علي مقهي “الحالمون بالغد “
”أكتوبر…. درس الماضي لبناء المستقبل “
بقلم حسام بدراوي في ٢٠٢٣/١٠/٤
(صورة المقالة لأخي حمدي بدراوي الذي عاد من بعثته في اوكسفورد للحصول علي الدكتوراه وانضم كغيرة من حملة المؤهلات العليا من المجتمع المدني الي الجيش عام 1971 ليرفع علم بلاده بالعلم)
كعادتي في شهر أكتوبر أتواصل مع شباب الحالمين بالغد ومنهم شباب أسرتي والعاملين معي في جمعياتي الأهلية ، وبالذات جمعية تكاتف والتعليم أولا ،وجمعية نشر الثقافة والمعرفة، بالإضافة الي طلبتي في الجامعه .
في حواري الأخير معهم تكلمنا فيه عن نصر أكتوبر العظيم قلت لهم :أن يوم السادس من أكتوبر هو أعظم أيام حياتي، لأن من لم يعيش مهانة هزيمة )٦٧ (لا يستطيع تذوق جمال وأثر وقيمة (٧٣).
كنت في بكالوريوس طب القصر العيني، وكل واحد فينا كان له أخ او أب او صديق أو قريب في الجيش يحارب من أجل كرامة البلاد. كنا نتجمع حول الراديو تقشعر منا الأبدان ونحن نسمع البيانات العسكرية الرزينة الحقيقية ، علي عكس ما كان يحدث في )٦٧(. تعلم الإعلام من أخطاء الماضي وكان صادقاً مع الشعب ، وتعلم قادة البلاد من الشعب المصري العظيم وكانوا علي مستوي المسئولية..
قال لي واحد من الشباب اللذين ولدوا بعد هذا اليوم بأكثر من ثلاثين عاماً :
مش قوي كده يا دكتور حسام، هناك كتب ومقالات تقول أن مصر لم تنتصر في هذه المعركة أساسا. نُصدق من؟!
وقال آخر : ما أنتم قلتم كذلك علي حرب ) ٥٦ (وظهر في الآخر أنه لم يكن نصراً ، وأن إسرائيل إحتلت سيناء بعدها لولا تدخل الولايات المتحدة ، وإجبارها علي الإنسحاب.
قلت : هذا كلام غير صحيح ، لأن المعركة الحربية تُعرف نتائجها بمن فرض إرادته علي الآخر.
في )٥٦ (مصر فرضت إرادتها علي إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وكل بلد تستخدم ما لديها من جيوش ودبلوماسية لتحقيق الغرض.
مصر في نهاية الحرب فرضت سيطرتها علي قناة السويس وإستعادت سيناء ، إذن نتيجة الحرب كانت انتصارً لمصر ، واستقالة لرئيس وزراء بريطانيا العظمي.
أما في )٧٣(، فقد كنا نعتقد أساسا ، والعالم كله يؤكد، إستحالة عبور قناه السويس واختراق خط بارليف ، الذي أُعتُبر في وقتها أقوي خطوط الدفاع في تاريخ الحربية العالمية، مع تفوق تكنولوچي و إستراتيچي للطيران الإسرائيلي. لقد كان إيمان العالم أن هذا وضعاً نهائياً لن يتغير .
ماذا حدث في النهاية هو عبور قواتنا بتنظيم وقيادة حكيمة ، وتغيير الوضع العسكري المستقر، ثم التفاوض من وضع القوة وليس الهزيمة.. كل ما حدث بعد ذلك هو فتح قناة السويس للملاحة العالمية، وعودة أهالي بورسعيد والإسماعيلية والسويس المهجرين ، وإستعادة سيناء.
حرب أكتوبر كانت جزء من استراتيچية متكاملة لاستعادة الكرامة والأرض ، بتوافق العمل العسكري مع الدبلوماسي والقانوني لإسترجاع آخر نقطة في طابا، وأصبحت سيناء كاملة في حيازة مصر مرة أخري.
قالوا: ولكنه تم تحديد عدد قواتنا في سيناء وإستعادة سيناء بهذا الشكل كانت تعتبر منقوصة..
قلت: أنا وأنتم نذهب لطابا وشرم الشيخ و سانت كاترين وكل شبر في سيناء، وإلى أن بدأ الإرهاب الإخواني الداعشي بعد ٢٠١١ كنا نذهب للعريش ونجول في سيناء كما نريد.
كل مكسب له ثمن ، ولابد أن نفهم ذلك وندرك أن الجولان لا تزال تحت الاحتلال المطلق بعد حوالي ستين سنه ،وأن الضفة الشرقيه كذلك. بل أن إسرائيل بصفاقة أعلنت ضم الجولان إليها وبدأ العالم يعترف لإسرائيل بملكيتها وها هي أمريكا تعلن ذلك أيضا.
لا تجعلوا المُحبِطين الذين لا يرون سوي الهزيمة ينقلون إليكم طاقتهم السلبية.. مصر انتصرت ، حرباً وتفاوضاً، وغَيرنا واقع جغرافي وتاريخي كان من الممكن أن يصبح أمرا واقعاً الي الآن.
قالوا : نحن نشك في الحقيقة من كثرة المزايدات حول الأحداث التي نعيشها فكيف بأحداث الماضي !!!!.
قلت: معكم حق، وعليكم واجب…
أنا أتفق معكم أن المزايدات الإعلامية والنفخ في الانتصار وتخبئة الأخطاء وكأننا ملائكة وسوبرمان تشكك في الحقائق.
بل أن بعض الطرح الذي كَيَف النصر وأرجعه الي ملائكة نزلت لتقف مع الجيش وكأن جلال النصر يعود لغير ضباطاً خططوا وجنوداً نفذوا وشعباً أفرز أفضل ما فية ليحقق نصراً.
واجبنا أن نبحث أيضاً ، ونقرأ مذكرات أبطالنا وأعداءنا ونُعمل عقولنا. الحق أن جيشنا وشعبنا إنتصرا بعد هزيمة، وأننا لم نستسلم، واستعدنا الأرض بعد ٦ سنوات من الإحتلال الإسرائيلي ، وكرر الشعب موقفه الحضاري برفضه الإحتلال الإخواني للبلاد بعدها بأربعين عاماً في ٣٠ يونيو وكنا نظنه أبدياً لا قدر الله.
الحقيقة ، أن الجيش إستعان بالمؤهلات العليا من المجتمع المدني فإرتفع مستوي أدائه، ودخل العلم جنباته ، وأن الشعب بالرغم من قلقه ، ونفاذ صبره، وهجرة ربع سكانه داخلياً ساند جنوده وغالب آلامه وانتصر.
إنني أود أن أذكر لكم مره أخري أن يوم ٦ أكتوبر هو أعظم يوم في حياتي فعلاً، حيث فوجئنا بأن جيشنا يعبر ويحقق نصراً، وشعوري بالفخر والزهو لا أنساه. الكل تطوع علي قدر قدراته ومصر إنتصرت فعلا.
قال شاب آخر: هل تصدق يا دكتور أن كثير من زملاءنا لا يعرفون حتي خريطة الأراضي التي مازالت تحتلها إسرائيل .
قلت : ملحوظتك جعلتني اذكركم أنني كلما قرأت بيان بالأراضي العربية التي لا تزال تحت الاحتلال الاسرائيلي أجدها تتناقص في ذاكرة الإعلام اليومي و الدوري ،فلم يعد يُذكر سوى الضفة الغربية أما الجولان و مؤخراً القدس كلها، ومنابع نهر الأردن وقري من جنوب لبنان و باقي قرى ووديان فلسطين التي توسعت و تتوسع عليها المستوطنات الاسرائيلية- أقول تكاد- تسقط من الذاكرة الاعلامية للأسف، بل أن هناك تقسيماً يحدث في سوريا نفسها ما بين تركيا وإسرائيل والتقسيمات العرقية. لقد ابتعدت الجولان من مرمي البصر وكان ممكن أن يحدث ذلك لسيناء أيضاً.
إن من عاش ويتذكر اكتوبر ٧٣ لابد ان يكون الآن عمره فوق الخمسين عاما ، ويجب أن يكون تدريس حرب أكتوبر في مناهج التعليم مبني علي رؤية علمية وليس اجتهادات كلامية بمزايدات تجعل الطلبة لا تصدق الحقائق بعد ذلك.
هناك بطولات لا يُحكي عنها كثيرا ،كبطولة الشعب المصري الذي عاد جيشه مهزوماً هزيمة قاسية ومذلة في ٦٧ ، مما إضطر رئيس البلاد للاستقالة كنتيجة للفشل. لم يقبل الشعب الاستقالة، ليس تأييداً للشخص ، كما رأيتها في ذلك الوقت ، بل كرمز لعدم قبول مصر الهزيمة.
وأتذكر نكتاً واستهزاءاً بالجيش المصري في العالم كله، والبلاد العربية ،بل أصبح الزي العسكري المصري مجال الاستهانة بالقول والفعل ، مع مذلة هجرة مواطنين يعيشون علي خط القناة الي داخل البلاد بالملايين.
هنا ظهر معدن حضاري للشعب المصري الذي قاوم الموجة السلبية الموجهة الي الجيش ورفع روحه المعنوية، واشترك كل صاحب شهادة متعلم في الجيش بدون معرفة وقت خروجه للحياة المدنية وتقبل الشعب مهاجري وطنه ، في منازلهم ومدارسهم ، وأعاد هذا الشعب لجيشه هيبته ومقامه.
هذه معركة لا يتكلم أحد عنها ولا توجد لها ذكريات.
شعب مصر أحيا جيشه بعد الهزيمة وجيش مصر أحيا شعبه بانتصاره في أكتوبر.
علينا أن نعلم أن هناك دروس مستفادة نتذكرها ونذكرها في أكتوبر.
أولها: أن الجيش والشعب منظومة واحدة ، ولولا مسانده المجتمع المدني لقواته المسلحة ما كان النصر ، وكل محاولات تقسيم البلاد بفصل الجيش عن الشعب وتقسيم الشعب الي فئات أيديولوچية ودينية وجغرافية ستفشل بالوعي الحضاري لهذا الشعب العظيم..
ثانيها : أننا لو كنا دخلنا حرب أكتوبر بدون تغيير جوهري في مفهوم إدارة المؤسسة العسكرية ، والتنسيق بين المدنية والدبلوماسية والعمل الحربي ، ما كان النصر. لقد تعلمنا وقتها أنه لا يمكن تكرار فعل نفس الشئ بنفس الطريقة وانتظار نتائج مختلفة ، فتغير مفهوم العمل العسكري الذي قاد للهزيمة الي مفهوم جديد قاد للنصر.
ثالثهما : أنه لا نصر بدون أخطاء وتضحيات ، وما لا يُوثق فكأنه لم يكن . وكما نحلل الهزيمه علينا أن نحلل النصر. كانت هزيمة ٦٧ قاسية قاسية قاسية، ولكن حدث التغيير وتراكمت الخبرة ليحدث نصر ٧٣.
عندما حدثت حرب ٦٧ كنت في الثانويه العامه ، وكنا كشباب تحت إحساس كاذب بالقوة وفي إنتظار دخول تل أبيب في نهاية يوم ٥ يونيو. خَدعنا النفاق للسلطة ، وخَدَعنا الخوف من إبداء الرأي الحر ، وكان الشعب في حالة نشوة كاذبة الي أن أفقنا وجيشنا يعود هرباً ، والعدو في سماء القاهرة.
درسٌ لا أنساه ، خلق في وجداني السياسي رفضاً لأحادية الفكر ، أو تصديق ما ليس له برهان. خلق في تركيبتي العقلية رفضا للنفاق ورغبة في الشفافية والإفصاح.
درساً افكر فيه الآن في عام 2023 بعد خمسين عاماً من حرب اكتوبر ، وبعد 56 سنة من هزيمة مروعة للجيش المصري ووقفة رائعة لشب مصر في مساندة بناؤه وعودة الكرامة اليه. هزيمة مصر اليوم لن تكون عسكرية بل فكرية واقتصادية وسياسية وأربأ بجيش مصر أن يتسبب فيها بدخوله طرفاً في الحكم المدني وفي الاستثمار والاقتصاد وفي إعاقة تداول السلطة السلمي مما قد يوجه غضب الشعب الي المؤسسة العظيمة التي كانت وستظل حامية الوطن.
يا أولادي درس اكتوبر كبير ويمكن تطبيق نتائجه اليوم بالإصرار علي تعدد الآراء ، وحريه الإعلام ، وإحترام الاختلاف الذي يُظهر الحقيقه ، والبناء لا الهدم ، والإيجابية ، والعمل كفريق يتكامل ، والإستفاده من طاقات كل مؤسسات الشعب.. ومنها القوات المسلحة بلا تخصيص ولا تمييز.
كل أكتوبر وانتم بخير……..