عندما تضع اسم د.حسام بدراوى، على محرك بحث الأخبار، ستجد عشرات النتائج من عشرات المواقع الإلكترونية المعتبرة، والتابعة لمؤسسات صحفية مهمة، تتحدث فى عنوانها عن أنه طالب بأن تكون الولاية الرئاسية فترة واحدة مدتها 20 عاما، وذلك فى جلسة عامة لمؤتمر بمكتبة الإسكندرية.
بالطبع ما جعل للخبر زخما كبيرا هو تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعى، عبر شخصيات عامة وبارزة فى مجالات الصحافة أو السياسة أو المجتمع المدنى، وكلها تحمل انتقادات حادة للرجل واتهامات متعددة، وطعنا فى سيرته، باعتباره كان عضوًا فى الحزب الوطنى، ويُعد الأمين العام الأخير للحزب، الذى حاول مبارك أن يتشبث به فى أيام الميدان، حين أطاح بحكومة نظيف، وبالأمانة العامة للحزب بتمثيلها الذى كان قائما.
بدراوى خلال حكم مبارك كان يُوصف بالإصلاحى داخل الحزب. غير مساهماته فى أفكار إصلاح وتطوير التعليم، كان يبدو متقدمًا فى قبول المعارضة والمنافسة البرلمانية الجدية ورفض الإقصاء عن نظرائه داخل الحزب، مما جعل البعض يقرأ المنسوب له عن المدة الرئاسية الواحدة لعشرين عاما، ويعلق متهكمًا على صورة هذا “الإصلاحي” الذى يزايد على عتاة المنتفعين والمطبلين والمستفيدين من النظام الحالى.
أنا واحد ممن باغتتهم الصدمة، ربما تذكرت أنه الوحيد من المحسوبين على نظام مبارك عام 2009، الذى انتقد تعامل النظام وإعلامه مع عودة البرادعى ودعوته للتغيير، بل دعا للسماح له بالعمل والتنافس، وهو الذى ما زال يسمى الأمور بمسمياتها فيصف 25 يناير بأنها ثورة، وأشياء كثيرة كانت تدعم ما يُروج عنه على الأقل فى ذهنى.
ولأنني أعرفه أرسلت له رسالة تعبر عن دهشتي، وبينما أنتظر منه ردًّا، كانت دهشتي أكبر حين فحصت الخبر المنشور فى عدة مواقع من المميزة فى تصنيف القراءة، لأكتشف تشابه النص بين هذه المواقع.
كلها نشرت العنوان بالمضمون ذاته والتركيز على فكرة “مدة رئاسية واحدة لمدة عشرين عامًا”، وبتفاصيل فى حدود خمس فقرات تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر سطرًا، وكلها تركز حول كلمة بدراوى فى جلسة المؤتمر، مما يعنى أن عدة منصات صحفية لم تجد فى جلسة مؤتمر عن “الديمقراطية” -تنظمه مكتبة الإسكندرية، وتحدث فيها أكثر من متحدث مصرى وأجنبي- ما يستحق النشر غير كلمة بدراوى.
الجلسة كان يديرها الكاتب الكبير أيمن الصياد المعروف بمواقفه الداعمة للديمقراطية والحقوق والحريات، ويشارك المنصة السياسى المعروف جورج إسحاق المعروف كذلك بمواقفه المناهضة للاستبداد والتمديد فى الحكم، فهل سكت الاثنان عما قاله بدراوى؟
لم تنقل المواقع التى نقلت كلام بدراوى أى شىء عن رد فعل الصياد وإسحاق، الأمر الذى يستوجب عتابهما إن كانا قد سمعا وصمتا.
بحدس صحفى حاولت أن أتحرى الأمر، طالما أن تحريه لا يحتاج لجهد كبير، أكثر من مكالمتين تليفونيتين، فاتصلت بالأستاذ جورج إسحاق، الذى نفى أن يكون بدراوى قد قال ذلك، ثم قرأ لى من مضبطة الجلسة التى كانت معه ما قاله بدراوى الذى تحدث عن أن أهم مشكلة تواجه الديمقراطية فى مصر هو غياب تداول السلطة، مما يخلق مصالح للمستفيدين من أى حاكم بسبب طول بقائه، لذلك اقترح ولمدة عشرين عاما قادمة على الأقل، أن تكون الرئاسة مدة واحدة لا تُجدد فى حدود 6 سنوات أو 7. مما يعنى أن تدور السلطة فى العشرين عاما بين 3 رؤساء على الأقل.
بعدها رد بدراوى على رسالتي نافيًا ما نُسب إليه، وموضحا وجهة نظره كما وردت أيضا على لسان جورج إسحاق. نصحته بتوضيح الأمر فى بيان، وأنا أعلم أن الطلقة التى تخرج من الإعلام هذه الأيام لا تعود، ولا بد أن تجرح.
لكن ما لفت نظرى هو حديث بدراوى عن “سوء نية” يكاد يكون متعمدًا فى نقل حديثه، خاصة أن خبر توضيحه لم يطغ على حجم انتشار الخبر الأول المكذوب، ولا على تداوله وتعليقات الناس عليه.
لكن الخبر منشور فى عشرات المواقع، فهل كل محرريها “سيِّئوا النية” ويكرهون بدراوى؟
الحقيقة أننى لا أميل أبدًا إلى تفسير “سوء النية”، وهنا الحديث عن الصحافة وليس عن بدراوى، فالأرجح أن المسألة “سوء فهم”.
قال بدراوى ما قال، وهكذا وصل إلى عقل من دوَّنه وأرسله للنشر، فهل كل محرري المواقع التى نشرت بذات العقلية ومستوى الفهم، بحيث لم يصادف أن نقل أحدهم التصريحات الدقيقة كما وردت فى محضر الجلسة؟
الحقيقة أن هذه هى الكارثة الكبرى.
لأن كل هذه المواقع اعتمدت على محرر واحد على الأرجح، إما لأنها وبسبب سخونة العنوان وجذبه للقراء وأمام ضغط الترافيك والبحث عن المشاركات، “اقتبست” من بعضها مع تعديلات طفيفة جدا فى الصياغة، حتى تدخل سباق النشر، وإما أن محررا واحدا يراسل أكثر من موقع فى ذات الوقت، وهى مسألة قائمة وحاصلة، وإما أن مجموعة مراسلين لمجموعة صحف، وزعوا المهمة على بعضهم بعضًا وكلفوا زميلا واحدا بحضور الجلسة ثم توزيع ما كتبه عليهم كلهم، وهو أيضا سلوك قائم بين بعض الزملاء المراسلين والمندوبين خلال تغطية المؤتمرات أو جلسات البرلمان أو غير ذلك.
كل احتمال من هؤلاء فى حد ذاته كارثة مهنية كبرى، تعنى أن فهم محرر صحفى واحد، أو طريقته فى رواية القصة، يمكن أن ينعكس على محتوى عشرات المنصات الصحفية، فتجد أمامك قصة تبدو وكأن عليها إجماعًا من منصات متعددة لمحررين مختلفين، فتتعامل معها بيقين كامل، وتتحول محاولة تصحيح معلومة واحدة إلى مستحيل رابع.