حوار الأربعاء 9/8/2023
(حوار اسبوعي مع د. حسام بدراوي)
الفرصة للإنقاذ
بين سكون النصف ،و التأرجح ، و التطرف
بقلم حسام بدراوي
للنصف فلسفة ، و للتأرجح فلسفة وللتطرف فلسفة..ولن نستطيع أن نفهم ما يجري حولنا من أحداث بدون تفسير مصدر الفعل أساساً في أسلوب حكم البلاد.
سأبدأ بفلسفة التطرف ومفهومها. المتطرف كفرد هو كل من يظن أن الصواب من وجهة نظره مطلق، وأن ما يعتقده هو الصحيح الأوحد ، ويصبح متسلطاً إذا أقصى كل من له رأى مختلف، ويصبح مجرماً إذا قتل كل من يختلف معه، ويصبح إرهابياً إذا قتل كل الناس الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم ليوصل رسالته ويفرض طريقته ويمنع وجود غيره.
أما في نظم الحكم المتطرفة فإنها تحول المؤيد إلى خادم، والمعارض إلى خائن، والمختلف في الرأي أو الأسلوب إلى عميل. الحكم المتطرف لا يفهم أن اللوحة بلون واحد لا قيمة لها و أن اختلاف الألوان والشخوص والرؤى هو ما يجعل لها وزنًا ويسمح بالتطور .
فلسفة النصف الثابت عبر عنها جبران خليل جبران قائلاً:
لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين،لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت،لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل.
إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها،وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً .
نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة، النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان.
أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياه.”
وبمراجعة ما قال جبران ،أتسائل هنا برؤية إجتماعية وسياسية ، هل نحن مستعدون للاختيار ؟، وهل نحن مستعدون للحسم السياسى الذى يخدم الاقتصاد ويغير شكل مستقبل البلاد سياسياً و إجتماعياً وثقافياً؟ أم نريد نصف انفتاح ونصف انغلاق..!!!
هل نريد قطاعاً خاصاً قوياً خالقاً لفرص العمل ، أم نريد قطاعاً عاماً أو عسكرياً تتحكم فيه الدولة و أجهزتها، أم النصف من ذلك والنصف من هذا إنتقائيا.
نحن في النصف نريد ولا نريد.. وللأسف يتغير ما نريده حسب الأحداث كردود فعل وليس كمبادرات وليس ايمانا بفلسفة. إنه نصف عشوائي.
هل نحن دولة مدنية أم دولة دينية،لأن كل ما يحدث أمامي يقول أننا في النصف فلا نحن دولة دينية بمعناها الكامل ولا نحن دولة مدنية بمعناها الكامل، فنحن لا نمنع تدخل الدين ورجاله في السياسة بوضوح ،بل يستخدم نظام الحكم مصطلحاتهم وجملهم أحياناً لتأكيد أن السلطة المحاسبية هي فقط من عند الله وليست من المجتمع .
نحن في النصف نحصل علي تحكم الدين في السياسة بدون إعلان ذلك ، وننادي بالمواطنة وأفعالنا فيها تمييز سخيف بين المواطنين المختلفين في الدين والجنس ولا نقبل من يتجرأ أن يقول غير ذلك. نحن في النصف .
هل نحن دولة عسكرية أمنية أم دولة مدنية حديثة كما يقول الدستور!؟
نحن في النصف.
كلامنا يقول مدنية وحقيقة أفعالنا دولة أمنية عسكرية بلا مواربة.
ومن يقف في النصف لا يصل الي أي خط نهايه ولا يحقق حياة ، فدعونا نحدد أهدافنا ونسير اليها ولا نتوقف في النصف.
الجهد الحقيقي الآن ليس فقط في قرار الوقوف في نقطه بهدف الاستقرار نظنها النصف بل أيضا التوقف عن التأرجح على جانبي نقطة المنتصف بعنف ، فلا نصل حتي لفلسفة النصف الساكن، التي لها أحياناً فوائد.
فكرت كثيرا في كل ذلك وفي غياب الفلسفة وراء القرارات والأفعال في إدارة البلاد ، لأنه بدون وجود فلسفة يحدث تخبط وقد تتعارض الأفعال بين حكومة والتالية لها .
مثلا فلسفة العدالة تستلزم وجود النيابة التي تقوم بالتحقيق قبل توجيه التهم الي المواطن وإلا أصبح جهاز الأمن مسيطراً علي أقدار الناس. النيابة هي جهاز يجب أن يكون محايداً وليس تحت وصاية السلطة التنفيذية ، وذلك لحماية الشعب ، وكيل النيابة فلسفياً هو محامي جموع الشعب.
نفس الشئ ينطبق علي فلسفة أن المتهم برئ الي أن تثبت إدانته ، فاذا وضعنا كل من نشك فيه وراء القضبان سواء بالحبس الاحتياطي المغالي فيه لشهور و قد تمتد الي سنوات ، أو بمعاملة المتهم كمجرم إلي أن تثبت برائته أو بوضع المتهم في قفص أثناء محاكمته فإننا خرجنا عن فلسفة العدالة الناجزة.
أما في قضايا التنمية ، وسآخذ التعليم كمثال ، فإن فلسفته أنه حق من حقوق المواطن ، وأولوية لا تقبل المناقشة ، فإذا قامت الدولة بفرض رسوم لدخول المدارس العامة أو قدمت الحق بلا كفاءة فيلجأ الشعب للإنفاق من موارده للحصول علي التعليم خارج نظام التعليم الرسمي المؤسسي فيتم التفرقة بين القادر وغير القادر ويزول تدريجياً مبدأ تكافؤ الفرص ، أو في التعليم العالي ، تقوم الدولة بإنشاء الجامعات الحكومية التي تستوعب أغلبية المواطنين بمصاريف تتعدي قدراتهم وبدون خلق نظام تمويل للطلاب فإنها تخرق فلسفة التعليم بكل المقاييس.
والآن نأتي الي فلسفة الديمقراطية وهل نحترمها؟!!
فلسفة الديمقراطية هي الشوري والحرية والمحاسبية وتداول السلطة في إطار قانون يتفق عليه الجميع.
فاذا خالفت الحكومات هذة الفلسفة فقد خرجت عن الطريق الصحيح .
الديمقراطية نجحت فى أوروبا وأمريكا الشمالية ولكنها فشلت فى تطبيقها فى الدول النامية والفقيرة.
السؤال هو:
ما هي معضلة تطبيق قواعد الحرية السياسية وتحقيق الديمقراطية فى هذه الدول ؟
والإجابة أن الفعل لا يتناسب ولا يرتبط بفلسفة ولابد لتحقيق الديمقراطية في الدول الفقيرة وغير المتعلمة و لحل المعضلة النظر الي فلسفة الديمقراطية بشكل أعمق.
فلسفة الحكومات المنتخبة تتلخص في انها خادمة من ينتخبها وليست سيده، فاذا خرجت تصريحات المسئولين فيها تلوم الشعب علي ما فيه البلاد من تراجع وتظهر كأنها تمن عليه بالمشاريع التي تخدم النمو وكأنها هبة منها وليست حقوقة فلابد ان هناك غيابا لفلسفة الحكم الرشيد.
بعض تصرفات الحكومة لمواجهة تحدي مثل انخفاض قيمة العملة والاحتياج للدولار هو علاج للعرض وليس المرض ويظهر فيه الكثير من عدم الكفاءة والتناقض وكأننا نعطي دواءا وعكسه لعلاج العرض وليس حتي المرض.
الرغبة في جمع الدولارات في اللقطة الحالية جعلت الحكومة تتطرف في التيسير بعدما كانت متطرفة في المنع ، فمنعت القطاع الخاص من استيراد متطلبات الانتاج بأمواله الدولارية الخاصه به ولكنها وبدون سؤال عن المصدر تسمح بايداعها بوعود ربحية مستحيلة في خزينة الدولة وبنوكها المملوكة لها.
اليس هذا بالضبط هو غسيل الأموال وتعريفة. يتمثل تعريف غسل الأموال في إخفاء أو تمويه مصدر العائدات التي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، بحيث يبدو أنها تأتت من مصادر مشروعة. وغالبا ما يكون واحدا من مكونات جرائم خطيرة أخرى مثل الاتجار بالمخدرات أو النهب أو الابتزاز. وظاهرة غسل الأموال منتشرة في كل مكان وموجودة في مجالات لا تخطر على البال، وتقاومها مصر بعنف عبر السنين بأجهزة متعددة ، فأين هي هذه الأجهزة من تصرف الدولة لعلاج الموقف الإقتصادي..
أي اننا نوقف عجلة التنمية ونسمح بغسيل الأموال لعلاج اعراض المرض الذي تسببنا فيه ونعاني منه .
اليس ذلك تطرفاً حاداً في التصرف..!
وتأرجحاً لا يخدم استدامة..
فلسفة التأرجح الحاد ، فلسفة هدفها تأجيل المواجهة الحقيقية للتنمية المتباطئة بفعل فاعل كرد فعل لللحظة.
لقد ثبت معاناة الشعوب في ظل أنظمة النصف العشوائي أمام رأي مختلف يتكلم عن فلسفة النصف الواعي في المقابل مُستوحى من رأي للأستاذ العقاد حيث يقول فيه بتصرف مني “أن النصف الحقيقي هو نقطة التوازن في الكون وفي الانسان.أن النصف هو ملتقى جزئين متطابقين و/ أو متكاملين أو متقابلين فيحدث النماء. أن النصف هو التقاء الأفكار المتعارضة فيحدث اتفاق .أن النصف الناعم يتعادل مع النصف الخشن فتحلو الحياة بالامن و بالصفاء.
أن النصف هو رمانة الميزان التي يتحقق بها العدل في القضاء و
أن النصف من الانصاف فتُؤَدي الأمانات و يتم الأداء.
لابد من تلاقي النظم السياسية القبلية و الطائفية بأنواعها و الملكية بانواعها و الجمهورية بأنواعها على أسس مُتفق عليها تتوازن فيها القوي و تلتقي في أسس وسطية فلا نجد دكتاتورية خالصة و لا شيوعية خالصة ولا ملكية خالصة ولا جمهورية خالصة و لا عسكرية خالصة ولا بوليسية خالصة و لا رأسمالية خالصة و لا حتى مدنية خالصة. فهذا ليس من طبيعة الخلق المركبة بل نجد نظماً متوازنة التراكيب لمصلحة الشعوب المتغيرة التراكيب.
لقد ثبت أن النظم الجاهزة لم تعد تصلح للنقل و التركيب و التشغيل. لابد من إيجاد نظم تفصيل على المقاس:”Sure mésure”من تصميم و ابتكار جمعية تأسيسية مستنيرة و مُلمة بظروف و تقاليد و تاريخ و تجارب هذا البلد فتُبدع له نظاماً تعمل فيه كل طوائف المجتمع في تناغم مُنتِج و في استفادة متبادلة.
مثلاً النظام السويسري مُبتدع لظروف سويسرا بالذات و الذي على رُقيه لا يصلح للتطبيق في مصر كما قد لا ترتاح الفلاحة المصرية عند ارتداء آخر صيحات الموضة الباريسية.
. آن الأوان لظهور نظام توافقي بين المدنيه والعسكريه، يصلح للتشغيل و يؤدي للتنمية المستدامة و القدرة على المنافسة الداخليه والعالميه .
مره أخري في كل الأحوال نؤكد أنه بدون تطبيق ناجز للعداله وثوره في جهاز تطبيق القانون ، وبدون تنمية إنسانية من باب التعليم والإعلام والثقافة يصعب تحقيق ما نصبو اليه.
الحرية بدون قانون تصبح فوضي، وحجة الخوف ، من هذه الفوضي دعماً لاستمرار الحكم الأمني العسكري ، أثبت العلم والتاريخ أنها نظم تخدم فئة حاكمة في لقطة من عمر البلاد ، لكنها تقتل موارد الدولة وتنشر الفساد وتمنع التنمية المستدامة في مستقبلها.
الشفافية و المسائلة طريق لا خلاف حوله فعلاً وليس كلاماً
ربما يكون الاهتمام الأكبر للمواطن الان يتركز على فاعلية الحكم effectiveness أى قدر الإنجاز والاستجابة لمطالب المواطن بعض النظر عن الفكرة الأيديولوجية التي يتبناها النظام .
ولكن من ناحية أخري، فإن تحقيق أكبر فاعلية للحكم ترتبط بفلسفة وصول الاكفأ لمقاعد الحكم من خلال نظام يتيح ذلك، ويرتبط أيضا بأهمية وجود نظام الرقابة والمساءلة على صانع القرار، وتحديد فترات للحكم لضمان التجديد فى الفكر وحيوية الأداء. باختصار نرى أن الجيل الجديد للديمقراطية بلا تطرف ولا تأرجح ولا سكون يجب أن يركز على العناصر التالية:
- فاعلية الحكم
- كفاء الحكام
- الرقابة والمساءلة المستقلة عن السلطة التنفيذية.
- نظام عدالة مستقل وفعال (الثورة الحقيقية يجب أن تحدث هنا فى هذا المجال)
- نظام تعليم وثقافة يتيح للمواطنين فرصة اختيار الأفضل.
أمامنا فرصة للإنقاذ فلنأخذها ، و كفاناً فرصاً ضائعة.