الأربعاء , 23 أبريل 2025
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / ثقافة الضجيج.. صوتٌ يعلو ومعنى يضيع بقلم د. حسام بدراوي

ثقافة الضجيج.. صوتٌ يعلو ومعنى يضيع بقلم د. حسام بدراوي

ثقافة الضجيج.. صوتٌ يعلو ومعنى يضيع
بقلم حسام بدراوي
حين ينطق الإنسان حرفًا واحدًا، فلا معنى يظهر، ولكن ما إن يلتقى هذا الحرف مع آخر، تبدأ اللغة فى الظهور، وتُولد المعانى، وتُبنى الحضارة. فمن أين بدأت اللغة؟ وكيف تحول الهواء الخارج من رئتينا إلى كلمات تهزّ القلوب وتشعل الثورات وتبنى الحضارات؟
اللغة ليست مجرد أصوات عشوائية، بل هى حصيلة آلاف السنين من التطور البيولوجى، النفسى، والاجتماعى. يقال إن الإنسان الأول بدأ بإصدار أصوات غريزية: صرخة ألم، زفرة دهشة، همسة خوف.. ثم بدأت هذه الأصوات تكتسب اتفاقًا ضمنيًا بين الأفراد— «إذا قلت هذا، فأنا أقصد ذلك»— وبهذه الاتفاقات، بدأت اللغة تتشكّل.
إن أدوات النطق تشكل سيمفونية الجسد، فالشفاه تُشكّل الحروف الانفجارية والهوائية كـ(ب، ف، م) واللسان
يرسم التفاصيل بدقة، ويُنتج حروفًا مثل (ل، ر، ن، ك)، أما الحنجرة
والحبال الصوتية فتُولِّد الصوت الخام، والنغمة، والحدة.
تجاويف الجمجمة تُضفى على الصوت أبعاده الجمالية، فتُضخِّمه وتُنغّمه.
كل مرة نتكلم فيها، نحن فى الحقيقة نعزف سيمفونية كاملة باستخدام اجزاء من جسدنا.. دون أن ننتبه، فاللغة ليست صوتًا فقط.. بل وعيٌ فى ثوب نغمة.
ما يجعل اللغة إنسانية بحق، هو أنها ليست فقط وسيلة تواصل، بل وعاءٌ للمشاعر، والتجربة، والذاكرة.
كلمة «حب» مثلًا تتكون من حرفين، لكنها تحمل من المعانى أكثر مما قد تحمل العديد من الكتب. اللغة تُحمِّل الصوت بالمعنى، وتحوّل الهواء إلى فكرة، والنَفَس إلى فلسفة.
صندوق الجمجمة ليس فقط لحماية المخ، بل أيضًا لصنع الصوت المُعبِّر. صندوق الجمجمة هو ما يجعل لصوتك نغمة تميزك عن غيرك، وهو ما يجعل نفس الحرف حين يُنطق منك يبدو مختلفًا حين ينطقه غيرك. هكذا تُصبح اللغة أداة فردية وجماعية فى آنٍ واحد.
كل كلمة نقولها هى نتيجة رحلة طويلة من التطور، والتجربة، والخيال، من الحرف إلى المعنى.. ومن الصوت إلى الحضارة.
الصوت.. لغة خفية تسكن النبرة، فالصوت ليس مجرد موجة هوائية تعبر من الحنجرة إلى الخارج، بل هو انعكاس داخلى لما نشعر به، ونؤمن به، ونقصده. الكلمة قد تكون واحدة، لكن معناها يتشكل من نبرة الصوت، وطريقة خروجها، ولغة الجسد التى ترافقها.
ما الذى يجعل صوتًا ما جميلاً؟ ولماذا يفهم الناس نفس الكلمة بطرق مختلفة تمامًا؟
الذى يجعل الصوت جميلًا هو نغمته المتوسطة. (Pitch)فى التردد المريحة للأذن، بينما العالية أو المنخفضة جدًا قد تسبب توترًا، كذلك رنينه (resonance) فى استخدام تجاويف الجمجمة والصدر بشكل ذكى حتى تملك عمقًا وجاذبية.
إن الصوت غير المتوتر، الواضح والمتوازن، يَسحر المُستمع، كذلك التنفس المنضبط الذى يجعل الصوت متزنًا وجذابًا.
إن تغيّر النبرة يغير معنى الكلمة، فالكلمة لا تعيش وحدها، بل تُولد فى رحم النبرة، وتلبس ثوب الوجه، وتسير على إيقاع الجسد مثل كلمة «حاضر»
– بنبرة ذليلة تعنى الطاعة، بنبرة ناعمة تعنى المحبة بنبرة مرحة تعنى الدلال وبنبرة حازمة تعنى الجدية.
إذن الكلمة هى الهيكل، لكن المعنى يسكن فى النبرة.
جمال الصوت هو مفهوم يجمع بين الخصائص الفيزيائية والنفسية والتعبيرية للصوت البشرى، ويعبّر عن قدرة الصوت على إحداث أثر عاطفى أو جمالى فى المتلقى بالصفاء والتوازن والمرونة فى الانتقال بين المقامات.
الجمال فى الالقاء وتعبيرات الوجه والجسد والإحساس مع الموسيقى يجعل من هذا مطرب ومن ذاك زعيم ويجتمع الناس بدون اتفاق على استجابة الأذن للأصوات.
الصوت ليس فقط أداة للكلام، بل هو وسيلة للتأثير، وأحيانًا.. للشفاء.
فى كل صوت نبرة خفية قد تقول أكثر مما تقوله الكلمات فاحرص على نبرتك، لأنها تسكن فى ذاكرة من يسمعك واحرص على كلماتك وصوتك ونغمتك، لأنها ليست مجرد صوت.. بل هى أنت وثقافتك.
مكبرات الصوت «الميكروفونات» قد تغير فى كل ما ذكرته لذلك فإن التعامل مع الصوت بآليات التعلية فن وله دراسات وليس مجرد تكبير له.
والسؤال الذى يدور فى ذهنى هو هل عندما يعلو الصوت يقوى المعنى؟
كثيرًا ما أجلس فى هدوء بيتى أو أتمشى فى الشارع، فتصطدم أذنى بأصوات متداخلة قادمة من خناقات البشر ومن مساجد متقاربة، يتبارى كل منها فى رفع الصوت، حتى يتعذر تمييز الكلمات، ناهيك عن فهم المعنى أو الإحساس بالخشوع.
وأتساءل: متى تحوّل نداء الإيمان إلى تنافس فى تعلية الصوت؟ وهل صار إبلاغ الرسالة مرتبطًا بالضجيج؟
هذه الملاحظة اليومية، البسيطة فى ظاهرها، دفعتنى إلى تأمل أعمق فى علاقة الصوت بالحقيقة، وفى ثقافتنا التى تميل إلى الصراخ بدلًا من الحوار، وإلى فرض الرأى لا عرضه.
فى شوارع مصر القديمة والحديثة، وفى الأحياء الفقيرة والراقية، تَعلو الأصوات من مكبرات الأفراح وميكروفونات المساجد، تتداخل خطب الجمعة، ويصطدم صوت الأذان من مسجدٍ بآخر فى لحظةٍ واحدة وبدلًا من أن تكون الدعوة للخشوع والسكينة، تصبح الأصوات العالية مصدرًا للتوتر والانزعاج.
بعد التعود يصبح الضجيج دليل وهو غير ذلك.
هذه ليست ظاهرة دينية فقط، بل ثقافية أيضًا. فكثيرًا ما نجد فى النقاشات العامة، وفى الجدل بين الأصدقاء أو السياسيين، وحتى فى الأفلام والمسلسلات، من يرفع صوته ليبدو وكأنه بذلك يحسم الجدال لصالحه لكن، لماذا نصرخ حين نختلف؟ وهل للصوت العالى علاقة بالقوة أو الإقناع؟
علم النفس الاجتماعى يوضح أن رفع الصوت فى الحوار لا يدل على قوة الحجة، بل أحيانًا على ضعفها. فالصراخ يكون وسيلة تعويضية حين يعجز الإنسان عن الإقناع بالحجة والمنطق. كأنما يقول: لن أقنعك بعقلى، فدعنى أفرض عليك صوتى.
والأكثر غرابة، أن البعض يربط بين تدين الإنسان وقدرته على إسماع الآخرين، غصبا عنهم، لا بالحكمة، بل بشدة الصوت وكأن الرسالة الربانية، التى جوهرها الكلمة والمعنى والرحمة، تحتاج إلى صدى وصراخ لتحقيق هدفها.
الصراخ ليس دليلًا على الصواب، بل أحيانًا يكون قناعًا يخفى ضعف الحجة، أو وسيلة لفرض الذات حين يعجز الفكر عن الوصول إلى الآخر.
فى ثقافتنا، من يصرخ يظن أنه الأقوى، ومن يملك الميكروفون يظن أنه الأحق. لكن الحقيقة أن الصوت العالى يُرعب، لا يُقنع، يُرهق، لا يُضىء.
هل فقدنا ثقافة الهمس والتأمل؟
الرسالات السماوية، فى جوهرها، جاءت هادئة، متأملة، خاشعة. لم يرفع النبى محمد صوته فى خطابه، بل كان يُسمع من بعيد لحكمة منطقه لا لعُلو صوته.
الصوت ليس فقط وسيلة لنقل المعنى، بل هو أيضًا حامل للإحساس. فحين يصبح الصوت صراخًا، يضيع الإحساس، ويهرب المعنى.
بين الخطاب الدينى والحوار الإنسانى
إن السلوك السوى تنفيذًا للتوجيه الآمر فى القرآن الكريم (واخفض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) والسنة النبوية المؤكدة تلزمنا بالصمت التام فى المساجد أثناء الخطبة، حتى إنه لا يجوز رد السلام، ولا يجوز أن تقول لجارك «اصمت» شفاهة بل تكتفى بالإشارة وهو الأمر المخالف تمامًا لما نراه ونسمعه فى ميكروفونات جوامعنا وفى حواراتنا.
علو الصوت فى خطب الجمعة قد يجعل المستمعين يستاؤون أو يغلقون النوافذ، أما الهدوء المقنع فى الطرح، فهو ما يفتح القلوب قبل العقول. بل إن ثقافة القطيع تجعل من يقول ما أقول فى هذا المقال عرضة للهجوم والنقد وكأنه يمس جوهر الدين.
الحوار الحقيقى يحتاج إلى عقلٍ مفتوح، وقلبٍ حاضر، وصوتٍ واثق، لا عالٍ.
إن قوة الكلمة ليست فى علوّها، بل فى صدقها، واتزانها، وتوقيتها.
دعوة لإعادة النظر
ربما آن الأوان أن نراجع علاقتنا بالصوت فى فضائنا العام وأن نُعيد للمساجد خشوعها، وللحوار احترامه، وللمعنى عمقه، بعيدًا عن ضوضاءٍ لا تُقنع ولا تُهذب.
الصوت العالى لا يُعلى الحقيقة، بل غالبًا ما يُغطى عليها فليست القضية فى قوة الحبال الصوتية، بل فى وضوح الرؤية، وليس الصراخ طريقًا إلى القلب، بل الصدق، والاتزان، والإصغاء العميق.
فى مجتمعات ارتفعت فيها الأصوات، وانخفضت فيها القدرة على الإصغاء، تصبح الحاجة ماسة إلى استعادة فنّ الحديث، وفنّ الصمت، وفنّ الوصول إلى الآخر دون أن نُرعبه بأصواتنا.
دعوتى للسكينة، لا لإطفاء الصوت، بل لإضفاء المعنى عليه.
لعلنا نحتاج إلى ثورة فى الوعى السمعى، نستبدل فيها الميكروفون المزعج بالصوت الواعى، والصراخ بالبيان، والضوضاء بالفهم.
الصوت العالى لا يُعلى الحقيقة، بل يُخفيها تحت أنقاض الصخب، أما الصوت العاقل، فله قدرة سحرية على الوصول، لا بالضغط، بل بالصدق والبينة والمرجعية والعقل.

التعليقات

التعليقات

عن د. حسام بدراوي

د. حسام بدراوي
عن دكتور حسام سياسي ومفكر وطبيب بارز فهو رئيس قسم أمراض النساء والتوليد الأسبق في كلية الطب جامعة القاهرة، تلقي الدراسات العليا أعوام 1979 إلى 1981 في الولايات المتحدة الأمريكية، انتخب عضو في البرلمان المصري ورئيساً للجنة التعليم والبحث العلمي في بالبرلمان منذ عام 2000 حتى 2005، السياسي حسام بدراوي عرف بمواقفه المستقلة ومن القلائل الذين اتفق على نزاهته الجميع من كافة التيارات السياسية، ففي عصر الرئيس الأسبق مبارك كان يلقب بالعاقل داخل صفوف الحزب الوطني، حيث كانت نداءاته وطلباته السياسية تتفق بقدر كبير مع النداءات الداعية للانفتاح السياسي والديمقراطي في مصر، فكان ضد تمديد حالة الطواري، واعترض على انفراد الحزب الوطني بالتعديلات الدستورية، خلال ثورة 25 يناير 2011 ، لعب دوراً سياسياً هاما، حيث عبر منذ اللحظة الأولى على حق المتظاهرين في مطالبهم، ودعا الحكومة إلى الاستماع والاستجابة لهم، ما جعل مبارك مع تصاعد الاحداث لما له من شعبية بتعيينه أمينا عاما للحزب خلفا لأعضاء هيئة المكتب وخلال تلك الفترة عبر عن رأيه السياسي لمبارك بضرورة التنحي، وهو ما دفعه للاستقالة من الحزب بعد 5 أيام من تعيينه يوم 10 فبراير معلنا اختلافه السياسي مع القيادة السياسية في طريقة التعامل مع المتظاهرين ومطالبهم في حكم الإخوان فظلت مواقفه واضحة منذ اللحظة الأولى برفضه الدولة الدينية التي اعتبرها تريد تلويين الشعب بلون واحد، واعتبر قرار الرئيس المعزول مرسي بعودة مجلس الشعب ترسيخ للديكتاتورية المؤيدة من الولايات المتحدة، وكان من أوائل المنددين بتوغل سلطة مرسي على سلطة القضاء، مستنكرا محاصرة المحكمة الدستورية العليا من قبل مليشيات الإخوان أيد د حسام بدراوي حركة تمرد مع بدايتها، وأعلن أن إسقاط حكم الإخوان أصبح ضرورة ومخاطرة لابد منها قبل أشهر من ثورة 30 يونيو، مؤكدا أن الجيش سيقف بجانب الشرعية المستمدة من الشعب.. في ٢٠١٦ تم اختياره رئيسا للجنة الاستشارية لمشروع التعليم أولا ورئيسا للجنة وضع رؤية مصر ٢٠٣٠ في التعليم وفي ٢٠٢٢ تم اختياره مستشارا للحوار الوطني لرؤية مصر ٢٠٣٠