الجمعة , 29 نوفمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الفلسفة وراء الأفعال.. بقلم د بدراوي

الفلسفة وراء الأفعال.. بقلم د بدراوي

فكرت كثيرا فى غياب الفلسفة أحيانا وراء القرارات والأفعال. وكنا فى نقاش حول هذا الأمر مع شباب الحالمين بالغد، فقال لى واحد من الشباب: ماذا تقصد بالفلسفة وراء الفعل، أعطنا أمثلة؟.
قالت الشابة الذكية: فلتبدأ بقضاياك المزمنة فى التعليم والصحة؟.
قلت: فلسفة التعليم أنه حق من حقوق المواطن، فإذا قامت الدولة بفرض رسوم لدخول المدارس العامة أو أنشأت جامعات بمنطق القطاع الخاص بهدف استرجاع الاستثمار المادى، فهى تخرق فلسفة دورها فى التعليم بكل المقاييس.
وأذكر أنه عندما فرضت بريطانيا رسوماً إضافية فوق موازنة الدولة المخصصة لكل طالب فى الجامعات، أنشأت معها نظاماً لتمويل الطلاب لا يسدده الخريج إلا بعد تخرجه وعمله وحصوله على دخل يسمح بسداد القرض بدون أن يؤثر على حياته. أنا أذكركم أن جميع المواطنين فى أوروبا يحصلون على حق التعلم على نفقة المجتمع ككل الذى تمثله الحكومات. ولا يمكن سلب المواطنين هذا الحق لأن هناك فلسفة وراء حق الجميع فى التعلم.
مثال آخر هو فلسفة رفع مستوى المعلم، التى تقول «إن مستوى التعليم فى أى أمة لا يرتفع فوق مستوى معلميها».
إذن ترتبط فلسفة التعليم بالعمل على رفع مستوى وقدر المعلمين وإلا أصبحنا خارجين عن مفهوم فلسفة التعليم.
قال صاحب السؤال الأول: إعطنا مثلا آخر.
قلت: مثلا فلسفة وجود النيابة فى نظام العدالة هى حماية الشعب، وكيل النيابة فلسفياً هو محامى جموع الشعب.
فإذا جاءت الإحصاءات تقول إن عدد قضايا البراءة فى المحاكم أصبح أكثر من قضايا إثبات الاتهام، وأنا لا أعرف إن كان ذلك صحيحا أم لا، لكنى أضرب مثالاً، فإن محامى الشعب يتحول إلى جلاده لأن فلسفة وجوده قد اختلت.
إذن للاحتفاظ بالفلسفة وراء الفعل لابد من وجود إحصاءات وتحليل حتى لا تخرج الوظيفة عن فلسفة وجودها.
نفس الشىء ينطبق على فلسفة أن المتهم برىء إلى أن تثبت إدانته، فإذا وضعنا كل من نشك فيه وراء القضبان سواء بالحبس الاحتياطى، أو بوضع المتهم فى قفص أثناء محاكمته فإننا خرجنا عن فلسفة العدالة الناجزة.
قال شاب آخر: أنا لم أفكر فى الموضوع من هذا المدخل من قبل. نورتنى يا دكتور، وماذا أيضا؟.
قلت: فلسفة إنشاء الطرق السريعة مثلا هى تيسير حركة المرور، وسرعة الوصول الى الهدف، وأن اتساع الطريق يقاس بأضيق نقطة فيه.
فإذا أنفقنا الأموال وأنشأنا الطرق ثم لم نخطط الطريق أو نضع علامات الإرشاد كما هو معروف فى كل العالم، أو إذا لم ننشئ مع الطريق مخارجه بسعة تسمح بتيسير الحركة فنحن لا نتبع فلسفة وجوده أساسا ويصبح إنفاق الدولة بلا عائد متكامل.
نفس الشىء ينطبق على حالة إغلاق حركة المرور أمام مئات السيارات فى ساعات الذروة للتحقق من رخص السيارات مثلا أو مجرد النظر داخل السيارة من رجال الأمن لاكتشاف مخالف واحد أمام تعطيل مائة عدم مخالف ورائه. الفلسفة تقول إن حق التسعة وتسعين وتيسير حياتهم أفضل من تعطيل الجميع من أجل اكتشاف مخالف واحد.
قالت شابة ذكية: وما هى فلسفة الديمقراطية وهل نحترمها؟.
قلت: فلسفة الديمقراطية هى الشورى والحرية وتداول السلطة فى إطار قانون يتفق عليه الجميع.
فإذا خالفت الحكومات هذه الفلسفة فقد خرجت عن الطريق الصحيح.
ولقد تغيرت فلسفة الديمقراطية عبر الزمن ومرت بمراحل حتى وصلت للتعريفات الحديثة المرتبطة بالحقوق الكونية للإنسان.
إننا إذا رجعنا إلى تاريخ الثورات الاجتماعية أو السياسية، لا نستطيع أن نرى حركة يصدق عليها أنها حركة «حقوق إنسانية» بمعنى من معانى هذه العبارة وفلسفتها كما نفهمها فى العصر الحاضر. حركات الديمقراطية فى اليونان، فُسر فيها استخدام كلمة ديمقراطية على أنها من حركات الشعوب والحقوق الإنسانية، لكنها لم تكن كذلك حتى فى دلالتها اللفظية. فكما يقول الأستاذ العقاد: «إن النظام الديمقراطى فى اليونان كان يطلق على الحكومة التى تشترك القبائل فى انتخابها، ولم يكن اشتراكها فى الانتخاب اعترافا بحق إنسانى يتساوى فيه آحاد الناس، وإنما كان اعترافا بالقبيلة واتقاءً لمعارضتها العمل فى الجيش.
هذه كانت فلسفة زمنها، وقد توالت على اليونان والرومان أنواع من الحكومات الديمقراطية لم يكن لها من مبدأ تقوم عليه غير أنه خطط عملية لدرء الفتنة واستجلاب الولاء من المجندين للجيش والأسطول من أبناء القبائل وأصحاب الصناعات. وسوف نعتبر ذلك الجيل الأول من الديمقراطية.
أما الحقوق الإنسانية والانتخابية التى نشأت فى الديمقراطية الغربية فى أواسط القرن العشرين، فقد تدرجت فى التعميم على حسب الحاجة إلى الناخبين، فنالها العمال فى البلاد الصناعية قبل أن ينالها الزراع، ونالتها المرأة بعد أن أصبحت عاملة فى المصانع تنوب عن الجنود فى الحرب، ونالها الملونون فى الولايات المتحدة بعد اضطرار الدولة إلى خدماتهم فى المجتمع وفى الجيوش على التدريج فى الحربين العالميتين، ونالتها الشعوب المختلفة نتيجة للضغوط المتبادلة والصراعات بين الطبقات للوصول إلى صيغة سياسية معينة يرتضيها كل الأطراف. وسوف نعتبر ذلك الجيل الثانى من الديمقراطية.
أما الحقوق الإنسانية المعترف بها من ناحية المبدأ وليست خططًا عملية يوجبها تكافؤ القوى بين الطوائف وجماهير الناخبين، فتمثلها ديمقراطية إنسانية لا يمكن تصورها دون عناصر المساواة، والمسؤولية الفردية، وقيام الحكم على الشورى وعلى دساتير معلومة من الحدود والتبعات.. وهى العناصر التى ننادى بها كمبادئ عامة وليست اضطرارا لواقع انتخابى أو خدمة فى الجيوش، لكنها تمثل إيمانا حقيقيا بكيفية العدالة فى الحكم اعترافا بحقوق المواطنين، بغض النظر عن مستواهم التعليمى أو موقعهم الاجتماعى، وهذا هو الجيل الثالث من الديمقراطية.
لكننا نلاحظ ونحن ننظر إلى الديمقراطية الغربية من الجيل الثالث، وما يطبق منها فى دول العالم، خاصة الدول النامية، نجد كثيرا من التناقضات بين الفلسفة والواقع، وتَجَبْر السلطات الممنوحة للحكومات، وأحيانا الظلم الاجتماعى لطبقات من الشعوب التى لا تستطيع بمقومات معارفها وقدراتها أن تحصل على تكافؤ حقيقى للفرص المتاحة كما ندعى ونقول، فالأكثر تعليما، والأكثر ثراءً، والأكثر انفتاحا على العالم، يحصل على الفرصة، وتزداد الفجوة بين المواطنين تدريجيا وتضيع فى كثير من الأحيان فرص التنمية الإنسانية التى نبتغيها من الحكم الرشيد.
ديمقراطية الجيل الثالث نجحت فى أوروبا وأمريكا الشمالية، و تعانى الآن، لكنها فشلت فى تطبيقها فى الدول النامية والفقيرة.
السؤال هو:
ما هى معضلة تطبيق قواعد الحرية السياسية وتحقيق الديمقراطية فى مصر؟.
والإجابة أنه لابد من جيل رابع للديمقراطية لحل المعضلة والنظر إلى فلسفة الديمقراطية بشكل جديد وأعمق.
قال الشاب: زيدنا علماً أخذاً بواقعنا!
قلت: إن النموذج الديمقراطى حتى فى تطبيقه الحالى فى الغرب هو محل مراجعة نتيجة ثورة المعلومات والاتصالات التى كسرت الحواجز بين المواطن وصانع القرار، وأتاحت فرصة للتواصل المباشر بينهما ربما دون حاجة لوسيط مثل الأحزاب، بل فقدت الأحزاب أهميتها كأداة للتنظيم وتعبئة الناخبين وجمع التبرعات بسبب إمكانية قيام المرشح بهذه الأمور بشكل مباشر عبر الإنترنت. كذلك هناك تراجع فى أهمية الأيديولوجية كإطار لتجميع المواطنين فى عمل سياسى أو حزبى. وربما يكون الاهتمام الأكبر للمواطن الآن يتركز على فاعلية الحكم effectiveness أى قدر الإنجاز والاستجابة لمطالب المواطن بغض النظر عن الفكرة الأيديولوجية التى يتبناها النظام.
ولكن من ناحية أخرى، فإن تحقيق أكبر فاعلية للحكم ترتبط بوصول الأكفأ لمقاعد الحكم من خلال نظام يتيح ذلك، ويرتبط أيضا بأهمية وجود نظام الرقابة والمساءلة على صانع القرار، وتحديد فترات للحكم لضمان التجديد فى الفكر وحيوية الأداء. باختصار نرى أن الجيل الجديد للديمقراطية يجب أن يركز على العناصر التالية:
– فاعلية الحكم.
– كفاءة الحكام.
– الرقابة والمساءلة المستقلة عن السلطة التنفيذية.
– نظام عدالة مستقل وفعال (الثورة الحقيقية يجب أن تحدث هنا فى هذا المجال).
– نظام تعليم وثقافة يتيح للمواطنين فرصة اختيار الأفضل.
إننا نبحث عن مبادرة جديدة للحكم، بالاتفاق بين ما نحلم به من دولة مدنية حديثة وبين القوة الحقيقية على أرض الواقع، مبادرة لا تحرم البلاد من إمكاناتها الإنسانية ولا من مؤسساتها الفاعلة الوطنية، مبادرة تعطى للحرية مكانها واحترامها بضبط العدالة الناجزة التى لا تسمح للحرية بالتحول إلى فوضى، ولا بالتلاعب الانتقائى للقانون. مبادرة تسمح لعموم الشعب بالاختيار الحر، وحسن الاختيار لممثليه فى البرلمان. هذه هى الفلسفة وراء الكلمة، ولابد أن يتوافق الفعل معها.

التعليقات

التعليقات