العقل والتفكير فى الكون
حسام بدراوي
تختلف كينونة الله فى الأذهان حسب اتساع الأفق والمعرفة. ورغم اتفاقى واختلافى مع د. مصطفى محمود إلا أنه فى واحد من أفضل ما قرأت له كفيلسوف يقترب من الناس ويقول: «الله عند جدى يتمثل فى شخص طيب رحيم غفور تواب يداوى الروماتيزم ويقوى المفاصل، وهو عند أمى مأذون يجمع رؤوس بناتها على رؤوس عرسان أغنياء فى الحلال، وهو عند الأطفال يشبه عروسة المولد، وهو عند أينشتين معادلة رياضية وقانون تخضع له الأشياء بالضرورة، وهو عند عاشق مثلى حب، وهو عند مشايخ الصوفية وزير أوقاف يوزع الكساء والإعانات والمعاشات، وهو عند الملحد موضوع دراسة، وعند المؤمن موضوع عبادة، وهو دائما موجود حتى عند من ينكره».
د. مصطفى محمود، وببساطة، يقول إن العقل الإنسانى يستوعب معنى الألوهية والكون، حسب عمق ودرجة معارفه ونمو عقله. وقد سبقه توفيق الحكيم عندما كتب أن الأديان السماوية نزلت بالتدريج حسب قدرة العقل البشرى على الاستيعاب عبر الزمن.
أبرز الأستاذ العقاد قيمة هذا العقل فى كتابه الرائع «التفكير فريضة إسلامية». ومن مقال مبنى على هذا الكتاب بعنوان «نقصان العقل وجريمة التفكير» كتبت:
«إن فريضة التفكير فى القرآن الكريم تشمل العقل الإنسانى بكل ما احتواه، ويرتفع بفضيلة التفكر إلى أعلى مستوى. فالدين الإسلامى دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قُربانًا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولىّ متسلط أو صاحب قداسة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده، يملك التحريم والتحليل، ويقضى بالنجاة أو الحرمان، ولن يتجه خطاب هذا الدين العظيم – بداهة – إلا إلى الإنسان العاقل الحر الطليق من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم».
ويقول الأستاذ العقاد، إن أكبر الموانع التى تُعطل العقل هو عبادة السلف التى تسمى أحيانا «العرف»، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية.
أما الإمام على بن أبى طالب، مدينة العلم وراية العدل، فقد اعتبر العقل أصل الدين وعماد الدنيا، وهو القائل: «رأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل الذى جعله الله تعالى للدين أصلًا وللدنيا عمادًا».
أسهل شىء عند العقل قبل النضوج كان أن يتصور آلهة متعددة، كما كانت البشرية منذ آلاف السنين.. فهذا إله الحب، وذاك إله الحرب، ومعهما إله العدالة وإله الظلمات، وهكذا.. ولما تطور العقل، بدأ يعى فكرة التوحيد.. ولكن العقل البشرى فى مرحلة نموه تصوّر الله فى هيئة الإنسان، بل مثّله فى تماثيل ليرافقه كما كان يفعل العرب قبل الإسلام، لأنه كان لا يستطيع أن يرى ما هو أبعد من ذلك، وهنا تظهر عبقرية الإمام علىّ عندما سألوه أن يصف لهم الله، فقال: «إن كمال الإخلاص لله هو نفى الصفات عنه، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، كائن لاعن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه».
على بن أبى طالب كان فيلسوفًا سابقًا عصره، يتكلم على ما يحير العقول، ويتخطى معرفة اللحظة فى زمن السؤال.
ماذا كان قبل بداية الكون والخلق؟!، فلا الزمان كان قد وُجِد ولا المكان كان مُتصورًا.
العقل بنضوجه ونمو معرفته الآن يضع تصورات، والعلم ينظر إلى الكون بمكوناته المادية على مستوى الجزيئات دون الذرية، ويحلل علاقاتها بالزمن النسبى المرتبط بسرعة الأجسام.
أعود إلى فلسفة الأديان، حيث يقول الأستاذ توفيق الحكيم فى كتابة «الأحاديث الأربعة»، فى الحديث الثانى محدثًا الله فى وجدانه: «لماذا التوراة والإنجيل والقرآن.. واسمح لى ياربى أن أسأل: أكان من الضرورى أن تنزل هذه الأديان والكتب الثلاثة؟ لماذا لم تنزل دينا واحدًا؟.
لابد أن لذلك حكمة!!.. ولماذا أسأل؟
لقد خَلَقْت لى العقل، وهو أعجب مخلوقاتك، خلقته لنتفكر به فى حكمتك، ولقد رأيت أن الإنسان يتطور من جنين فى رحم الأم إلى وليد يحبو، ثم يقف على قدميه ويسير، ويبدأ فى النطق والأسئلة، ويدخل فى الطفولة، وتنمو فيه مداركه الأولى، فيزداد إدراكه ووعيه بمن حوله، ثم بالعالم كله، ثم بالكون. يبدأ فى مجتمعه الصغير، إلى أن يخرج إلى مرحلة الشباب، فتنمو فيه العاطفة والمشاعر، ما ينتج لونًا من الحياة فيه جماله ومثالياته، ثم مرحلة النضوج التى يتم فيها العقل ويستقر على شخصيته ويتخذ قراراته.. وعلى هذا الترتيب، قد تكون الحكمة فى التدرج بين الديانات لتلائم معارف البشر وقدرة عقولهم على الاستيعاب.
أتصور أن الإدراك الذاتى بالعقل هو قدرة الإنسان، وأعظم ما يميزه بها عن باقى خلقه.
العقل والتفكير هو معجزة الخلق فينا، فكيف يحاول البعض أن يلغيها ولا يسمح باستخدامها خوفًا على الدين وعلى معتقدات السلف، وكأن الله يحتاج للحماية ممن يتفكرون؟!.
يقول بعض الفلاسفة إن الله احتياج إنسانى، ومادام فكر فيه العقل البشرى، فهو موجود وإلا ما خطر على البال..وكأن حتى الملحدين يعترفون بوجوده ضمنًا طالما ينفون وجوده.
هل تعلمون أننا نعيش فى عالم رباعى الأبعاد.. فهل فكرت أيها القارئ، ماذا لو كان عالمنا ثنائى الأبعاد فقط، أى طول وعرض بلا عمق.. كنا سنكون حياة مسطحة كأننا رسومات على ورقة مسطحة.. البعد الثالث جعلنا من نحن، والزمن كبعد رابع جعل لنا أمسًا وتاريخًا وغدًا كمستقبل.
العلم يقول، بل أثبت منذ أيام فى بدء تشغيل تجربة »سيرن«، أن هناك احتمالية وجود بُعد خامس لم نكتشفه، وأن هناك مخلوقات لديها هذا البعد الخامس، وهو ما يجعلها ترانا، بل تستطيع أن ترى ماضينا ومستقبلنا ولا نراها. إن نفس المساحة المكانية من الممكن أن تحتوى مخلوقات غير البشر المسجونين فى أربعة أبعاد وفى كون محدد بذلك.. فرضية ممكنة، بل أصبحت شبه مثبتة، لو استخدمت خيالك وفتحت عقلك.
بل أزيد وأقول إنه بالعقل والعلم، فإنه لا يوجد »عدم»؛ لأن اكتشاف العقل يقول إن حتى الفضاء الخالى مصنوع من جزيئات سمّوها العلماء «جزيئات بوزون»، وهو النسيج الذى يصنع الكون وتتحرك فيه المجرات.
أعود لعقل البشر الذى تخيل ثم أثبت كل هذه الحقائق، ونزل بمقياس الزمن إلى ملايين الملايين من جزء من الثانية، وبالمسافة إلى ملايين ملايين الجزيئات، وباستخدام تليسكوب جيمس ويب أعرف مسافات من بلايين السنوات الضوئية، وأثبت بالعلم أيضًا أن المادة ما هى إلا طاقة ناتجة من ذبذبات جسيمات صانعة للكواركات، وهى أصغر ما أثبته العلم من وجود داخل نواة الذرة.
عندما كانت البشرية فى مرحلة الطفولة والصبا والشباب، ولم يكن قد حان الحين لإقناع البشر بحجم الكون واتساعه، ولا بسرعة حركة كواكبه ونجومه ومجراته، ولا كان من الممكن أن يتصور عقل البشر بلايين وبلايين الأعداد منها، ولا بجسيمات منتهية الصغر لدرجة عدم الوجود داخل الذرات، فقط بالإدراك الفكرى وحده عن طريق العقل، كان الخيال والتصور والإثبات العلمى.
إننا نولد فى غيبوبة تامة من عقولنا، فكل شىء يتحرك فينا بالغرائز، ولا يكتمل العقل حتى بخصائص تكوينه التشريحى إلا فى نهاية عامه الأول، ولا يكتمل وعيه إلا بنضجه وتراكم معارفه تدريجيًا.. تُرى ماذا كان يحدث لو أننا واجهنا الحياة بعقول مدركة من اللحظة الأولى؟!.
أعجوبة الحياة ومعجزتها ليست فى انكشافها المفاجئ أمام القادم من عالم الظلام والعدم غير الموجود، ولكن الحياة تتكشف لنا على مراحل.
فى رأيى أن التفكير الإنسانى الناضج عبر التاريخ قد أوجد إمكانية التوازن للإنسانية، وترك لنا مهمة التفكير بعقولنا، وأصبحنا نطلب البرهان ونتشكك ثم نناقش ثم نقتنع، ونراجع الأقوال لنصدق، ونسعى لتفسير ما لدينا من تراكم معرفة لم يكن لدى أجدادنا.
ألا ترون تفاهة خلافاتنا، وغباء حروبنا، وسخافة أحكامنا فى هذا الكون المذهل المنضبط المنظم بعد إدراكنا أن كوكبنا الهائل فى نظرنا ما هو الذى ما هو إلا ذرة رمل فى صحراء لا نهاية لها؟!.
ارحمونا من التطرف والعنف والتهديد بالتكفير والنار والوعيد، فخالق الكون مهما كان الدين رحمن رحيم، وما نحن سوى جزء من مليارات خلقه لسبب لم نعرفه بعد.
د.صفوت مبارك, Magda Mamdouh and 53 others
8 comments
5 shares
Like
Comment
Share