خمسة عشر عاماً من الحكمة والتجديد
بقلم
د. حسام بدراوى
يصادف هذا العام مرور خمسة عشر عاماً على تولى صديقى العزيز، فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، مشيخة الأزهر الشريف، وهى مناسبة تستحق التوقف عندها تأملاً وتقديراً لشخصية استثنائية، جمعت بين العلم العميق، والانفتاح الفكرى، والحكمة التى تلهم الطمأنينة والسكينة لكل من حوله.
الصداقة والعلم: معرفتى بالدكتور أحمد الطيب
قبل أن يتولى الإمام الأكبر مشيخة الأزهر كنت قد عرفته عن قرب، حيث كان رئيساً لجامعة الأزهر وعضواً فاعلاً فى لجنة التعليم التى كنت مسئولاً عنها. منذ لقائنا الأول، لفت نظرى عقله المستنير، واتساع أفق تفكيره، ومرونته فى الحوار، وهى صفات نادرة لرجل يشغل منصباً دينياً رفيعاً فى مؤسسة بحجم الأزهر.
د. أحمد الطيب ليس مجرد عالم فى الفقه الإسلامى، بل هو فيلسوف، متصوف، ومثقف واسع الاطلاع، لا يهاب مناقشة القضايا الشائكة بعمق وتأصيل علمى، بل ويمتلك قدرة استثنائية على استيعاب الاختلاف وإدارته بحكمة.
منذ توليه المشيخة فى مارس 2010، قاد الإمام الأكبر حركة إصلاحية فى الأزهر، ساعياً إلى تعزيز دوره كمؤسسة وسطية تدعو إلى التسامح، والتعايش، ونبذ التعصب والتطرف. وقد كان له أثر واضح فى عدة ملفات جوهرية، منها:
1- إحياء دور الأزهر كمرجعية مستقلة، بعيداً عن التوظيف السياسى، وإعادة هيكلته ليتماشى مع تحديات العصر.
2- تعزيز منهجية الحوار بين الأديان، وهو ما ظهر بوضوح فى وثيقة “الأخوة الإنسانية” التى وقعها مع البابا فرنسيس، والتى مثلت إحدى أهم الخطوات فى التقارب بين الإسلام والمسيحية.
3- مواجهة الفكر المتطرف بحجج علمية وأسس شرعية رصينة، حيث كان ولا يزال صوتاً عقلانياً ضد الغلو والتشدد.
4- تطوير مناهج التعليم الأزهرى لضمان توافقها مع متطلبات العصر، مع الحفاظ على ثوابت الدين الإسلامى.
دور الأزهر فى اللحظات الحاسمة:
بعد ثورة يناير ٢٠١١ وفى وقت ظهرت فيه بوادر الفوضى، دعا الإمام كوكبة من المثقفين المصريين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية مع عدد من كبار العلماء والمفكرين فى الأزهر الشريف، وتدارسوا خلال اجتماعات عدة مقتضيات اللحظة التاريخية الفارقة التى تمر بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وأهميتها فى توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النبيلة وحقوق شعبها فى الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
حددت الوثيقةً التى أُعلنت المبادئ الحاكمة لفهم علاقة الإسلام بالدولة فى المرحلة الدقيقة الراهنة، وذلك فى إطار استراتيجية توافقية، ترسُم شكل الدولة العصرية المنشودة ونظام الحكم فيها، وتدفع بالأمة فى طريق الانطلاق نحو التقدم الحضارى، بما يحقق عملية التحول الديمقراطى ويضمن العدالة الاجتماعية، ويكفل لمصر دخول عصر إنتاج المعرفة والعلم وتوفير الرخاء والسلم، مع الحفاظ على القيم الروحية والإنسانية والتراث الثقافى؛ وذلك حماية للمبادئ الإسلامية التى استقرت فى وعى الأمة وضمير العلماء والمفكرين من التعرض للإغفال والتشويه أو الغلوّ وسوء التفسير، وصوناً لها من استغلال مختلف التيارات المنحرفة التى قد ترفع شعارات دينية طائفية أو أيدلوجية تتنافى مع ثوابت أمتنا ومشتركاتها، وتحيد عن نهج الاعتدال والوسطية، وتُناقِض جوهر الإسلام فى الحرية والعدل والمساواة، وتبعدُ عن سماحة الأديان السماوية كلها.
تكلمت الوثيقة عن تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التى تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامى الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التى تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية فى بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هى المصدر الأساس للتشريع للمسلمين، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية فى قضايا الأحوال الشخصية.
كذلك أقر المجتمعون اعتماد النظام الديمقراطى، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذى هو الصيغةَ العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمى للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلى الشعب، وإدارة شئون الدولة بالقانون – والقانون وحده- وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها.
التزمت الوثيقة بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسئولية فى المجتمع، والاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة فى حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليهما فى التعامل بين فئات الشعب المختلفة، دون أية تفرقة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.
أعلن الإمام فى الوثيقة الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصيلة، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفنى والأدبى فى إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة.
لم ينس الإمام تأكيد اعتبار التعليم والبحث العلمى ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضارى فى مصر، وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا فى هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كلّه لمحو الأمية، واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبرى.
فى عام 2019، شهد العالم توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين شيخ الأزهر د. أحمد الطيب والبابا فرنسيس فى أبوظبى، وهى خطوة غير مسبوقة فى الحوار بين الأديان، حيث جاءت الوثيقة لتعزز قيم:
* السلام العالمى والتعايش المشترك.
* نبذ الكراهية والتطرف باسم الدين.
* حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
ولعل من أبرز ما جاء فى الوثيقة ويمثل وجدان الإمام:
“إن الأديان لم تكن أبداً، ولا يجب أن تكون، سبباً فى الحروب أو الصراعات أو الكراهية، بل عليها وعلى الدوام أن تكون دافعاً لنشر قيم المحبة والتآخى بين البشر، والتأكيد على أهمية تعزيز مفهوم المواطنة الكاملة ونبذ مصطلح الأقليات الذى يحمل فى طياته الإحساس بالتهميش والانتقاص من الحقوق.”
هذه الوثيقة اعتبرتها ليست مجرد اتفاق بين قيادتين دينيتين، بل هى رؤية حضارية تعكس إدراكاً عميقاً بأن التحديات التى يواجهها العالم اليوم؛ من تطرف وعنف وتفرقة، لا يمكن مواجهتها إلا عبر الوحدة والتعاون بين جميع الأديان والثقافات.
من يعرف الإمام الأكبر عن قرب يدرك أن هدوءه الظاهر يخفى صلابة فكرية، وإصراراً على التمسك بالمبادئ، وسعة صدر للحوار.
فى لقاءاتى معه، كنت دائماً أشعر بالطمأنينة والسكينة، فهو رجل لا ينفعل بسهولة، ولا يرفع صوته إلا بالحجة والمنطق.
الإمام لديه قدرة مدهشة على الاستماع بعناية، وإعطاء كل رأى وزنه، دون تعصب أو إقصاء.
إن إيمانه العميق بالعلم والفكر جعله منفتحاً على الفلسفة الحديثة، والنظريات العلمية، والتطورات الفكرية المعاصرة.
ماذا بعد؟
بعد مرور خمسة عشر عاماً على توليه مشيخة الأزهر، لا شك أن الإمام الأكبر ترك بصمة لا تُمحى فى تاريخ المؤسسة، وفى مسيرة الإصلاح الدينى والفكرى فى العالم الإسلامى.
لكن التحديات لا تزال قائمة؛ فمع تزايد خطاب الكراهية، والتفسيرات المغلوطة للدين، والصراعات الفكرية داخل المجتمعات الإسلامية، يبقى دور الأزهر، بقيادة د. أحمد الطيب، أساسياً فى تعزيز الخطاب الدينى الوسطى، ومحاربة التشدد، وترسيخ قيم التعايش السلمى.
كلمة أخيرة
فى عالم يموج بالصراعات والأزمات، وجود شخصية مثل د. أحمد الطيب فى موقع القيادة الدينية ليس مجرد ضرورة، بل هو أمل فى الحفاظ على توازن الفكر الإسلامى.
قد يختلف البعض معه، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أنه صوت للعقل، والحكمة، والاعتدال فى زمن تشتد فيه الحاجة إلى الوسطية والتسامح.
لهذا، أجدنى اليوم، وبعد خمسة عشر عاماً من قيادته للأزهر، أرفع له تحية تقدير واحترام، راجياً له التوفيق فى مهمته التى لا تزال مستمرة.
لا أنسى فى هذا المقام أن أشكر جريدة “صوت الأزهر” ورئيس تحريرها أحمد الصاوى على دعوتى لكتابة مقال فى هذه الذكرى الهامة وعلى شجاعته فى نشر مقالات لى فيها نقد فكرى وفلسفة حول الأديان تخشى من نشرها الصحف اليومية أحياناً.
التحية والتقدير والمحبة والمودة والاحترام والتبجيل للصديق الإمام أحمد الطيب.