علي مقهي” الحالمون “
الفن والسياسة
بقلم
حسام بدراوي
سألتني واحدة من تلميذاتي :
هل الفن مفروض أن يرتقي بالناس أم يجعل فقط غير المعتاد معتاد بتكراره، أليس الأفضل أن يتجنب ما لا يقبله عموم المجتمع وخلاص حتي لا يسئ الي مشاعرهم ! ؟
هل أفلام العنف مثلا أضافت شيئاً غير أنها جعلت العنف تصرف عادي ؟
الواقع سئ ، فما هو دور الفن ؟ هو ده السؤال..
قلت: الفن خيال ورؤية أوسع وأشمل من لقطة تصور اللحظه. الفن عليه أن يقوم بالاثنين، يسجل الواقع ويرسم المستقبل بخيره وشره واحتمالاته.
قصة أن وظيفة الفن أن يرتقي بالناس صحيحة جزئيا ، ولكنها تضعه في قالب واحد ، والارتقاء بالنفس يستلزم أن تري السئ والجميل وياحبذا إن كان هناك رسالة ورسالة مخالفة . في النهاية علينا ان نختار.
الاختيار هو فضيلة الانسان.
دائما كنت أقول لتلاميذي أنا تعلمت من المَهَرة من أساتذتي ، وتعلمت من الجهلة أيضاً. كنت أساعد جراحين سيئين أحياناً وأقول لنفسي” لا يمكن أعمل زيهم” ، وكأن السؤ الذي أراه يعلمني الجيد الذي أتمناه.
مره أخري الفن ليس آلة تصوير عليها أن تصور لقطة ، ولكن الفن علية أن يري الحياة كلها بظلالها المختلفة ، ولا ينفي وجود ما لا نحب لأننا لا نريد الاعتراف بوجوده في حياتنا.. الفن يعطي الحق والفرصة لكل متابع ان يُكَون مفهومه.
الفكرة هي كيف نعد المجتمع للقيام بدوره في الاختيار.
هنا يجئ دور التعليم والاعلام في صنع نسيج قيمي محايد في النفوس.
السؤال هنا: أليس الأفضل أن لا نضع الشباب أمام اختيارات متعدده حتي لا يخطئون ؟؟..
والإجابة واضحة ، من لا يستطيع الاختيار غير مؤهل للحياة .. الذين لا يستطيعون الاختيار ، مكتوب عليهم التبعية ، والالتزام بمعتقدات من عاشوا قبلهم أو من يَركب علي عقولهم ، وهؤلاء هم جنود التخلف والإرهاب..
وأتذكر مقولة د.طه حسين في كتابه العظيم “مستقبل الثقافة في مصر” : الأمية ليست هي أمية القراءة والكتابة فقط، بل القراءة والكتابة والفهم. من يقرأ ويكتب ولا يفهم هو مطية لمن يفهم..و عبد لمن يختار له طريقة لأنه لا يستطيع الاختيار..
وأعود الي الفن الذي يفتح الأذهان ، ويثير مكامن الخيال ، باللوحة والنغمة وبالقصة والسيناريو واللقطة والتمثيل. ضَيقي الأفق فقط هم الذين يسقطون الحاجز بين الدراما والواقع،ويحاكمون الفنان مثلاً علي مهارته في تقمص الشخصية التي يكتبها المؤلف .
فهل كان فريد شوقي مجرماً كإنسان لأنه تقمص شخصية الشرير في أفلامه، وهل نضع محمود المليجي في دائرة قساة القلب ورؤساء العصابات. هل نحاكم بأثر رجعي فاتن حمامة علي حبها لعمر الشريف وهي متزوجة من زكي رستم في فيلم نهر الحب ، أم نزيل أحمد مظهر من تاريخ السينما لأنه كان المهندس الذي أغري الفتاة الصغيرة في فيلم دعاء الكروان.. أم علينا محو أفلام هند رستم لأنها ظهرت كفتاة ليل ، في بعض أفلامها أو رقصت مع فريد الأطرش في القطار في فيلم إنت حبيبي ، وننفي مصرية عبد الحليم حافظ لأنه غني أغنيته الخالدة “ياقلبي خبي” وهو يشرب الخمر في الكباريه.
والأدهى وبنفس المنطق علينا اخراج الاستاذ العقاد من قبرة لمحاكمته علي كتابة قصيدة ترجمة شيطان وتخيل فيها حواراً بين الله عز وجل والشيطان ، والذي أعطاه عليها الدكتور طه حسين إمارة الشعر وهو المتهم أيضا بالكفر لكتابته كتاب الشعر الجاهلي الذي إستخدم فيه منطق ديكارت في الشك قبل التحقق. .
الفن ياسادة لا يعبر عن ما في رأي كل واحد فيكم من معتقدات ، بل يطير بالأفكار والخيال عبر الزمن والأحداث.
قرأت للإمام الشيخ محمد عبده عام ١٩٠٣ عن الفن التشكيلي والتمثيل والموسيقي يقول إن الرسم ضرب من الشعر الذي يُري, أما إذا نظرت إلي الرسم وهو ذلك الشعر الساكت, فإنك تجد الحقيقة بارزة لك, تُمتع بها نفسك كما يَتَلذذ بالنظر فيها حسك.
إن الفن يحيي الجمال في النفوس، والجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى في كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام ذو مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط، ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الوجدان، وإن لم يستطع التعبير عنها في أغلب الأحيان. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات لدى الإنسان: قدرة الإحساس ، وقدرة التعبير .، و كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات، ويبقى التفرد في الفن للمواهب الخاصة التي ينفرد فيها إنسان عن الآخر.
الحرية تتيح للفنان الإبتكار والإبداع بلا خوف ، وأحيانا يصبح الكبت و الظلم دوافع للفنان للإبداع للخروج من حلكة الظلام حوله…
والسؤال التالي جائني من واحد من آلشباب الذين يحاوروني : وما علاقة الفن بالسياسة ..
وأضاف زميله: هوه حضرتك بتشتغل إزاي في السياسة وأنت في جوهرك عالِم وفنان؟
قلت :مع إحترامي للجميع ، فإذا لم يتوافق العمق الثقافي مع السياسة ، لكانت مصيبة.. مشكلتنا الحقيقية أن الكثير من السياسيين لا خيال عندهم. الفن والثقافة والسياسة بينهم تلازم لو كان الناس يفقهون..
كذلك يرتبط الفن بالعلم فالتعبير عن الإحساس الفني يحتاج إلي استخدام العلم والتقنيات لضمان الجودة في المادة المقدمة للجمهور ، ومن ناحية أخري هناك علوم كعلم الطب يفتح للإنسان منافذ غير مرئية لغير الدارس، ويُدخل الطبيب الي عوالم جديدة طول الوقت، وفي الأغلب تنتهي به الي الفن والفلسفة.
وأقتبس من زميل لي قوله:
المثقف يقوم بوظيفة لم يكلفه بها أحد ، ومع ذلك فإن التاريخ يخبرنا بضروة ثنائية المثقف والسلطة.
وأي قرار سياسي وأى مجتمع يتخلى عن مثقفيه وفنانيه يُبْقي هذا المجتمع نزيلاً في غرفة الإنعاش””
علّقَت صديقتي الفنانة العظيمة قائلة: السياسيين الذين لا خيال لهم يقودوننا للعناية المركزة، هذه جملة عبقرية .
قلت : يا عزيزتي الخيال دخل ذهن الانسان من ٣٠ الف سنة فقط بتحور في چينات مجموعة البشر الذين كانوا يعيشون في شرق أفريقيا فتخيلوا و سافروا ما بعد البحار وتخيلوا ما في السماء وكانوا قبل هذا التغير مجرد مجموعات تعيش سويا من أجل الصيد والأكل والتزاوج.
الخيال هو أصل حضارة الانسان وكل ما يتخيله البشر قابل للحدوث وإلا ما كان .
ولعلك تلاحظين أننا نعيش في أكثر مما تخيله آباءنا وجدودنا .
والسياسة بلا خيال تصبح مجرد عمليات ضرب وقسمة وطرح، ولكن الفن والخيال يجعل واحد + واحد مساوياً لأكثر من مجموعهم الرقمي ( اثنين.).
ورسالتي الي من يريدون تحويل الفن الي نسخة واحدة من عقولهم ، وحصر الثقافة في رؤيتهم ، ويريدون استبعاد البدائل من أمام الشباب أن مصر أكبر منهم وأعمق تاريخاً من مجرد مجتمع مسطح تقوده أحادية الفكر وغوغائية الصوت العالي، وتدني التعبير في النفاق .