السبات الحضاري
بقلم
حسام بدراوي
الفرق بين النوم والسبات يكمن في الطبيعة الفسيولوجية، والمدة الزمنية، والأهداف الحيوية لكل منهما، فالنوم تعريفه أنه حالة يومية دورية يدخل فيها الكائن الحي لاستعادة النشاط الجسدي والعقلي.
يحدث النوم بشكل منتظم وتلقائي، ويشمل مراحل متعددة )النوم الخفيف، النوم العميق، ونوم حركة العين السريعة(
أما السبات فهو حالة طويلة الأمد من انخفاض النشاط يتم دخول الكائن الحي فيها في ظروف بيئية قاسية مثل البرد أو نقص الغذاء قد تستمر لأسابيع أو شهور، تكيفاً مع الظروف البيئية القاسية.
وفي المستقبل قد يحدث ذلك إرادياً كما في أفلام الخيال العلمي أو كما يكون قد حدث في الماضي في أساطير وقصص كأهل الكهف وخلافه.
أي أن النوم عملية ضرورية يومية لتنظيم وظائف الجسم والدماغ ، أما السبات فهو استراتيجية بقاء تستخدمها بعض الكائنات الحية للتكيف مع بيئات قاسية
تتطلب توفير الطاقة لفترات طويلة..
النوم يعتبر تغيرًا لحالة الوعى وليس فقدانًا له كما فى حاله التخدير أو الغيبوبة المرضية. إننا نقضى حوالى ثلث حياتنا نائمين، وتحدث خلال النوم العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم بصفة عامة. بعض الوظائف الحيوية تكون أنشط خلال النوم، وبلغة الموبايل التى ابتكرها الإنسان كأنها مرحلة يحتاجها الجسد البشرى لشحن بطاريته وطاقاته، ويحدث خلالها تنزيل لبعض لوظائف وتجديد للبرامج الرقمية فى المخ والكبد والأنسجة والخلايا وخلاف.
في السبات تأوي كل الوظائف الحيوية التي الركود بلا تجديد ولا نشاط.
كل ذلك يحدث للأفراد، والعلم يرصده ، والسؤال هنا هل يمكن أن يحدث ذلك للمجموعات والشعوب والأمم؟
يمكن وصف عدم إدراك أمة لخطر محدق بها رغم وضوحه واعتراف الجميع به بمفهوم مجازي قريب من “النوم الجماعي”.
في هذا السياق، النوم الجماعي لا يشير إلى حالة بيولوجية أو فسيولوجية، بل إلى حالة ذهنية جماعية من الغفلة أو التجاهل المشترك لحقيقة واضحة وخطيرة، ولكنها لفترة زمنية تعود الأمة فيها إلى الصحيان. ولكن إذا طالت المدة وامتدت فقد يكون وصفها بالسبات أقرب للحقيقة.
الخصائص التي تجعل هذا الوصف مناسبًا هو اللامبالاة الجماعية ،فمثلما يغرق النائمون في حالة من فقدان الوعي بالعالم الخارجي، يمكن أن تغرق الأمة في حالة من الغفلة الجماعية تجاه الخطر.
النوم عادة يأتي في ظروف مريحة، وكذلك “النوم الجماعي” المجازي قد يكون ناتجًا عن شعور زائف بالأمان أو الاعتماد على الآخرين لتحمل المسؤولية.
في “النوم الجماعي”، قد تكون الأمة تحت تأثير ضغوط نفسية، سياسية، أو إعلامية تجعلها غير قادرة على مواجهة الواقع، رغم إدراك أفرادها للخطر على المستوى الفردي.
كما يمكن للتنويم الجماعي أن يُدخل الناس في حالة من التصديق المشترك لواقع معين، قد تتعرض الأمة لتأثيرات تجعلها تُقنع نفسها بأن الأمور تحت السيطرة أو أن الخطر بعيد.
هناك بالعقل والعلم أسباب “للنوم الجماعي” المجازي منها التجاهل المتعمد للأخطار فقد يتجنب الأفراد أو المؤسسات مواجهة الواقع المؤلم لأن الاعتراف به يتطلب تغييرات مؤلمة أو جهودًا شاقة ، وأهمها الافتقار للقيادة الواعية لأن غياب قيادة حكيمة قادرة على توجيه الأمة نحو إدراك المخاطر ومعالجتها من أسس النجاح لأن القيادة هي عقل الأمة .
يساهم الإعلام أو الدعاية المضللة في صرف الانتباه عن الأخطار الحقيقية وإشغال الناس بأمور تافهة والعلم يقول أن الأزمات عندما تصبح متكررة، قد يعتاد الناس عليها ويصبحون غير مبالين بمخاطرها.
إن ما أصفه هنا أقرّب الي السبات منه النوم، فالوصف الأدبي والفلسفي لحالة الغفلة الجماعية تعتبر عنصراً من “السبات الحضاري”، حيث تكون الأمة في حالة ركود فكري وشعوري، رغم أنها تعيش وسط إشارات واضحة على التدهور أو الخطر. هذا المفهوم يرتبط بفقدان الإرادة الجمعية لإحداث تغيير أو مقاومة، ما يؤدي إلى نتائج كارثية إذا لم يتم كسر هذه الحالة.
الأمة التي تعيش في سباتٍ جماعي، لا تفتح أعينها رغم صيحات التحذير المتكررة، ولا تنتفض رغم اهتزاز الأرض تحت أقدامها.”
السبات الحضاري هو مفهوم عميق يرتبط بحالة الركود والتراجع التي تصيب مجتمعًا أو أمة، فتؤدي إلى تعطيل قدراتها الفكرية والإبداعية، وانحسار دورها في التأثير العالمي أو تحقيق التقدم. يمكن أن يكون هذا السبات نتيجة عوامل متعددة، بعضها داخلي وبعضها خارجي، وهو في جميع الأحوال يُعد بمثابة “نوم جماعي حضاري” يغيب فيه الوعي الجماعي عن مسؤوليات النهضة وأخطار الانهيار.
هناك أبعاد للسبات الحضاري أهمها البعد الفكري بغياب الابتكار الفكري وسيادة التقليد أو الجمود الفكري
وأقواها أثراً هو ضعف مؤسسات التعليم والبحث العلمي، مما يحد من إنتاج المعرفة.
يتلازم مع ذلك انتشار الخرافة والمفاهيم غير العلمية التي تضعف التفكير النقدي.
يضعف التماسك الاجتماعي بسبب النزاعات الطبقية أو الطائفية وانتشار ثقافة الاستسلام والخنوع بدلًا من ثقافة التغيير والمسؤولية و تراجع القيم الإيجابية مثل العمل الجماعي والإبداع.
هناك بعداً سياسياً للسبات الحضاري هو استبداد الأنظمة الحاكمة وتهميش دور الشعوب في صنع القرار وغياب الخطط الإستراتيجية والرؤى المستقبلية لدى القيادات مع التركيز على المصالح الفردية أو الفئوية على حساب المصالح العامة.
كلامي هذا لا يغفل البعد الاقتصادي الذي يتم تدريجياً جعله أسلوب حياة وهو الاعتماد على نمط اقتصادي استهلاكي بدلًا من الإنتاج والإبداع. ومع غياب العدالة الاقتصادية، يؤدي ذلك إلى تزايد الفقر واللامساواة.
إن ضعف الاستقلال الاقتصادي والاعتماد المفرط على القوى الخارجية والديون سبب في بقاء الأمم في سبات حضاري مستدام، أضيف بإيمان أن تدهور الهوية الثقافية بسبب الاستلاب الثقافي أو الانغلاق الفكري وضعف دور الفنون والآداب في التعبير عن قضايا المجتمع،و انتشار التفاهة وثقافة التسلية على حساب الثقافة الهادفة هو نمط متعارف عليه لبقاء الأمم حيث هي في سبات عميق .
إن أسباب السبات الحضاري يمكن تجاوزها هي من وجهة نظري لأن الكثير منها أسباباً داخلية يدركها من لم يناموا حتي الآن وقاوموا السبات.
إن ملامح الأمة في حالة سبات حضاري هي تتلخص في غياب الأهداف الكبرى حيث لا توجد رؤية واضحة للمستقبل أو أهداف قومية تحفز الشعوب على العمل المشترك.
وفقدان الأمة لقدرتها على التأثير في القضايا العالمية والإقليمية أو الريادة في المجالات العلمية والثقافية.
أضيف التي ذلك الاستغراق في الماضي و التركيز على إنجازات الماضي دون العمل على بناء الحاضر والمستقبل.
حين يضعف التفاعل مع المتغيرات وتصبح الأمة عاجزة عن التكيف مع التغيرات التكنولوجية أو الاقتصادية أو السياسية يكون السبات الحضاري مستتباً.
إن من نتائج السبات الحضاري فقدان المكانة الدولية و تراجع الأمة على الساحة العالمية وتصبح عرضة للهيمنة أو الاستغلال.
إن من نتائج السبات الحضاري استمرار التراجع الداخلي حيث تتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفقدان الثقة بالمستقبل و انتشار الإحباط واليأس بين الأفراد ، مما يعمق الجمود.
أنا رجل مبادر ومتفائل بطبعي وعقلي وتجربتي، وأعلم أن الأمة المصرية من داخل حالة سبات العرب هي المؤهلة لإفاقة الجميع ، فكيف يمكن للأمة أن تستيقظ؟
هناك أمثلة تاريخية على السبات الحضاري مثل أوروبا في العصور الوسطى حيث عانت من حالة لركود علمي وفكري بسبب سيطرة الكنيسة وجمودها الفكري، ولكنها خرجت من هذا السبات مع عصر النهضة الذي أعاد إحياء الفلسفة والعلم والفنون والخروج من طغيان الحكم المطلق.
كذلك فإن العالم الإسلامي دخل في عصور انحطاط بعد عصر ذهبي للحضارة الإسلامية، تراجعت الأمم فيه بسبب الفساد السياسي والصراعات الداخلية والحروب الطائفية وما زال حتي الآن من ينادي بالخلافة التي هي في عصرنا نظام أحادي السلطة بلا تداول باسم الله.
اليابان عانت من عزلة طويلة وتراجع اقتصادي وفكري، ولكنها نهضت سريعًا من سباتها بعد تبني سياسات إصلاحية في عصر الميجي (1868).
السبات الحضاري ليس قدرًا محتومًا؛ بل هو مرحلة يمكن تجاوزها بالوعي والإرادة والعمل الجاد.
يبدأ الاستيقاظ من السبات بفهم عميق للأسباب، وتحديد نقاط الضعف، ثم استنهاض الطاقات الفردية والجماعية لبناء مستقبل جديد. كل أمة تمتلك مقومات النهضة إذا تمكنت من التخلص من غفلتها، وأدركت أن التغيير يبدأ من الداخل قبل أن يُفرض من الخارج.
إنني أري مصر مؤهلة وقادرة بشبابها وعظمتها وتاريخها وحاضرها أن تقود نوبة صحيان لكل الشرق الأوسط، بل وأفريقيا، فلا يجب أن نستهين بقدرات أطفالنا وشبابنا، فلنمهد لهم الطريق ولا نقف عقبة أمام إبداعهم بكبت حرياتهم. الحرية والعدالة في إطار قانون غير انتقائي هي السبيل.