الثلاثاء , 3 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / د بدراوي يكتب: عيد أكتوبر العظيم

د بدراوي يكتب: عيد أكتوبر العظيم

كعادتى فى شهر أكتوبر أتواصل مع شباب الحالمين بالغد ومنهم شباب أسرتى والعاملون معى فى العمل العام، وبالذات جمعية تكاتف والتعليم أولا، وجمعية نشر الثقافة والمعرفة، بالإضافة إلى طلبتى فى الجامعة. مجموعة من الشباب الذين كانوا معى عن بعد احتراما للتباعد الاجتماعى. فى محاضرتى لهم على زووم والتى تكلمت فيها عن نصر أكتوبر العظيم قلت لهم إن يوم السادس من أكتوبر هو أعظم أيام حياتى، لأن من لم يعش مهانة هزيمة (٦٧) لا يستطيع تذوق جمال وأثر وقيمة (٧٣).

كنت فى بكالوريوس طب قصر العينى، وكل واحد فينا كان له أخ أو أب أو صديق أو قريب فى الجيش يحارب من أجل كرامة البلاد. كنا حول الراديو تقشعر منا الأبدان ونحن نسمع البيانات العسكرية الرزينة الحقيقية على عكس ما كان يحدث فى ٦٧. تعلم الإعلام من أخطاء الماضى وكان صادقا مع الشعب، وتعلم قادة البلاد من الشعب المصرى العظيم وكانوا على مستوى المسؤولية..

وفجأة قال لى واحد من الشباب الذين ولدوا بعد هذا اليوم بـ٣٠ سنة:

«مش قوى كده يا دكتور حسام، هناك كتب ومقالات بتقول أن مصر لم تكسب هذه المعركة أساسا. نصدق مين؟

وقال آخر: ما انتم قلتم كده على حرب ( ٥٦ ) وطلعت فى الآخر برضه مش نصر، وإسرائيل احتلت سيناء بعدها لولا تدخل أمريكا».

قلت: «هذا كلام غير صحيح، لأن المعركة الحربية تعرف نتائجها بمن فرض إرادته على الآخر، فى (٥٦) مصر فرضت إرادتها على إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وكل بلد يستخدم ما لديه من جيوش ودبلوماسية لتحقيق الغرض. مصر فى نهاية الحرب فرضت سيطرتها على قناة السويس واستعادت سيناء، إذن نتيجة الحرب كانت انتصارا لمصر، واستقالة لرئيس وزراء بريطانيا العظمى.
.. أما فى (٧٣)، فقد كنا نعتقد أساسا، والعالم كله يؤكد، استحالة عبور قناه السويس واختراق خط بارليف، الذى اعتبر فى وقتها أقوى خطوط الدفاع فى تاريخ الحربية العالمية، مع تفوق تكنولوچى واستراتيچى للطيران الإسرائيلى. لقد كان إيمان العالم أن هذا وضعا نهائيا لن يتغير.

ماذا حدث فى النهاية هو عبور قواتنا بتنظيم وقيادة حكيمة، وتغيير الوضع العسكرى المستقر، ثم التفاوض من وضع القوة وليس الهزيمة.. كل ما حدث بعد ذلك هو فتح قناة السويس للملاحة العالمية، وعودة أهالى بورسعيد والإسماعيلية والسويس المهجرين، واستعادة سيناء. حرب أكتوبر كانت جزءا من استراتيچية متكاملة لاستعادة الكرامة والأرض. تضامن العمل لعسكرى مع الدبلوماسى والقانونى لاسترجاع آخر نقطة فى طابا وأصبحت سيناء كاملة فى حيازة مصر مرة أخرى.

قالوا: «ولكنه تم تحديد عدد قواتنا فى سيناء واستعادة سيناء تعتبر منقوصة..».

قلت: «أنا وأنتم نذهب لـ (شرم الشيخ) و(سانت كاترين) وإلى أن بدأ الإرهاب الداعشى كنا نذهب للعريش ونجول فى سيناء كما نريد. كل مكسب له ثمن، ولا بد أن نفهم ذلك وندرك أن الجولان لا تزال تحت الاحتلال المطلق بعد خمسين سنة وأن الضفة الشرقية كذلك. بل إن إسرائيل بصفاقة أعلنت ضم الجولان إليها وبدأ العالم يعترف لإسرائيل بملكيتها وها هى أمريكا تعلن ذلك أيضا».

لا تجعلوا المحبطين الذين لا يرون سوى الهزيمة ينقلون إليكم طاقتهم السلبية.. مصر انتصرت، حربا وتفاوضا، وغيرنا واقعا جغرافيا وتاريخيا.

قالوا: «ولماذا لا نقرأ سوى طنطنة ومزايدات كلامية فى الإعلام تجعلنا نشك فى الحقيقة من كثرة المزايدات».

قلت: معكم حق، وعليكم واجب… الحق، أنا أتفق معكم أن المزايدات الإعلامية والنفخ فى الانتصار وتخبئة الأخطاء وكأننا ملائكة وسوبرمان تشكك فى الحقائق.

ولكن واجبنا أن نبحث أيضا، ونقرأ مذكرات أبطالنا وأعدائنا ونعمل عقولنا. الحق أن جيشنا وشعبنا انتصرا بعد هزيمة، وأننا لم نستسلم، واستعدنا الأرض بعد (٦) سنوات من الاحتلال الإسرائيلى، وكرر الشعب موقفه الحضارى برفضه الاحتلال الإخوانى للبلاد بعد سنتين فى ٣٠ يونيو وكنا نظنه أبديا لا قدر الله.

الحقيقة أن الجيش استعان بالمؤهلات العليا من المجتمع المدنى فارتفع مستوى أدائه، ودخل العلم جنباته، وأن الشعب بالرغم من قلقه، ونفاد صبره، وهجرة ربع سكانه داخليا ساند جنوده وغالب آلامه وانتصر.

إننى أود أن أذكر لكم مرة أخرى أن يوم (٦) أكتوبر هو أعظم يوم فى حياتى فعلا، حيث فوجئنا بأن جيشنا يعبر ويحقق نصرا، وشعورى بالفخر والزهو لا أنساه. الكل تطوع على قدر قدراته ومصر انتصرت فعلا.

قال شاب آخر: ما هى أهمية الجولان لسوريا ولماذا أعلنت إسرائيل ضمها من بين الأراضى المحتلة؟.

قلت: الجولان استراتيجية لسوريا، وفى حالة تمكن سوريا منها فأعتقد أنه يمكن تهديد مدن عدة داخل فلسطين المحتلة. لكن سؤالك جعلنى أذكركم أننى كلما قرأت بيانا بالأراضى العربية التى لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلى أجدها تتناقص فى ذاكرة الإعلام اليومى والدورى، فلم يعد يذكر سوى الضفة الغربية والجولان ومؤخراً القدس كلها، وتكاد منابع نهر الأردن وقرى من جنوب لبنان وباقى قرى ووديان فلسطين التى توسعت وتتوسع عليها المستوطنات الإسرائيلية- أقول تكاد- تسقط من الذاكرة الإعلامية للأسف، بل إن هناك تخوفا من تقسيم سوريا نفسها ما بين تركيا وإسرائيل والتقسيمات العرقية. لقد ابتعدت الجولان من مرمى البصر وكان ممكن أن يحدث ذلك لسيناء.

إن من عاش ويتذكر أكتوبر ٧٣ لا بد أن يكون الآن عمره فوق الخمسين عاما، ويجب أن يكون تدريس حرب أكتوبر فى مناهج التعليم مبنيا على رؤية علمية وليس اجتهادات كلامية بمزايدات تجعل الطلبة لا تصدق الحقائق بعد ذلك.

هناك بطولات لا يحكى عنها كثيرا، كبطولة الشعب المصرى الذى عاد جيشه مهزوما هزيمة قاسية ومذلة فى ٦٧، ما اضطر رئيس البلاد للاستقالة، كنتيجة للفشل فلم يقبل الشعب الاستقالة كرمز لعدم قبوله الهزيمة. ثم ماذا؟ نكت واستهزاء بالجيش المصرى فى العالم كله، والبلاد العربية، وفجأة أصبح الزى العسكرى المصرى مجال الاستهانة بالقول والفعل، وهجرة مواطنين يعيشون على خط القناة إلى داخل البلاد بالملايين.

هنا ظهر معدن حضارى للشعب المصرى الذى قاوم الموجة السلبية الموجهة إلى الجيش ورفع روحه المعنوية، واشترك كل صاحب شهادة متعلم فى الجيش بدون معرفة وقت خروجه للحياة المدنية وتقبل الشعب مهاجرى وطنه، وأعاد هذا الشعب لجيشه هيبته ومقامه.

هذه معركة لا يتكلم أحد عنها ولا توجد لها ذكريات.

شعب مصر أحيا جيشه بعد الهزيمة وجيش مصر أحيا شعبه بانتصاره فى أكتوبر.

علينا أن نعلم أن هناك دروسا مستفادة نتذكرها ونذكرها فى أكتوبر. أولها، أن الجيش والشعب منظومة واحدة، ولولا مساندة المجتمع المدنى لقواته المسلحة ما كان النصر وكل محاولات تقسيم البلاد بفصل الجيش عن الشعب وتقسيم الشعب إلى فئات عصبية وجغرافية سننتتصر عليها بالوعى الحضارى لهذا الشعب العظيم.. ثانيها، أننا لو كنا دخلنا حرب أكتوبر بدون تغيير جوهرى فى مفهوم إدارة المعركة، والتنسيق بين المدنية والدبلوماسية والعمل العسكرى ما كان النصر.. فلقد تعلمنا وقتها أنه لا يمكن تكرار فعل نفس الشىء بنفس الطريقة وانتظار نتائج مختلفة فتغير مفهوم العمل العسكرى الذى قاد للهزيمة إلى مفهوم جديد قاد للنصر. ثالثها، أنه لا نصر بدون أخطاء وتضحيات، وما لا يوثق كأنه لم يكن، وكما نحلل الهزيمة علينا أن نحلل النصر. كانت هزيمة ٦٧ قاسية قاسية قاسية، ولكن حدث التغيير وتراكمت الخبرة ليحدث نصر ٧٣. عندما حدثت حرب ٦٧ كنت فى الثانوية العامة، وكنا كشباب تحت إحساس كاذب بالقوة وفى انتظار دخول تل أبيب فى نهاية يوم ٥ يونيو.. خدعنا النفاق للسلطة، وخدعنا الخوف من إبداء الرأى الحر وكان الشعب فى حالة سبات ونشوة كاذبة إلى أن أفقنا وجيشنا يعود هربا، والعدو فى سماء القاهره.. درس لا أنساه خلق فى وجدانى السياسى رفضا لأحادية الفكر، أو تصديق ما ليس له برهان. خلق فى تركيبتى العقلية رفضا للنفاق ورغبة فى الشفافية والإفصاح.

يا أولادى درس أكتوبر كبير ويمكن تطبيق نتائجه اليوم بالإصرار على تعدد الآراء، وحرية الإعلام، واحترام الاختلاف الذى يظهر الحقيقة، والبناء لا الهدم، والإيجابية، والعمل كفريق، والاستفادة من طاقات كل الشعب.

كل أكتوبر وأنتم بخير.

التعليقات

التعليقات