الأربعاء , 18 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / السبات الحضاري بقلم حسام بدراوي

السبات الحضاري بقلم حسام بدراوي

السبات الحضاري
بقلم
حسام بدراوي
الفرق بين النوم والسبات يكمن في الطبيعة الفسيولوجية، والمدة الزمنية، والأهداف الحيوية لكل منهما، فالنوم ‏تعريفه أنه حالة يومية دورية يدخل فيها الكائن الحي لاستعادة النشاط الجسدي والعقلي.‏
يحدث النوم بشكل منتظم وتلقائي، ويشمل مراحل متعددة ‏‎)‎النوم الخفيف، النوم العميق، ونوم حركة العين ‏السريعة‎(‎
أما السبات فهو حالة طويلة الأمد من انخفاض النشاط‎ ‎يتم دخول الكائن الحي فيها في ظروف بيئية قاسية مثل ‏البرد أو نقص الغذاء قد تستمر لأسابيع أو شهور، تكيفاً مع الظروف البيئية القاسية.‏
‏ وفي المستقبل قد يحدث ذلك إرادياً كما في أفلام الخيال العلمي أو كما يكون قد حدث في الماضي في أساطير ‏وقصص كأهل الكهف وخلافه.‏
أي أن النوم عملية ضرورية يومية لتنظيم وظائف الجسم والدماغ ، أما السبات فهو استراتيجية بقاء تستخدمها ‏بعض الكائنات الحية للتكيف مع بيئات قاسية ‏
تتطلب توفير الطاقة لفترات طويلة..‏
النوم يعتبر تغيرًا لحالة الوعى وليس فقدانًا له كما فى حاله التخدير أو الغيبوبة المرضية‎. ‎إننا نقضى حوالى ‏ثلث حياتنا نائمين، وتحدث خلال النوم العديد من الأنشطة المعقدة على مستوى المخ والجسم بصفة عامة‎. ‎بعض الوظائف الحيوية تكون أنشط خلال النوم، وبلغة الموبايل التى ابتكرها الإنسان كأنها مرحلة يحتاجها ‏الجسد البشرى لشحن بطاريته وطاقاته، ويحدث خلالها تنزيل لبعض لوظائف وتجديد للبرامج الرقمية فى المخ ‏والكبد والأنسجة والخلايا وخلاف.‏
في السبات تأوي كل الوظائف الحيوية التي الركود بلا تجديد ولا نشاط. ‏
كل ذلك يحدث للأفراد، والعلم يرصده ، والسؤال هنا هل يمكن أن يحدث ذلك للمجموعات والشعوب والأمم؟ ‏
يمكن وصف عدم إدراك أمة لخطر محدق بها رغم وضوحه واعتراف الجميع به بمفهوم مجازي قريب من ‏‏“النوم الجماعي‎”. ‎
في هذا السياق، النوم الجماعي لا يشير إلى حالة بيولوجية أو فسيولوجية، بل إلى حالة ذهنية جماعية من ‏الغفلة أو التجاهل المشترك لحقيقة واضحة وخطيرة، ولكنها لفترة زمنية تعود الأمة فيها إلى الصحيان. ولكن ‏إذا طالت المدة وامتدت فقد يكون وصفها بالسبات أقرب للحقيقة. ‏
الخصائص التي تجعل هذا الوصف مناسبًا هو اللامبالاة الجماعية‎ ‎،فمثلما يغرق النائمون في حالة من فقدان ‏الوعي بالعالم الخارجي، يمكن أن تغرق الأمة في حالة من الغفلة الجماعية تجاه الخطر.‏
النوم عادة يأتي في ظروف مريحة، وكذلك “النوم الجماعي‎” ‎المجازي قد يكون ناتجًا عن شعور زائف ‏بالأمان أو الاعتماد على الآخرين لتحمل المسؤولية.‏
في “النوم الجماعي‎”‎، قد تكون الأمة تحت تأثير ضغوط نفسية، سياسية، أو إعلامية تجعلها غير قادرة ‏على مواجهة الواقع، رغم إدراك أفرادها للخطر على المستوى الفردي.‏
كما يمكن للتنويم‎ ‎الجماعي أن يُدخل الناس في حالة من التصديق المشترك لواقع معين، قد تتعرض الأمة ‏لتأثيرات تجعلها تُقنع نفسها بأن الأمور تحت السيطرة أو أن الخطر بعيد.‏
هناك بالعقل والعلم أسباب “للنوم الجماعي‎” ‎المجازي منها التجاهل المتعمد للأخطار فقد يتجنب الأفراد أو ‏المؤسسات مواجهة الواقع المؤلم لأن الاعتراف به يتطلب تغييرات مؤلمة أو جهودًا شاقة ، وأهمها الافتقار للقيادة ‏الواعية لأن غياب قيادة حكيمة قادرة على توجيه الأمة نحو إدراك المخاطر ومعالجتها من أسس النجاح لأن ‏القيادة هي عقل الأمة .‏
يساهم الإعلام أو الدعاية المضللة في صرف الانتباه عن الأخطار الحقيقية وإشغال الناس بأمور تافهة والعلم ‏يقول أن الأزمات عندما تصبح‎ ‎متكررة، قد يعتاد الناس عليها ويصبحون غير مبالين بمخاطرها.‏
إن ما أصفه هنا أقرّب الي السبات منه النوم، فالوصف الأدبي والفلسفي لحالة الغفلة الجماعية تعتبر عنصراً ‏من “السبات الحضاري‎”‎، حيث تكون الأمة في حالة ركود فكري وشعوري، رغم أنها تعيش وسط إشارات ‏واضحة على التدهور أو الخطر. هذا المفهوم يرتبط بفقدان الإرادة الجمعية لإحداث تغيير أو مقاومة، ما يؤدي ‏إلى نتائج كارثية إذا لم يتم كسر هذه الحالة.‏
‏ الأمة التي تعيش في سباتٍ جماعي، لا تفتح أعينها رغم صيحات التحذير المتكررة، ولا تنتفض رغم اهتزاز ‏الأرض تحت أقدامها.‏‎”‎
السبات الحضاري هو مفهوم عميق يرتبط بحالة الركود والتراجع التي تصيب مجتمعًا أو أمة، فتؤدي إلى تعطيل ‏قدراتها الفكرية والإبداعية، وانحسار دورها في التأثير العالمي أو تحقيق التقدم. يمكن أن يكون هذا السبات نتيجة ‏عوامل متعددة، بعضها داخلي وبعضها خارجي، وهو في جميع الأحوال يُعد بمثابة “نوم جماعي حضاري‎” ‎يغيب فيه الوعي الجماعي عن مسؤوليات النهضة وأخطار الانهيار.‏
هناك أبعاد للسبات الحضاري أهمها البعد الفكري بغياب الابتكار الفكري وسيادة التقليد أو الجمود الفكري
وأقواها أثراً هو ضعف مؤسسات التعليم والبحث العلمي، مما يحد من إنتاج المعرفة.‏
‏ يتلازم مع ذلك انتشار الخرافة والمفاهيم غير العلمية التي تضعف التفكير النقدي.‏
يضعف التماسك الاجتماعي بسبب النزاعات الطبقية أو الطائفية وانتشار ثقافة الاستسلام والخنوع بدلًا من ثقافة ‏التغيير والمسؤولية و تراجع القيم الإيجابية مثل العمل الجماعي والإبداع.‏
هناك بعداً سياسياً للسبات الحضاري هو استبداد الأنظمة الحاكمة وتهميش دور الشعوب في صنع القرار ‏وغياب الخطط الإستراتيجية والرؤى المستقبلية لدى القيادات مع التركيز على المصالح الفردية أو الفئوية ‏على حساب المصالح العامة.‏
كلامي هذا لا يغفل البعد الاقتصادي الذي يتم تدريجياً جعله أسلوب حياة وهو الاعتماد على نمط اقتصادي ‏استهلاكي بدلًا من الإنتاج والإبداع. ومع غياب العدالة الاقتصادية،‎ ‎يؤدي ذلك إلى تزايد الفقر ‏واللامساواة.‏
إن ضعف الاستقلال الاقتصادي والاعتماد المفرط على القوى الخارجية والديون سبب في بقاء الأمم في ‏سبات حضاري مستدام، أضيف بإيمان أن تدهور الهوية الثقافية بسبب الاستلاب الثقافي أو الانغلاق ‏الفكري وضعف دور الفنون والآداب في التعبير عن قضايا المجتمع،و انتشار التفاهة وثقافة التسلية على ‏حساب الثقافة الهادفة هو نمط متعارف عليه لبقاء الأمم حيث هي في سبات عميق .‏
إن أسباب السبات الحضاري يمكن تجاوزها هي من وجهة نظري لأن الكثير منها أسباباً داخلية يدركها من لم ‏يناموا حتي الآن وقاوموا السبات. ‏
إن ملامح الأمة في حالة سبات حضاري هي تتلخص في ‏ غياب الأهداف الكبرى حيث لا توجد رؤية واضحة ‏للمستقبل أو أهداف قومية تحفز الشعوب على العمل المشترك.‏
وفقدان الأمة لقدرتها على التأثير في القضايا العالمية والإقليمية أو الريادة في المجالات العلمية والثقافية.‏
أضيف التي ذلك الاستغراق في الماضي و التركيز على إنجازات الماضي دون العمل على بناء الحاضر ‏والمستقبل.‏
‏ حين يضعف التفاعل مع المتغيرات وتصبح الأمة عاجزة عن التكيف مع التغيرات التكنولوجية أو الاقتصادية أو ‏السياسية يكون السبات الحضاري مستتباً.‏
إن من نتائج السبات الحضاري فقدان المكانة الدولية و تراجع الأمة على الساحة العالمية وتصبح عرضة للهيمنة ‏أو الاستغلال.‏
إن من نتائج السبات الحضاري استمرار التراجع الداخلي حيث تتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ‏والسياسية وفقدان الثقة بالمستقبل و انتشار الإحباط واليأس بين الأفراد ، مما يعمق الجمود.‏
أنا رجل مبادر ومتفائل بطبعي وعقلي وتجربتي، وأعلم أن الأمة المصرية من داخل حالة سبات العرب هي ‏المؤهلة لإفاقة الجميع ، فكيف يمكن للأمة أن تستيقظ؟
هناك أمثلة تاريخية على السبات الحضاري مثل أوروبا في العصور الوسطى حيث عانت من حالة لركود علمي ‏وفكري بسبب سيطرة الكنيسة وجمودها الفكري، ولكنها خرجت من هذا السبات مع عصر النهضة الذي أعاد ‏إحياء الفلسفة والعلم والفنون والخروج من طغيان الحكم المطلق.‏
كذلك فإن العالم الإسلامي دخل في عصور انحطاط بعد عصر ذهبي للحضارة الإسلامية، تراجعت الأمم ‏فيه بسبب الفساد السياسي والصراعات الداخلية والحروب الطائفية وما زال حتي الآن من ينادي بالخلافة ‏التي هي في عصرنا نظام أحادي السلطة بلا تداول باسم الله.‏
اليابان عانت من عزلة طويلة وتراجع اقتصادي وفكري، ولكنها نهضت سريعًا من سباتها بعد تبني سياسات ‏إصلاحية في عصر الميجي ‏‎(1868).‎
السبات الحضاري ليس قدرًا محتومًا؛ بل هو مرحلة يمكن تجاوزها بالوعي والإرادة والعمل الجاد. ‏
يبدأ الاستيقاظ من السبات بفهم عميق للأسباب، وتحديد نقاط الضعف، ثم استنهاض الطاقات الفردية والجماعية ‏لبناء مستقبل جديد. كل أمة تمتلك مقومات النهضة إذا تمكنت من التخلص من غفلتها، وأدركت أن التغيير يبدأ ‏من الداخل قبل أن يُفرض من الخارج.‏
إنني أري مصر مؤهلة وقادرة بشبابها وعظمتها وتاريخها وحاضرها أن تقود نوبة صحيان لكل الشرق الأوسط، ‏بل وأفريقيا، فلا يجب أن نستهين بقدرات أطفالنا وشبابنا، فلنمهد لهم الطريق ولا نقف عقبة أمام إبداعهم بكبت ‏حرياتهم. الحرية والعدالة في إطار قانون غير انتقائي هي السبيل. ‏

التعليقات

التعليقات