الثلاثاء , 3 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / حوار ساخن بين الأجيال (4)

حوار ساخن بين الأجيال (4)

فى المقالات الثلاثة السابقة، حاورنى الشباب والكبار، وتكلمنا حول ٣٥ قيمة من الواجب تضمينها فى حياة الأطفال والشباب فى المؤسسات التعليمية والإعلام والفنون، وناقشنا اتهام الشباب للأجيال الأكبر بتضارب المفاهيم لديهم، خصوصا من أثر تصرفات هذا الجيل المخالفة لمفاهيم القيم التى يدَّعونها.

اخترنا قيم الصدق/ الدقة/ الجمال/ السماحة/ المحبة/ النظافة/ الحرية/ الصبر/ الشجاعة/ الرحمة/ الإيمان/ العلم/ الإحسان/ الشكر/ الاعتذار/ الغفران/ العطاء/ الاحترام/ الرأفة/ الامتنان/ السعادة/ الصداقة/ المسؤولية/ المواطنة/ التواضع/ العدالة/ الإتقان/ البر/ الاستماع/ الاحترام/ التكافل/ النزاهة/ والمشاركة.

وناقشنا الشباب فى قيم الصبر والشجاعة والتضحية والاحترام والطاعة والإيمان، واختلفنا واتفقنا.

وطالبنى البعض بضم بعض هذه القيم معًا، والبعض الآخر برفع بعض القيم من المقترح مثل الإيمان لأنها لا تنتمى إلى مفهوم القيمة، بل هى هبة من الله أو فطرة مخلوقة فى الإنسان.

واتفقنا على رفع قيمة الطاعة من مجموعة القيم، لأن مفهومها يخلق العبيد والسلطان، واتفقنا على أن القصد هو الالتزام بالقانون، وهذا ليس طاعة بل مسؤولية توازن الحرية وتمنع الفوضى.

وطالب البعض بوضع أولويات، لأنه أحيانا قد تضع المواقف الإنسان فى اختيار بين قيمة وأخرى.

قالت الشابة المثقفة الجريئة: أنا أضع الحرية والعدل والمسؤولية فى المقدمة.

وقال زميلها: وأنا أضع بعدها كمجموعة الصدق وأضم النزاهة والأمانة سويًا.

قلت: كلام منطقى، وأزيد عليه أنه أحيانا علينا أن نشرح القيمة بذكر عكسها.. فقيمة الصدق مثلا قد تظهر أكبر وأعلى فى مجتمع يشيع فيه الكذب، ويصبح عقاب الكذب مهمًا جدًا لبيان قيمة الصدق.. لأنه بمرور الزمن وتكرار التعود على الكذب يصبح وكأنه نمط حياة، ويمر أمامنا بلا تعليق وكأن ذلك هو الواقع الذى تقبلناه. لا وألف لا، علينا أن نرفع من قيمة الصدق ونجرّس الكذب أينما كان.

قال ثالث: وأعتقد أننا يجب أن نلازم الدقة والإتقان ببعض.

قلت: وأنا أضع معكم السماحة والرحمة والإحسان والشكر والغفران والرأفة والامتنان والبر والتكافل، فى بوتقة واحدة.

قالت شابة رابعة: ونضع الصداقة والمحبة والعطاء معًا.

تدفق الحوار بين الشباب حول المعانى، وقال واحد منهم: وأنا أضع السعادة والجمال فى المقدمة، فمن لا يعرف معنى السعادة ويبحث عنها لن يجدها كما علمتنا، كلمنا عن قيمة الجمال والسعادة يا دكتور.

قلت: سأركز إجابتى على مدخل الجمال وتأثيره على سعادة الإنسان. إذا فهمتم فلسفة الجمال وتعلمتم كيف تستخرجونه من كل شىء حولكم ستكونون أكثر سعادة وبهجة. وكل إنسان سعيد سيطلق طاقة إيجابية حوله، والطاقة تتحول إلى فعل وإنجاز.

يا أولادى، إن الجمال سمة تتجلى فى كل ما حولنا، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام له مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط.. ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الوجدان، حتى وإن لم يستطع التعبير عنها أحيانا.

إن النفس البشرية الذواقة للجمال هى النفس القادرة على الإبداع والابتكار ورؤية ما هو جميل والبناء عليه.

إن طبيعة الإنسان، دون التحريف الذى نفعله به فى التربية الأسرية أو المناخ التعليمى، أو الإعلامى الذى يركز على السلبيات والأخطاء، تنجذب وحدها إلى كل ما هو جميل. وقد ورد عن رسول الله (ص): «إن الله جميل يحب الجمال»، وقد شاءت قدرة المبدع الخالق سبحانه وتعالى أن يجعل من الجمال- فى شتى صوره- مناط رضا وسعادة لدى الإنسان. إن استساغة الجمال حق مشاع.. حق للجميع لا يحتاج الإنسان فيه أن يكون ذا مركز أو صاحب سطوة أو مال ليتمتع به.

إن القيم الإنسانية التى نتكلم عنها وفلسفة الأخلاق، وعلم المنطق، وفلسفة الجمال، بدرجات متفاوتة من العمق، يجب أن تندرج فى وجدان كل واحد، حسب المرحلة العمرية التى يعيشها.

كن جميلا.. ترى الوجود جميلا، كن سعيدا… ترى الوجود سعيدا، وتعالوا ننشر طاقة إيجابية فى بلادنا، وننظر إلى أجمل ما حولنا، وأجمل من حولنا، فكل شىء فيه جمال. ابحثوا عن الجمال فتأتيكم السعادة، فنِعم الله لا تُعد ولا تُحصى، لنا وحولنا.

لا تنتظر السعادة حتى تبتسم، ابتسم حتى تكون سعيدًا.

لا تنتظر السعادة، إن لم تكن تريدها، وتعرّف على ما يسعدك.

السعادة تأتى لمن يطلبها، فاعرف سرها، واسعَ لها، وكن.. بإرادتك إنسانا سعيدا.

علقت الشابة الأولى قائلة: وماذا عن الصداقة والمحبة؟ فنحن نسمع قصصًا عن تبدّل أخلاق ومبادئ البعض من الناس الذين بينهم صداقة قوية دامت لبعض الوقت ثم انهارت مع أول تحدّ، أو الزيجات التى بدأت بالحب والغرام أو دامت سنوات، وبعدها بدأ البغض والمحاكم والصراع.. فهل هذه القيم نسبية كما يقول صديقك د. أيمن المهندس من نيويورك فى مكالمته لك فى المقال السابق؟

قلت: ملاحظتك مهمة وجريئة، فالشخص الذى كنت بالأمس معجبًا به وبقدراته وحسن تفكيره يتغير اليوم وقد ينقلب عليك تمامًا وتبدأ حالة من الجذب والشد معه وتتحول مشاعر التقدير إلى مشاعر عدائية. نرى هذا حولنا، ويمكن ملاحظة مثل هذا السلوك فى بيئة العمل أو بين الصديقات والأصدقاء، فمرة تشاهدهم فى قمة الانسجام وأحيانًا تراهم على طرفى نقيض، ويحدث ذلك بين الصغار والكبار. إنه سلوك لا يخص فئة محددة من العمر، بل هو عام وشامل فى كل إنسان وفى كل مجتمع. هل هذا لطبيعة فى الإنسان، أم لقصور فى إدراك صفات الأصدقاء والأحباء؟!!، لذا يفاجأ الناس بما فيهم فى لحظة بعينها نتيجة عدم الإدراك وقد لا تكون هناك فى الحقيقة مفاجآت.

يقول الإمام على بن أبى طالب: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون كريهك يومًا ما، واكره عدوك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما».

فهل يعنى ذلك أن قيمتى الصداقة والمحبة ليستا دائمتين؟ الإجابة نعم، وهما قيمتان علينا أن نحافظ عليهما وإلا ضاعتا بين أولويات المصالح.

إن الحب مثلا يجب أن يكون بشكل متوازن، وكذلك العداء يجب أن يكون بغير مبالغة وظلم واعتداء. ففى جميع الأحوال، المطلوب التمهل والصبر والتحمل، فليس الناس دومًا يتحدثون ويفعلون كما نريد ونحب، فهناك اهتمامات مختلفة للبشر، ومصالح قد تتوافق وقد تتعارض أحيانا. وهناك أولويات فى حياة كل إنسان قد لا يعرف أنها أولوياته إلا حين تتعرض للمخاطر حتى من أحب الناس إليه.

الرسالة هنا أنه يجب ألا يكون العداء مطلقًا وحتميًا ودائمًا، بل علينا أن نجعل دومًا طريقًا للعودة والتراجع، وإذا أغلقت بابًا افتح شباكًا. وبالمثل فى مجال المحبة والصداقة، لا تنزف مشاعرك وتستنزفها بشكل عبثى وإنما اجعل خط التوازن ماثلًا وموجودًا بشكل دائم.

قالت الشابة الذكية: الفكرة المعاكسة يا دكتور تقول إن ذلك يأتى من حكمة الخبرة، ومن طول معايشة الناس، ولكنه أيضا يأخذ من فوره الشعور الذى يؤتى أعلى درجات متعته من بعض التطرف فى القرب والمحبة والغرام والغيرة الذى يميز الشباب وصغار السن.

قلت: فعلاً الحكمة تجعل المشاعر المتوازنة طويلة المدى، وتأخذ قليلا من النشوة، وتطرُّف المشاعر يعطى نشوة قد لا تطول، فلا تعيش العمر مع الإنسان.

حتى فى السياسة، فإن القادة الذين حركوا الشعوب وغزوا البلدان كانوا غالبا من متطرفى الفكر والتصور. فأيهما أقرب إلى عقلك ووجدانك؟

قالت بابتسامة: بالعامية «من ده على دا».. وكل عمر وله قواعده يا دكتور.. وعلينا أن نأخذ من حكمتكم، وعليكم أن تتحملونا.

التعليقات

التعليقات