المتنبـي .. والعقاد
بين الحكمة وجمال الكلمة
بقلم
حسام بدراوي
تستهويني معرفة أصول وتعريف ما نردده من جُمل ، و تحليل الكلمات التي يتجادل أحياناً كثيرة حولها وفيها المجتمع وكلٌ يقصد معانٍ مختلفة. و أحاور شباب الحالمين بالغد ، وأصدقائي في ذلك . وفي واحدة من هذه الحوارات ترددت جُمل وحِكم ، عبقرية تلخص أمور الحياة ، وتوضح في سطور ما قد يكتب عنه الآخرين في صفحات ، و لا يعرف الناس من أين أتت. جمل نقولها ولا ندري أصلها، مثل:
”تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ” و ”مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ ”و عبارات أخرى كثيرة نستخدمها في حياتنا اليومية دون أن يدري أغلبنا أنها أجزاء من أبيات شعرية من الأساس، ونتاج أعمال أدبية محترمة.
فالعشرات من أبيات المتنبي بالذات ،أصبحت مع الزمن أمثالاً و حِكماً يستخدمها العارف و الجاهل على حدٍّ سواء. و أشارككم بعضاً من أبيات شعر المتنبي يختفي وراء كل منها قصةً و عبرة وتلقي بظلالها علي حاضرنا .
فالعبارة الخالدة ”يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم” لا تعدو كونها جزءاً من قصيدة للمتنبي كانت موجهة لحاكم مصر في عهده ، يهجو بها وضع أمة العرب قبل ألف عام ، ولكن وكأنها تقال اليوم…
”أغايةُ الدينِ أن تُحفـوا شواربكم يـا أمةً ضحكت من جهلهـا الأمـمُ
و فيما يلي بعض الأبيات التي تحوي سطوراً ذهبية نعرفها جميعاً ولا يعلم أغلبنا أنها أقوال المتنبي مثل:
مـا كلُّ مـا يتمنـى المـرءُ يدركهُ تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
و من قصائد أخرى نجد له :
”لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى
حتـى يراقَ على جوانبـهِ الدّمُ”
وأبيات من حكمة الحياة مثل:
ـ ” إذا أتتـكَ مـذمتـي مـن نـاقـصٍ فهـي الشهـادةُ لـي بأني كاملُ”
ـ “من لم يمت بالسيفِ ماتَ بغيرهِ تعددتِ الأسبابُ و الموتُ واحدُ”
ـ “ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ و أخـو الجهالة في الشقـاوة ينعـمُ”
ـ “بـذا قضتِ الأيامُ ما بين أهلها مصـائبُ قــومٍ عند قـومٍ فـوائِـدُ”
و من قصيدة يخاطب حاكم البلاد يقول:
ـ “يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيـكَ الخصامُ و أنتَ الخصمُ و الحكمُ”
وكأنه يتكلم عن الفصل بين السلطات الذي نطالب به اليوم.
ويعبر عن حكمته قائلا:
“إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قَدِروا …. . ألا تفارقَهمْ فالراحلون همُوْ
”يا مـن يعـزُّ علينـا أن نفارقهـم وجـداننـا كــل شــيءٍ بـعـدكــم عــدمُ”
ربما كان المتنبي يعرف أنه سيُذكر بعد أكثر من ألف وخمسين عاماً على وفاته وربما للأبد، حين قال ونردد:
”إذا أنـتَ أكـرمـتَ الكـريـمَ ملكتَــهُ
و إن أنـتَ أكـرمـت اللئيــمَ تمـرّدا”
ويعبر عن كبرياءه وعزة نفسه وثقته عندما يقول :
”و ما الدّهرُ إلا من رواةِ قصائدي إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ”
ويقول بذكاء الخبير بالحياة:
”إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ”
ويقول:
”إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ صَغيرٍ كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ”
وينشد المتنبي قائلاً:
”إِذا الجودُ لَم يُرزَق خَلاصاً مِنَ الأَذى فَلا الحَمدُ مَكسوباً وَلا المالُ باقِيا”
ويقول:
”كُلُّ السُيوفِ قٍواطِعٌ إن جُرِّدَتْ وحُسامُ لَحظِكَ قاطِعٌ في غِمْدِهِ”
وتعليقاً علي الحوار أرسل لي صديقي د. محمود حمزه العليم باللغة ، الشغوف بالأدب والشعر ، وشريكي في العمل مع التلاميذ والشباب في التعليم أولاً ، مشاركاً، قائلاً:
لم يكن المتتبي إلا تعبيراً حياً عن وضع المجتمع العربي فى القرن الرابع الهجري بكل مافيه من تشتت وانقسام وزيف ديني ربما نعاني منه حتى الآن، وبرغم رؤية المتنبي الشعرية التى صدرت فى أغلب الأحيان عن موقف أو مصلحة شخصية إلا أنه عبر بصدق عن حال أمتنا العربية فى لغة دقيقة معبرة فاستحق شعره أن يملأ الدنيا ويشغل الناس.
ويضيف “لقد كانت حكم المتنبي خلاصة تجربة حية متأججة لم تتوقف يوماً عن الصراع من أجل الوجود، ولقد كان شعره قطعة من ذاته فلم يجد المجتمع العربي أدق من تلك الأبيات لتعبر عن خلاصة التجربة الإنسانية فى كل زمن وفي كل عصر”.
ولأنني أظن أن العقاد من أكثر المفكرين والكتاب قدرة على فهم دخائل العظماء والأبطال، وامتلاك مفاتيح شخصيتهم، والكتابة عنهم، والترجمة لحياتهم ببراعة فائقة تجمع بين ذائقة النحل في الانتقاء، وصبر النمل في التحليل، وإعادة بناء ورسم وإبراز مقومات وسمات الشخصية، فقد بحثت عن رأيه في المتنبي وما كتبه عنه.
يقول الأستاذ العقاد وأشاركه ”أن الحياة نفسها عمل فني صاغته يد الفن الإلهي، وتحكمه الأصول الفنية ذاتها التي تحكم بيت الشعر واللحن الموسيقي وصورة الرسام، فالغاية القصوى لهذه الحياة هي الجمال والتحرر من القبح”
ولقد وجدت أن كل منهما ” المتنبي والعقاد” صاحب عقل قلق جبار ، عظيم الثقة في النفس، مفرط في الاعتزاز بذاته ومواهبه وقدراته، كما أن كلاً منهما كان علامة مميزة في عصره، وشغل الناس من بعده بشخصيته وحياته وأعماله.
“المتنبي لم يكن ملكاً ولا أميراً ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، وهو الرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات”.
واستغنى المتنبي وكذلك العقاد بفكره وأدبه عن كل منصب وجاه، وكل صاحب سلطان، فعاشا وماتا عظيمان في نفسهما وعند أبناء عصرهما.
كان العقاد يسمي المتنبي بـ الشاعر العظيم أو الرجل الفرد الذي نظم في ديوان ما تزنه الحياة من تجارب.
قال شاب من الحالمين : ولماذا الأستاذ العقاد كما تحب أن تناديه؟
قلت: لأنه كان مُلهما لي بقوته في الحق واعتداده بكرامته ، وأسلوبه القوي ومعرفته الموسوعية وهو الذي لم يكمل في تعليمه الا المرحلة الابتدائية..
الاستاذ كان صاحب فكر ومواقف، لغته العربية شامخة ، وحجته عاتية وقدراته العقلية شاملة.
وكما كان أديبًا عظيما كان شاعراً متفرداً ، وكنت قد قرأت له قصيدة ترجمة شيطان ، وانبهرت بدمجه الفكر الفلسفي في الشعر بهذه العبقريه ، وبعدها تعرفت علي رومانسيته في الشعر ، وكأن هذا الجبل القوي وراءه نفسا حساس وقد جعلني ذلك منفتحا علي تزاوج القوة مع اللين ، والحدة مع المحبة ، والحكمة مع البساطة عندما يقول
”الناس تغيظهم المزايا التي تنفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا… إنهم يكرهون منك ما يصغرهم، لا ما يصغرك”
ويقول” لا تحسدن غنياً في تنعمه فقد يكثر المال مقروناً به الكدر
تصفو العيون إن قلت مواردها ، والنيل عند إزدياد الماء يعتكر”
وأستلهم د. زكي نجيب محمود في قوله : “إن شعر العقاد هو البصر الموحي إلى البصيرة، والحس المحرك لقوة الخيال، والمحدود الذي ينتهي إلى اللامحدود، هذا هو شعر العقاد”.
شعر العقاد أقرب شيء إلى فن العمارة والنحت، فالقصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى هرم الجيزة أو معبد الكرنك منها إلى الزهرة أو جدول الماء، وتلك صفة الفن المصري الخالدة، فلو عرفت أن مصر قد تميزت في عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة عرفت أن في شعر العقاد الصلب القوي المتين جانبا يتصل اتصالا مباشرا بجذور الفن الأصيل في مصر.
العقاد والمتنبي يثريان العقل والوجدان بالكبرياء ، وجمال الكلمة والتمكن من ناصية اللغة وسلاسة المنطق والحكمة التي تقول في سطور ما يحكيه الآخرين في صفحات.