حسام بدراوي الموقع الرسمي
قالت الشابة المثقفة: ما هو تعريف القوة الناعمة، وهل لها معايير يمكن قياسها من خلالها؟
قلت: القوة الناعمة (بالإنجليزية: Soft power)، هو مفهوم صاغه جوزيف ناى من جامعة هارفارد فى بداية التسعينيات لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، ولقد شاهدت برنامجًا للأستاذ إبراهيم عيسى منذ أيام أنصحكم بمشاهدته حول القوة الناعمة فى مصر على اليوتيوب.
ونعم، أصبحت للقوة الناعمة معايير ومؤشرات يمكن من خلالها قياس الأثر على الشعوب.
قالت الشابة: هل القوة الناعمة روحية فى الأساس؟
قلت: إلى حدٍ ما، فمعنى القوة الناعمة أن تكون للدولة قوة معنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق، ومن خلال الثقافة والفنون والعلوم، مما يؤدى بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره.
ولكن من مدخلٍ آخر فقد قرأت للدكتور جمال عبدالجواد، أستاذ العلوم السياسية فى الجامعة الأمريكية، مقالاً أعجبنى قال فيه: القوة الناعمة هى قوة النموذج، وجاذبية الثقافة، وسمو القيم والمبادئ، والمصداقية فى الالتزام بكل هذا. إنها امتلاك الخصائص التى تجعل الآخرين يتطلعون للدولة باعتبارها نموذجًا يُحتذى، ومصدرًا للإلهام.
القوة الناعمة هى القدرة على التأثير فى الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك فى الحياة هى النموذج الذى يودون احتذاه. انتشار الوجبات السريعة بعلاماتها التجارية الشهيرة من الولايات المتحدة لباقى أنحاء العالم يمنح أمريكا قوة ناعمة.
تعلق الناس فى أنحاء العالم بسروال الجينز الأمريكى هو قوة ناعمة. سمعة الدنمارك باعتبارها البلد الأقل فسادًا فى العالم هو قوة ناعمة. الدقة المعروفة عن المجتمع السويسرى هى قوة ناعمة. التطور الحضارى المذهل فى دبى والكفاءة الإدارية فى دولة الإمارات هى قوة ناعمة. وجود محطة الجزيرة التليفزيونية فى كل فندق فى العالم هو قوة ناعمة. هوليوود فى الولايات المتحدة وبوليوود فى الهند هى قوة ناعمة.
قد نفهم القوة الناعمة باعتبارها المقابل للقوة الخشنة ببعديها العسكرى والاقتصادى، وقد نفهمها باعتبارها الضلع الثالث لمثلث القوة: قوة الإكراه، قوة المكافأة، قوة الإلهام، المعادلات الموضوعية للقوة العسكرية، وقوة الاقتصاد، وقوة الثقافة والأخلاق. القوتان العسكرية والاقتصادية تنتجان القدرة على المنع والمنح.
قوة الإكراه العسكرية تمنح صاحبها القدرة على تدمير الخصم وحماية الحلفاء. القدرة الاقتصادية تمنح صاحبها القدرة على مكافأة الحلفاء وحرمان الخصوم من المزايا والمنافع. القوة الناعمة لا تتيح القدرة على العقاب أو المكافأة، ولكن فقط القدرة على التأثير غير المباشر وعن بعد.
تمارس القوة العسكرية تأثيرها عبر مخاطبة غريزة البقاء. القدرة الاقتصادية، على الجانب الآخر، تمارس تأثيرها من خلال مخاطبة اشتهاء الثروة وغريزة الطمع. أما القوة الناعمة فتمارس تأثيرها من خلال مخاطبة تطلع الإنسان للسمو والامتياز.
القوة الناعمة، كما يقول د. جمال عبدالجواد، على أهميتها، هى مفهوم مراوغ. يمكن قياس القوة الناعمة بعدد الناس الذين يتطلعون إلى الدولة بحثًا عن نموذج يحتذونه. لكن ألم يتطلع الملايين للاتحاد السوفيتى والصين الشيوعية وحتى ألمانيا النازية بحثًا عن الإلهام؟ أين هى جوانب السمو الأخلاقى فى هذه النماذج المنقرضة؟ القوة الناعمة هى أيضًا قوة الأيديولوجيا، التى قد تكون خيّرة أو شريرة، فالقوة الناعمة ليست دائمًا قوة أخلاقية.
قال شاب آخر: إذن ما هى مصادر القوة الناعمة يا دكتور؟
قلت: القوة الناعمة تقوم على ثلاثة مصادر:
■ الثقافة بكافة أطيافها التى تجذب الآخرين وتؤثر فى وجدانهم، والإعلام الذى يصبح مصدرًا يثقون فيه فيلجأون إليه.
■ القيم السياسية عندما ترقى إلى الجموع فى الداخل والخارج كنموذج يحترم الحريات ويرتفع بقدر الإنسانية داخل النفوس.
■ والتواجد الاقتصادى والتكنولوجى الذى يمتزج باحتياجات الأفراد ويصبح جزءًا منهم.
حتى النماذج الفردية للتفوق والإبداع تصبح قوة ناعمة إذا أُحسن استغلالها بتطلع الملايين إليها. محمد صلاح أصبح قوة ناعمة لمصر، مثلما أصبح كريسيانو رونالدو للبرتغال وميسى للأرجنتين.
تاريخنا وطريقة عرضه للعالم قوة ناعمة. مصر تمتلئ بمصادر القوة الناعمة يا شباب، لذلك فإننى أحترم تقسيم القوى إلى ثلاثة أقسام: القوة الصلبة كالاقتصاد والجيوش، والقوة الناعمة وقد تكلمنا عليها، والقوة الذكية التى تعرف كيف تستخدم ما لديها وتُقويه وتُعمقه ليصبح للدولة تأثير على من حولها والتأثير الإيجابى على شعبها.
قال الشاب الذى أعلم إعجابه بالفنون: ما الذى يجعل للفنون هذا التأثير على قمة القوة الناعمة، من ثَمَّ على الوجدان؟
قلت: إن الآداب والفنون بأنواعها تلمس أجمل ما فى الإنسان، وتثير فى النفس الرغبة فى السمو النفسى والأخلاقى، ومن خلالها يمكن تأكيد ثقافه الشعوب بل ونشرها، وبها تصبح القيم الجميلة منهج حياة، وتنتقل إلى الأجيال تراكم الخبرات بشكل غير مباشر، وتتنور الطبقات الاجتماعية وتختلط وتشترك فى المتعة نفسها.
قال شاب آخر: هى فين الفنون المؤثرة فى القوة الناعمة المصرية اللى بتتكلم عليها يا دكتور، لماذا لا نحس بها؟ أهلى يقولون لى إن الأفلام المصرية والغناء والكتب وإبداع وتنوير الفنانين والأدباء كان مؤثرًا فى العالم العربى. لا يشتهر فنان إلا إذا جاء إلى القاهرة، والنقود فى العالم العربى اسمها مصارى، وأم كلثوم كان يأتيها القاصى والدانى شهريًا للتمتع بحفلاتها وفنها، وعبدالحليم وعبدالوهاب والعقاد وطه حسين وأحمد شوقى وغيرهم وغيرهم.
قلت: كل ما تقوله صحيح، ويظل السؤال: هل تعبر القوة الناعمة والثقافة عن واقع ما يعيشه المجتمع، فتنحدر عندما ينحدر وترتفع عندما يرتفع، أم أنها تصنع الحضارة وتدفع بالناس وترتفع بهم إلى أفضل ما فيهم؟ وهل ينفصل الفن والأدب وكل مناحى الثقافة عن واقع يتغير متأثرًا بالفقر والأمية والغزو الثقافى السلفى المتشدد الذى ملك المال وتحكم فى اقتصاد البلاد الجاذبة للعمالة المصرية؟
كلنا نعلم أن هجرة العمالة المصرية فى ثلاثة عقود من الزمان إلى السعودية والخليج، ونمو حركة الإخوان فى مصر، والمد الشيعى فى إيران، قد قاد الحركة الثقافية إلى الانغلاق وكتم أنفاس حرية التعبير.
قالت الشابة المتألقة بخبث: وبالمناسبة، ما هو ترتيب مصر فى المنطقة كتأثير قوة ناعمة على من حولها فى التقرير السنوى الذى يرتب ذلك عالميًا وإقليميًا؟
قلت: للأسف، مصر تجىء فى المركز السادس بعد تركيا الأكثر تأثيرًا والسعودية وإيران والإمارات وإسرائيل.
قالت: وهل هذا يصح يا دكتور؟!
قلت: أعترف لكِ بأنه لا يصح.
قالت: وهل كان لحركة الشعب فى ٣٠/ ٦ أن تنجح بدون إعلام حر كان عنده الشجاعة أن يهاجم الإخوان ويكشف زيفهم، وكان منهم رئيس الجمهورية والحزب الحاكم وأغلبية البرلمان وكل الحكومة، ويسيطرون على الشارع، ويملأون استاد القاهرة فى عيد ٦ أكتوبر بحضور قاتل السادات الذى أخرجوه من السجن، ويحاصرون مدينة الإنتاج الإعلامى. ألم يكن الإعلاميون والمثقفون هم الذين مهدوا لحركة الجماهير بالملايين لإنهاء حكم الإخوان. أليست تلك قوى ناعمة أثرت فى المجتمع بدون إكراه؟
قلت: صحيح.
قال زميلها: أليس الإبداع والابتكار من نواتج حرية التعبير، ألا يستحق هؤلاء مزيدًا من الحرية؟
قلت: يستحقون، فالحضارة لا يبنيها إلا الأحرار.
واستطردت قائلا: إن ما يحدث فى العالم حولنا من إنجازات تكنولوجية علمية شىء لم يحدث فى تاريخ البشرية من قبل، وأنتم وقود هذا التطوير فى مصر.. فلنقرأ أكثر، ونتعلم أكثر، ونتثقف أكثر، ونتواضع أكثر، ونرسم البسمة على الوجوه كلما تسنى لنا ذلك، ونعبر عن أنفسنا ونناقش بلا رهبة أو خوف، فالحكمة السياسية تقول: إذا سمحنا بزرع الخوف فى نفوسنا فلن نجنى سوى انكماش لقوتنا الناعمة، ويا جمال مصر بما تملكه من هذه القوة إذا كان لدينا الذكاء والحكمة والثقة فى أبنائنا لنستخدم طاقاتنا وإمكاناتنا.