكل البشر ولأجداد هذا الشعب أنفسهم وجنة الحرية. أتصور أن هذا التناقض انتقل إلى وجدان الناس وانعكس على تصرفاتهم.

إلا أننى أؤكد لكم أن الشعب الأمريكى أفضل من قادته السياسيين الذين يقودون الإمبراطورية إلى السقوط الأخلاقى والقيمى، ولكنى أراهن على هذا الشعب ودستوره العظيم فى إصلاح نفسه.

مازلت أؤمن بالديمقراطية ولكنى، مع آخرين، فى أماكن متعددة فى العالم، نسعى لخلق شكل جديد للديمقراطية، يوائم التغيرات المحلية والعالمية ويحترم ثقافات الشعوب المتباينة، ويتجنب الفشل المتكرر فى تطبيقاتها.

التعليقات

التعليقات