تطور الإنسان بين العلم والإيمان
حسام بدراوي
حضرت حوارًا حول نظرية التطور والمفهوم الدينى الثابت عبر التاريخ، والخلط بين الكتب السماوية والتفسير العقلانى لجُمَلها ومُفرداتها.
ألِفتُ النظر إلى أهمية أن نفهم أن تفسير ما أنزله الله يتغير عبر الزمن بتطور نضوج جمعى لعقل الإنسان، فما كان يستوعبه العقل الإنسانى منذ أكثر من ألف سنة غير ما نستوعبه الآن.
أتصور أن الإدراك الذاتى بالعقل هو قدرة الإنسان وأعظم ما يميزه به عن باقى خلقه، فالعقل والتفكير هو معجزة الخلق فينا، وأعتقد أن الدين وبالذات الإسلامى يحرضنا على إعمال العقل والتفكير والبحث والعلم.
عندما أطلق «دارون» فرضيته بتطور المخلوقات عبر بلايين السنين عن طريق الانتقاء الطبيعى، كان بحثه يدور ببساطة حول ثلاثة مبادئ أساسية: التكاثر، والطفرات، والانتقاء الطبيعى (البقاء للأصلح).. ولكن ارتطمت النظرية العلمية بمعتقدات رجال الدينين المسيحى واليهودى بفهمهم الذى ارتبط بتفسيراتهم المحدود بزمنهم لمحتوى كتبهم الدينية، وكذلك المسلمون الذين ساروا على نفس المنهج.
نفس حائط تكذيب أن الأرض ليست مركز الكون، أو أننا كوكب يدور حول الشمس.. وغيرها من الإثباتات العلمية التى أُعدم من قالوا بها بعد اتهامهم بالهرطقة والكفر فى الغرب.
التفسيرات إنسانية وليست مقدسة، ولابد للبشرية أن تنضج، وتعتبر تراكم المعارف فى فهمها، ولا تقف عند مرحلة طفولة العقل الجمعى للبشر، وهو تفسير أجداد أجدادنا لمحتوى الكتب الإلهية، وربما لرمزيتها.
السؤال الدينى الفلسفى العلمى: هل بداية الخلق التى ترمز لها الأديان باسم العَلم «آدم» خُلق كما نراه الآن خلقًا كاملًا؟!، يعنى أمسك الخالق قطعة طين ثم عجنها فى يده ونفخ فيها، فإذا بها آدم!!.. هذا ما يقوله المتشددون المتمسكون بتفسير القدماء.. «إن آدم خلق على هيئته»، ويؤكدون أن نظرية التطور تخالف الكتب السماوية قولًا واحدًا، فلا مجال للنقاش ولا يمكن تصديق أن الإنسان نتاج لتطور من المخلوقات التى كانت أدنى مرتبة.
حاولت أن أجد من أين أتى هذا اليقين لدى علماء الأديان.. وبالرجوع إلى العقل، وجدت أن حُجتهم تتناقض مع ما جاء فى القرآن الذى يؤكد أن الإنسان لم يُخلق دون تطور.. وأتعجب من الوضوح الذى تجنبه المفسرون عبر التاريخ.. فالقرآن يروى قصة مختلفة تمامًا عن خلق الإنسان، قصة يتم فيه الخلق على مراحل وأطوار وزمن إلهى مديد. فالقرآن يقول إن الإنسان لم يخرج من الطين مباشرة، وإنما خرج من سلالة جاءت من الطين:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ».. (المؤمنون- 12)
وإن الإنسان فى البدء لم يكن شيئًا يذكر:
«هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا».. (الإنسان- 1)
وأن خلقه جاء أطوارًا:
«ما لكم لا ترجون لله وقارًا. وقد خلقكم أطوارًا».. (نوح- 13، 14)
معنى ذلك أن هناك مراحل بدأت بالخلق ثم التصوير.. ثم التسوية ثم النفخ.. و«ثم» بالزمن الإلهى معناها ملايين السنين:
«وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون» (الحج- 47).
انظر إلى هذه المراحل الزمنية للخلق كما ذكرها القرآن:
«وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون». (السجدة- 7،8،9).
.. فالإنسان إذن نهاية سلسلة من الأطوار وليس بدءًا مطلقًا على طريقة خلق مباشر.
قلت لنفسى: ولماذا إذًا هذا الرفض القاطع من بعض رجالات الأديان؟، وهل يختلف ذلك عما يقوله العلم الحديث فى نظريات التطور..؟
فى الحقيقة لا.
* أما فى قصة آدم نفسه، فلنا أيضا أن نفكر ونعيد صياغة فهمنا، وليتحمل القارئ فهمى.
حسب المعتقد الدينى ورواياته، فإنه عندما خلق الله آدم ليسكن الأرض خليفة له، قال للملائكة اسجدوا لمخلوقى، تساءلوا: لماذا يَخلق من يفسد فيها ويسفك الدماء وكأنهم رأوا المشهد من قبل. (هل يمكن أن تكون هناك عوالم وأكوان أخرى كما يقول العلم الآن أو أن تكون دورة الخلق تتجدد، لذلك يصف الملائكة الذين يعيشون فى بعد مختلف عن البشر الأمر لأنهم شاهدوه من قبل؟!).
إلا أن الله علَّمه الأسماء، وجعل له ميزة العقل والقدرة على التمييز والاختيار ليكون مختلفًا عن باقى خلقه.. أى أن ميزة الإنسان فى هذا الزمن وهذا الكون هى قدرته على الاختيار صوابًا أو خطأً.
وعندما أدخله «عز وجل» الجنة ومنع عنه الأكل من الشجرة المحرمة، فقد وضع أمامه الإغواء والاختيار فى مقابل الطاعة.
والغريب أنه لا يوجد فى أى نص قرآنى أن حواء هى من أَغوت آدم للأكل من الشجرة المحرمة، كما تقول الأساطير، وهو التفسير الذكورى المتواتر لإنقاص قيمة المرأة وشيطنتها عبر التاريخ.
المهم أنه لما قرر آدم استخدام حقه فى الاختيار وأكلَ من الشجرة المحرّمة عليه، اكتمل خلقه فأنزله الله إلى الأرض كما كان المقصود من خلقه ابتداءً.
قيمة الإنسان فى قدرته على الاختيار، حتى لو كان غير صحيح.
لو لم يقم بهذا الاختيار لَمَا نزل، وما كان لخلق الإنسان أن يكتمل ولا أن يتناسل ويُعمّر الأرض.. أى أن نزول آدم وزوجه إلى الأرض كان اكتمالًا لخلقهما الذى يفرقهما عن باقى المخلوقات التى تتم قراراتها بتوجهات جينية موضوعة فى تكوينها ولا اختيار لها، كالملائكة فى السماء، والطيور والحيوانات والحشرات والأسماك.. وغيرها من المخلوقات فى الأرض، وليس عقوبة لهما كما تتواتر التفاسير الدينية.
هذه وجهة نظر.. والله أعلم.
الحقيقة أن كثيرًا من الناس، اليوم، لا يرون فى رواية التكوين عن آدم وزوجه أكثر من قصةٍ رمزيةٍ، ويوافق حتى بعض من علماء الكاثوليك والبروتستانت واليهود والمسلمين على هذا الرأى. ورغم أن معظم تفسيرات المفسرين، حسب زمانهم للأديان لبدء البشريّة، يتعارض مع التّاريخ والعلم، وهو ما خلق صراعًا بين الفلسفة والعلم والدين عبر العصور، فإن زيادة المعرفة قد تفسر الكثير.
«الميتوكوندريا» هى جُسيم صغير جدًا، وهى مصنع الطّاقة فى كل خليّة حية، وقد أثبت العلم بما لا يدع مجالًا للشك أن چينات هذا الجسيم لا يمرّ سوى من الأمهات إلى أطفالهنّ؛ أى أن طاقة الإنسان ذكرًا كان أو أنثى تأتى من الأم فقط وليس الأب.. والعلم والتكوين الچينى يؤكد ذلك، أى أن المرأة ليست فقط هى أصل الحياة بل سبب استمرارها.
أصِلُ الآن إلى البحث الذى حصل على جائزة نوبل هذا العام، والذى أثبت بدراسة الچينوم لبقايا بشر أنه كانت هناك فصيلة أخرى من البشر تعيش فى أوروبا اسمها النياندرثال (Neanderthal)، وهذه الفصيلة كانت مختلفة عن جنسنا البشرى المسمى الهوموسيبيان (homo Sapiens)، ومنذ حوالى 40 ألف سنة، وعندما حدثت طفرة چينية فى فصيلة الهوموسيبيان للذين كانوا يعيشون فى شرق إفريقيا وأصبحت لديهم القدرة على الخيال، جعلتهم تلك الطفرة أكثر تطورًا وفضولًا وذكاءً، فتحركوا وسافروا ووصلوا إلى الشرق والغرب عن طريق مصر، واختلطوا بفصائل بشر أخرى كانت تعيش فى أوروبا والشرق الأقصى، وربما فى أماكن أخرى من الكرة الأرضية، واختلطوا بهم وتزاوجوا.. إلا أن هذه الفصائل اندثرت، لأنها كانت أقل تطورًا، ولم تحدث فيها نفس الطفرة الذهنية التى حدثت لفصيل الهوموسيبيان الآتى من شرق إفريقيا.
الحائز جائزة نوبل هذا العام 2022 فى علم وظائف الأعضاء السويدى «سفانتى بابو» أثبت وجود ما بين 2 و5 بالمائة من چينات أشباه البشر فى بعض البشر الذين يعيشون الآن فى أوروبا ونوع آخر من الفصائل البشرية كان يعيش فى الشرق الأقصى.. أى أن العلم يثبت قطعًا نظرية التطور والقفزات الچينية التى حدثت لأجداد البشر منذ آلاف السنين.
ما أجمل العلم مع الإيمان