نبنى ولا نهدم..
حسام بدراوي
قلت لصديقى الكاتب الناصرى:
لماذا تهاجم القطاع الخاص؟
نريد تشجيعه ومساندته وليس لومه وخلق توجه سلبى تجاهه موجود أساساً فى المجتمع.
الوظائف يخلقها القطاع الخاص، وحصيلة الضرائب تأتى منه.
ومن أبقى مصر حية بعد مأساة وفوضى ما بعد ٢٠١١ كان قطاعاً خاصاً خارج رادار الدولة.
رد على قائلا:
سيادتك لابد أدرى بفساد القطاع الخاص فى مصر، وبالنهب المنظم الذى يمارسه هذا القطاع، والذى لو نُشرت ملفاته لصارت فضائح يندى لها الجبين.
٣٠ سنة من النهب المنظم فى ظل تزاوج سلطة وثروة يا دكتور.
قلت له:
أفضل أن يحاكم من يخطئ ومن يسىء، فى إطار القانون بدلا من تلقيح الكلام، واعتبار أن كل من يحقق ربحاً لابد أنه لص ومتهم، علماً بأن هذا القطاع يضم أكثر من ٤ ملايين شركة فى مصر.
يا سيدى، لا يجب أن يتهم الكل بأخطاء الأقلية إذا وجدت. التعميم خطر.
ولا أمل تنموى اقتصادى بدون قطاع خاص.
ولا خلق وظائف جديدة بدون استثمارات مصرية وأجنبية مباشرة.
أما الفساد فله تعريف دولى لا يرتبط بالقطاع الخاص، بل يرتبط بموظفى الدولة وفى غياب تطبيق القانون.
عندما يخطئ القطاع الخاص يحاسبه أصحاب الأسهم، وعندما يخالف القانون، فهذه جريمة، أما الفساد فهو أمر آخر.
إن تعريف الفساد على غير ما يعتقد الناس هو أعمال غير نزيهة يقوم بها الأشخاص الذين يشغلون مناصب فى السلطة، مثل المديرين، والمسؤولين الحكوميين وغيرهم، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، سواء سلطوية أو مالية. وهو انطباع يتكون بتكرار الفعل للحصول على الحق.. مثل الرشاوى والوساطة وتزوير الانتخابات أو ترسية المشاريع الكبرى بالتحايل على القانون. كذلك فإن الفساد له أسبابه التى يمكن تجنبها، ليس فقط بكشفها بل باتخاذ إجراءات الحوكمة الرشيدة فى إدارة الدولة ودفع مرتبات لائقة للموظفين، وتطبيق قواعد الرقمية فى إيصال خدمات وحقوق المواطنين إليهم دون وساطة أو رشوة كبيرة كانت أو صغيرة.
الفساد معناه يا صديقى إدارة غير كفء من الدولة وتطبيق انتقائى للقانون.
علق قائلا:
هذه مناقشة معتبرة ولابد أن يكون هناك حوار أوسع حول هذه القضية.
قلت:
مصر تحتاج إلى خلق مليون فرصة عمل جديدة سنويا وبالحساب فإن هذا يحتاج إلى أكثر من ٣٠ مليار دولار استثمارات من خارج موازنة الدولة (أى من القطاع الخاص). من الذى يستثمر، ومن الذى سيأتى إلى سوق يُتهم فيه المستثمر من قبل أن يبدأ عمله.
رد قائلا:
هذه تساؤلات مشروعة، ولكنى لاحظت أن القطاع الخاص يهاجم مشروعات وشركات الدولة ويدعى أنها تقتل المنافسة، رغم أنها توفر للمجتمع احتياجاته بأثمان معقولة.
قلت: استثمارات الحكومة أو ما كنا نقول عليه قطاع عام، كان هدفها توفير السلع بأسعار بسيطة فعلا، بغض النظر عن التكلفة. وكما حدث فى الاتحاد السوفيتى، فقد أفلس هذا النظام الذى مازلنا ندافع عنه حتى الآن.
الإنتاج الرخيص بغض النظر عن التكلفة وبدون احترام لآليات السوق وقواعد المنافسة والشفافية ينتهى بمنتج قليل الكفاءة وخسارة اقتصادية. وفى العادة تزداد التكلفة بمرتبات من لا يحتاجهم هذا الإنتاج فى مصنع أو شركة لأنه لا حساب لقيمة الربح والخسارة.
وتعالوا نرى الأمثلة حولنا، بدون حرج، مؤسسات صحفية كبرى وهيئات حكومية ومصانع مكدسة بالموظفين وخاسرة اقتصادياً ونتمسك بوجودها رغم خسائرها الباهظة، بل ونوزع مكافآت على العاملين بها.
إننا يا سيدى نتمسك بنظم ثبت فشلها عند مخترعيها، وكما قال المرحوم الكاتب الساخر محمود السعدنى لى يوما، المصنع أغلق أبوابه فى روسيا والوكيل شغال فى مصر.
رد صديقى الناصرى قائلا: قد أفهم وجهة نظرك فى فلسفة القطاع العام ولكن هذا لا ينطبق على استثمارات القوات المسلحة المنضبطة والتى تتم فى أقصر وقت ولا يصح انتقادها.
قلت: مجرد قولك إنها لا تتعرض للمحاسبة يسىء إليها ولا يضيف. قد يكون لتدخل الدولة فى لحظة تاريخية فى الاقتصاد بالاستثمار المباشر له مبرر زمنى كمُحفز، ولكن طالما أن المنافسة غير متوازنة وخارج نطاق المحاسبة الاقتصادية للربح والخسارة فهذا توجه ليس له استدامة للأسف.
قال صديق آخر عضو برلمان: بماذا تنصح يا دكتور بحكم خبرتك؟
قلت: فى ذهنى أن هناك ثلاث دعامات رئيسية للتنمية، أولاها تخفيف سيطرة الدولة وتدخلها المباشر فى شؤون الأفراد والمؤسسات وثانيتها إجراء تغيير هيكلى فى الاقتصاد المصرى بهدف تحفيز النمو، واستدامته وتوازنه مع خلق فرص التشغيل، وثالثتهما العدالة الناجزة التى تعطى لكل ذى حق، حقة فى الوقت المناسب.
التوجه الأول أمر ندعو ونسعى إليه، ولكنه يحتاج تغييرا فى ثقافة المجتمع، الذى مازال رغم نقده اللاذع للحكومة، وشكواه المستمرة من بيروقراطية الدولة، وانتهاكها لحقوقه يسعى إلى تدخل نفس الدولة فى حياته وكأنه يناقض نفسه، وهو ما يعنى مزيدا من الحرية، فى إطار احترام الشرعية والدستور.
ويتبقى تخفيف سيطرة الدولة على الاقتصاد، وعدم تدخلها المباشر كمنافس فى الأسواق، بل كمنظم وراع للعدالة وتكافؤ الفرص. فعلى الرغم من أن القطاع الخاص يستوعب فعلا 70% من العمالة، ومسؤول فعلا عن أكثر من ذلك من الدخل القومى، فمازلت أرى رغبة البعض فى العودة إلى تدخل الدولة المباشر فى ملكية قطاعات الإنتاج.
لقد أثبتت التجربة فشل الحكومات حتى وإن ظهر غير ذلك فى المدى القصير، فى إدارة الاستثمار باسم الشعب.
إن دور الدولة فى إطار التغيرات التى تحدث سياسيا واقتصاديا، يجب أن يحدد، وبوضوح، فلا انسحابها الكامل أمر صحيح، ولا احتكارها لكل أدوات التنمية أيضا صحيح. إن دور الدولة المنظم والمراجع، والضامن للعدالة وتكافؤ الفرص، والمطبق للقانون.. يحتاج إلى حكومات قوية لها رؤية وعليها التزامات.
إن الأيسر على الحكومات فى الدول النامية هو السيطرة والتحكم، والأصعب هو تحفيز المجتمع على المشاركة بدون انتقائية نرصدها، تؤثر سلبا على حركة المجتمع ككل.
أما بخصوص الدعامة الثانية، فلا يمكن للتنمية الإنسانية الوصول إلى أهدافها بدون أن يتوازى مع برامجها برامج اقتصادية، تزيد من الثروة، وتقضى على الفقر وتفتح مجالات العمل لخريجى المؤسسات التعليمية بكافة أشكالها.
إن تحقيق النمو المتوازن والمستدام المقترن بزيادة فرص التشغيل يجب أن يقترن بإعطاء الأولوية للفئات المحرومة من السكان دون التأثير على توازن موازنة الدولة، وذلك للإسراع بتحقيق معدل نمو اقتصادى يبلغ من 7% إلى 8% فى المتوسط سنويا على مدى خمسة عشر عاما متتالية. وهو أمر صعب ولكن يمكن تحقيقه باستدامة السياسات، وإقناع الشعب بها، واحترام فلسفتها، دون تراجع أو خروج عنها لهدف جماهيرى سياسى قصير المدى.
إن نمو الاقتصاد بشكل متوازن بهذا الشكل وهذه النسبة من جانب آخر أمر لا يمكن تحقيقه بدون اكتمال واتساع البنية الأساسية والمرافق العامة حتى يمكن أن تستوعب هذا النمو وهو ما قامت به الدولة فعلا فى السنوات الأخيرة.
وقد تكون الست قاطرات القادرة على خلق فرص العمل، هى:
أولا: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصادرات الخدمية المرتبطة بها.
ثانيا: الصادرات الصناعية كثيفة العمالة والمهارة.
ثالثا: التصنيع الزراعى غير التقليدى والحاصلات البستانية.
رابعا: السياحة بكل ما يحيط بها من أعمال لوجستية وفندقية وثقافية.
خامسا: قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة عمومًا.
وأخيرا: الإسكان والتشييد الذى يستوعب حوالى مائة مهنة ترتبط بتشغيل واسع للعمالة وعائد اقتصادى واجتماعى كبير. وتركيزى الأساسى فى هذا السياق هو زيادة الثروة والقضاء على الفقر نهائيا.
إن كل خطط الدولة كانت عبر السنين تتكلم على خفض معدل الفقر، وأنا أتكلم عن القضاء على الفقر نهائيا.
ويتجسد ذلك بشكل رئيسى فى رفع كفاءة التعليم وحل تحديات البطالة باعتبارهما أهم جذور الفقر.